مع قرب انتهاء تنظيم داعش الارهابي في المعركة الكبرى لتحرير محافظة نينوى، تدخل الدولة العراقية في مرحلة صعبة للغاية وهي أكثر حرج من مرحلة سيطرة داعش الارهابي على مناطق واسعة في شمال وغرب العراق. واذا كانت مرحلة سيطرة تنحصر استحقاقاتها بالتزامات عسكرية وامنية من جانب الحكومة العراقية لمواجهة داعش وانهاء سيطرته، فإن المرحلة المقبلة تتطلب استحقاقات سياسية تتناسب وطبيعتها. وهذه الاستحقاقات ليس من واجب الحكومة فحسب، بل واجب القوى السياسية المشتركة في ادارة الدولة وخارجها والتي لابد ان تصب باتجاه تبلور رؤية وطنية لمشروع الدولة العراقية ونمط ادارتها في المرحلة المقبلة.

مع هذه البديهية يُلاحظ غياب الوعي السياسي المُدرِكْ لاستحقاقات المرحلة المقبلة لدى جميع القوى السياسية والتي أتضحت من خلال ما طرحه ممثلو تلك القوى في ملتقى الشرق الاوسط الذي عقد في الجامعة الأميركية/السليمانية في تشرين الاول الماضي ومحافل عدة اخرى بعد انطلاق عملية تحرير الموصل. وصار واضحا ضياع وتشتت الطروحات حول تبلور رؤية وطنية ومشروع وطني لبناء الدولة العراقية وتجاوز اخطاء المرحلة السابقة والذي أصبح حاجة حاسمة.

على صعيد آخر، وبعد تصاعد حالة الرفض الشعبي الجماهيري لأداء النظام السياسي الذي تسيطر عليه تلك القوى وما آلت أليه أوضاع ادارة الدولة العراقية وفق منهج المحاصصة الطائفية والحزبية او ما اطلق عليها "التوافقية والمشاركة" من سيطرة الجماعات الارهابية على مايقارب من ثلث مساحة العراق، وسوء الادارة المالية وضياع الاموال العامة، وغياب التنمية الحقيقية الشاملة، واستشراء الفساد الاداري والمالي في أغلب مؤسسات الدولة، والتي تجسدت بخروج المظاهرات الى الشارع منذ 31 تموز 2015 ولغاية الوقت الحاضر. وهذا الامر يدفع القوى السياسية الى التفكير بإنتاج نفسها من جديد لتسوق نفسها الى الجمهور على انها مستوعبة لاستحقاقات المرحلة المقبلة وستكون انعكاس لإرادة الجماهير.

هذه المقدمة ضرورية لبيان طبيعة المرحلة قبل البدء بمناقشة مضمون ما سُمي "التسوية التأريخية او الوطنية". مع العرض انه خلال السنوات السابقة تم الاتفاق على كثير من مشاريع التوافق ومواثيق الشرف وبتسميات مختلفة لكن بدون نتائج تٌذكر على ارض الواقع.

ما تعنيه "التسوية التأريخية"

التسوية لغةً: تسوية مصدرها (سوّى) وتعني حلّ، اتفاق وسط. سعى الى ايجاد تسوية بينه وبين شريكهِ: إيجادُ حلّ، إتفاقٌ لإنهاءِ الخِلافِ.

ويشير مفهوم التسوية الى السعي الى حل الخلافات بين الشركاء بالتراضي، أما سياسيا فهي مصطلح يشير الى السياسة الدبلوماسية التي ترمي الى تجنب حالات الصراع من خلال تقديم بعض التنازلات. ومفهوم التسوية كما جاء في المسودة المقدمة من قبل رئاسة التحالف الوطني الدورية تعني "الالتزامات المتبادلة بين الأطراف العراقية الملتزمة بالعملية السياسية او الراغبة بالانخراط بها، وترفض مبدأ التنازل أحادي الجانب".

