دائماً ما يحث الإسلام في اغلب مصادره التشريعية إن كانت أية قرآنية أو حديث نبوي، على الوسطية والاعتدال في اغلب مناحي الحياة إلا ما يستثنى من ذلك الذي يحتاج حكماً باتاً، فالإسلام يحبذ الوسطية ويتخذها أسلوبا ومنهجاً حتى على المستوى الأخلاقي، حيث يذكر صاحب "جامع السعادات" الشيخ محمد مهدي النراقي "إن لكل فضيلة حداً معيناً، والتجاوز عنه بالإفراط او التفريط يؤدي إلى الرذائل، فالفضائل بمنزلة الاوساط، والرذائل بمثابة الاطراف، والوسط واحد معين لا يقبل التعدد، والاطراف غير متناهية عددا."

ويقول الرسول الكريم "لا ضرر ولا ضرار" و"خير الامور اوسطها"، ويذكر الشيخ محمد مهدي النراقي الكثير من الامثلة على كيفية احتلال الفضائل الوسط بين الرذائل، وعلى سبيل المثال الشجاعة هي وسط بين رذيلتين، (التهور) اي الاقدام على ما ينبغي الحذر منه، وبين (الجبن) وهو الحذر عما ينبغي الاقدام عليه، والعفة وسط بين الشره من جانب الافراط عند حصول الانهماك في اللذات الشهوية على ما لا يحسن شرعاً وعقلاً، وبين الخمود من جانب التفريط عند سكون النفس عن طلب ما هو ضروري للبدن، والعدالة وسط بين الظلم عند التصرف بحقوق الناس واموالهم بدون حق، وبين الانظلام عند تمكين الظالم من الظلم عليه وانقياده له فيما يريده من الجبر والتعدي على سبيل المذلة...إلخ.

ومن بين تلك المناحي التي يُطالب الاسلام بتحقيق الوسطية فيها هي منحى الاقتصاد، إذ يعد الاقتصاد فضيلة بين رذيلتين وهما الاسراف والتبذير عندما يكون الانفاق أكثر مما ينبغي انفاقه وبين البخل والتقتير الذي يحصل عندما لا ينفق على ما هو مطلوب. وهذا ما سيتضح من خلال الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تُثبت الاعتدال والوسطية في الحياة الاقتصادية.

وعلى الرغم من وصف الاقتصاد بعصب الحياة ويُعد هدفاً رئيسياً في بعض الانظمة الاقتصادية إلا انه لم يعد سوى وسيلة يسعى من خلالها الانسان للوصول على مبتغاه النهائي هذا ما تتبناه الديانات السماوية ومن بينها الاسلام، حيث لم يطفح الاسلام الى مغادرة الماديات والجنوح نحو المعنويات بشكل مطلق وانما حاول الانسجام والتقريب بينهما، إذ في حالة عدم الانسجام بينهما سيؤول الامر الى انهيار الماديات والاقتصاد من بينها هو المعني في هذا المقال، من ناحية، وحصول الاضطراب والقلق وانهيار المعنويات من ناحية اخرى، حيث اشار السيد محمد الشيرازي في كتابه "الاقتصاد" الى "ان الحالات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وغيرها كلها تبنى على الاسس النفسية للامة، فإذا لم يكن انسجام بين الاسس النفسية، وبين تلك الامور(الاجتماعية والسياسية والاقتصادية) صارت الامة بين التذبذب والتأرجح مما يسبب انهدام الاجتماع والسياسة والاقتصاد وغيرها من جانب، وعدم الارتياح والقلق والاضطرابات النفسية من جانب آخر.

وفي هذا الصدد يشير ايضاً السيد محمد باقر الصدر في مقدمة مؤلفه "اقتصادنا" الى اهمية الجانب المعنوي والنفسي في بناء الأمة اقتصادياً حيث يقول "حين نخرج من نطاق المقارنة بين هذه المناهج الاقتصادية ((الرأسمالي والاشتراكي والإسلامي)) في محتواها الفكري والمذهبي الى المقارنة بينها في قابليتها التطبيقية لإعطاء اطار للتنمية الاقتصادية يجب ان لا نقيم مقارنتنا على اساس المعطيات النظرية لكل واحد من تلك المناهج فحسب بل لا بد من ان نلاحظ بدقة الظروف الموضوعية للامة وتركيبها النفسي والتاريخي لان الامة هي مجال التطبيق لتلك المناهج فمن الضروري ان يدرس المجال المفروض وخصائصه وشروطه بعناية ليلاحظ ما يقدر لكل منهج من فاعلية لدى التطبيق.