" التسوية التاريخية" لازالت مسودة أُعدت من قبل لجنة من المختصين شكلتها رئاسة التحالف الوطني لوضع بنودها. وتعكس رؤية وإرادة قوى التحالف الوطني لتسوية وطنية تنتج مصالحة تاريخية عراقية. وستلعب بعثة يونامي دور الطرف الضامن لتنفيذ بنود هذه التسوية، عبر تجميع مقترحات كل الاطراف العراقية لصياغة ورقة نهائية تقوم على حمايتها وتنفيذها. وتعهدت البعثة الأُممية بالتعامل مع اي طرف يهدد او يعرقل تنفيذها، كما تعهدت بالتحشيد الدولي لصالح المبادرة. كذلك تعهدت بعثة الامم المتحدة في العراق (يونامي) بتقديم جهة سياسية سُنية موحدة للتوقيع على الوثيقة، والحصول على موافقة دول إقليمية سُنية بشأنها.

والمرحلة الاخيرة لهذه التسوية هو ان تقوم بعثة الامم المتحدة لمساعدة العراق بمشورة الحكومة العراقية وممثلي التحالف الوطني وباقي الاطراف العراقية بتقديم استراتيجية تفصيلية للتسوية الوطنية التاريخية في ضوء المبادرات التي تقدّمت بها الأطراف العراقية، بما فيها إعداد خطة تفاوضية ذات سقوف زمنية محددة للدخول بمشغل تفاوضي تفصيلي لجميع المبادرات بإشراف الأمم المتحدة. ويتم التوصل الى الصيغة النهائية للتسوية وتطرحها البعثة الاممية وتكون ملزمة لجميع الأطراف العراقية ويتم إقرارها في مجلس النواب والحكومة بعد مباركة المرجعيات الدينية ودعم وضمان المنظمات والمؤسسات الدولية والإقليمية وفي مقدمتها جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي.

هدف المبادرة –كما نصت- هو "الحفاظ على العراق وتقويته كدولة مستقلة ذات سيادة وموحدة وفدرالية وديمقراطية تجمع كافة أبنائها ومكوناتها معا". وهذا الهدف بذاته جاء متضمنا في مواد دستور جمهورية العراق لعام 2005.!

اما عن الحاجة لمثل هذه المبادرة، فقد جاء في المسودة على انها "صيغة إنقاذية للعراق، وأنها الخيار الاستراتيجي الأفضل لمجتمعنا ودولتنا، ليس فقط إنهاء الخلاف على قضايا الدولة بل تسعى لإعادة بناء الدولة لضمان استمرارها وتقويتها في وجه تحديات الإرهاب والتقسيم واللا أمن واللا عدالة واللا محاسبة واللا استقرار واللا تنمية والجريمة المنظمة والفساد والفوضى".

تباعد المواقف من التسوية التأريخية:

المواقف من هذه المسودة من داخل التحالف الوطني نابعة من اجوبتها وشكوكها حول تساؤل مفاده (مصالحة مع من؟؟). اجابة هذا السؤال شكلت منطلق لموقف بعض القوى الرئيسة داخل التحالف الرافض لـ" التسوية" ومنها ائتلاف دولة القانون. كذلك رأت بعض قوى التحالف الوطني انها فارغة المضمون وهي حبر على ورق ولا يمكن ان تحفز اتباعها للقيام بما توجبه هذه التسوية كما في التيار الصدري لأنها قد تؤدي الى مشاركة شخصيات متهمة بدعمها للتنظيمات الارهابية في مرحلة مابعد داعش. ويأتي هذا الرفض على الرغم من ان المسودة تضمنت اشارة صريحة وهي "لا عودة ولا حوار ولا تسويات مع حزب البعث أو داعش أو أي كيان إرهابي او تكفيري او عنصري وتمثيل المكونات والاطراف العراقية يجب أن يخضع للقبول بالثوابت الواردة بهذه المبادرة". وهذا يؤكد عدم توافق أطراف التحالف على مضمون مسودة التحالف.

موقف السيد رئيس مجلس الوزراء حيدر العبادي جاء مخالفاً للرؤى التي طرحتها مسودة التسوية. وتتجه رؤيته الى ان تكون أكثر محدودية وضيق وهي مصداق لواقعيته في التعامل مع الازمات ويؤكد الحاجة الى ما أسماها "تسوية مجتمعية في المناطق المحررة" بين العوائل التي طالها الضرر من سلوكيات داعش الاجرامية من جهة وبين العوائل التي انضم ابنائها الى داعش الارهابي.

وهذا يعني ان التحالف الوطني أرسل مسودة التسوية الى البعثة الاممية قبل ان يوافق عليها جميع اطرافه مما يدلل اختلاف اراء الاحزاب والكتل السياسية داخله حول مضمون المسودة، كما تُدلل على ايمان بعض اطرافه من ان الهدف من طرحها سياسي من حيث التوقيت وطبيعة الوضع السياسي الحالي المرفوض جماهيريا.

كذلك موقف تحالف القوى الذي رفض حتى استلام المسودة بعد اقرار مشروع قانون الحشد الشعبي. وحتى قبل ذلك ادعت قيادات في التحالف ان التسوية فيها شروط والتزامات يحاول التحالف الوطني فرضها على الشركاء في العملية السياسية واوضحوا لاحقا ان اقرار مشروع قانون الحشد الشعبي نسف العملية السياسية وزاد التخوف بين الشركاء.

الدلالات السياسية "للتسوية التاريخية":

يلاحظ على مسودة التسوية المطروحة انها ترسخ بشكل متزايد الطائفية وتزيد العوائق بين المكونات وتجعل لكل منها تنظيم معين يتولى التفاوض حول مضمونها ولم تكتف بهذا القدر بل تطلب ضمانات من دول سنية مجاورة بالتزام القوى السنية بمضمون التزكية وعدم التنصل عنها مستقبلا ويهذا ترسيخ ايضا لعدم الثقة بين المكونين الاكبر في البلاد.

وبالتالي هي ورقة للمزايدة السياسية وتدلل على عدم تماسك التحالف الوطني. اذ لايعقل ان التحالف الذي عجز لسنوات عن وضع نظام داخلي يحكم سلوكياته السياسية والتزامات اطرافه تجاه بعضها البعض، وعن اختيار رئاسة له منذ سنوات ان يقدم مبادرة وطنية لبناء الدولة وتجاوز الاخطاء السابقة. كذلك ومن مضمون المسودة المطروحة نجد ان التحالف يريد طي كل صفحات الاخطاء -بدءا من فشل مؤسسات الدولة مرورا بسيطرة الارهاب على مساحات واسعة منه الى مجزرة سبايكر وأزمة مالية وضياع الاموال العامة وانتهاءا بحالة اللادولة– بدون محاسبة ولا عقاب وكأنه هي وثيقة للتخلي عن المسؤولية. كذلك كيف نجيب على تساؤل مفاده اين كان التحالف الوطني طوال ثلاث دورات انتخابية عن التسوية والمصالحة ووضع رؤية لبناء الدولة والمجتمع وهو صاحب الكتلة النيابية الاكبر في البرلمان والذي بإمكانه تمرير القوانين الداعمة لبناء الدولة.

خلاصة القول نعتقد ان تجاوز حالة الفشل تقتضي محاسبة المسؤولين عنها كخطوة اولى. ومن ثم لاننسى الدستور العراقي لعام 2005 –مع اشكالياته ونقوصاته– يتضمن ماطُرح في مسودة التسوية فيما يرتبط ببناء الدولة العراقية الحديثة. والاولى العمل على اكمال التعديلات الدستورية وباقي الاطر التشريعية الداعمة لبناء مؤسسات الدولة. وبالتالي اذا ما اردنا تجنب الصراعات المحتملة لابد من تدعيم نظام الدولة ومؤسساتها لتعبر عن جميع المكونات السياسية والمجتمعية ولضمان سيطرتها على موازين القوى المحلية والعمل تدريجياً باتجاه دمجها بالمنظومة الاجتماعية عبر اعتماد الوسائل السلمية في ادارة الصراع الاجتماعي كالنظام الانتخابي العادل والتداول السلمي للسلطة.

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com

اضف تعليق