كما ان فاعلية الاقتصاد الحر الرأسمالي او التخطيط الاشتراكي في تجربة الانسان الاوربي لا تعني حتماً ان هذه الفاعلية نتيجة للمنهج الاقتصادي فحسب لكي تتوفر متى اتبع نفس المنهج بل قد تكون الفاعلية ناتجة عن المنهج باعتباره جزء من كل مترابط وحلقة من تاريخ فاذا عزل المنهج عن اطاره وتاريخه لم تكن له تلك الفاعلية ولا تلك الثمار. فحركة الامة كلها شرط اساسي لإنجاح اي تنمية واي معركة شامله ضد التخلف لان حركتها تعبير عن نموها ونمو ارادتها وانطلاق مواهبها الداخلية وحيث لا تنمو الامة لا يمكن ان تمارس عملية تنمية، فالتنمية للثروة الخارجية والنمو الداخلي للامة يجب ان يسيرا في خط واحد."

الاسلام يدفع بالمجتمع الاسلامي الى تبني الوسطية التي تعني-حسب ما يراها محمد شوقي الفنجري في كتابه الوسطية في الاقتصاد الاسلامي-الاعتدال والملائمة ليست وسطية حسابية مطلقة بل وسطية اجتماعية نسبية، إذ الاعتدال هو سمة الاسلام واسلوبه في كل نواحي الحياة. حيث يعتمد الاسلام مبدأ "لا افراط ولا تفريط" و"لا ضرر ولا ضرار" في الحياة الاقتصادية.

وهناك الكثير من الدلائل القرآنية والاحاديث النبوية واقوال اهل البيت التي تؤكد الوسطية في الاقتصاد حتى لا يكون المال سبباً لخلق الفوارق الطبقية واثارة الضغائن فيما بين افراد المجتمع حيث يقول القرآن "مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ" سورة الحشر، (7)، اي ان الله يريد توزيع المال حتى لا يتكدس بيد مجموعة معينة وتصبح هي الآمر والناهي والمتحكمة في قوت الفقراء والتلاعب بمشاعرهم، بل اراد توزيعه بين اصحاب الحاجة الذين ذكرتهم الآية القرآنية حتى لا يتعرضوا الى سؤال الناس مما له آثار سلبية على مكانتهم الاجتماعية وكرامتهم الشخصية، حيث يقول الصادق عليه السلام "طلب الحوائج الى الناس استلاب للعز ومذهبة للحياء، واليأس مما في ايدي الناس عز للمؤمن في دينه، والطمع هو الفقر الحاضر".

ويشير السيد محمد الشيرازي الى مسألة الفوارق الطبقية حيث يقول "اذا ارتفع مستوى المجتمع من حيث الاقتصاد لزم ذلك رفاه طبقة كبيرة من المجتمع، بالنسبة الى المسكن والمأكل والمشرب ووسائل النقل والسفر وكذا وكذا،...، وتأخذ هذه الطبقة في استعمار سائر الطبقات واستثمارها مما يوجب اختلال التوازن الاجتماعي" ويذكر ايضاً "الاستعمار العالمي في هذا اليوم ليس إلا نتيجة للاقتصاد الرفيع الذي حصل عليه الغرب والشرق، لكن لا يخفى ان الاسلام لا يذم الغنى بما هو غنى وانما يذم عوارض الغنى الذي يبتلى به الانسان غالباً، وفرق بين ذم اصل الشيء وذم الشيء الذي يوجب الفساد".

ويؤكد القرآن الكريم على الوسطية في الانفاق حيث يقول "وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا" سورة الاسراء،(29)، المفهوم العام لهذه الآية هو ان لا تبخل ولا تقتر حيث ينبغي الانفاق، وفي نفس الوقت لا تسرف حيث ينبغي الانفاق، اي ينبغي ان يكون الاقتصاد والترشيد في الانفاق هو الاساس، حيث اصبحت قاعدة الاقتصاد في الانفاق من القواعد المهمة لضبط مسيرة الانفاق، وهذا ما تناولته كتب المالية العامة، والتي تعني انفاق ما يلزم من اموال مهما بلغت كمياتها على جوهر الموضوع والابتعاد عن الانفاق على الجوانب التي لا تشكل عنصراً اساسياً في الموضوع، فالإنفاق على مصنع للأدوية مهم وضروري لكن الانفاق على الكماليات داخل المصنع تبذير لا مبرر له كشراء السيارات الفاخرة او زيادة عدد الموظفين عن القدر الكافي لأداء الاعمال...إلخ. وفي اية اخرى يصرح القران بالوسطية بين الاسراف والتقتير حيث يقول "وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا" سورة الإسراء،(67).

ان البخل والاقتار في غير موضعه يعد رذيلة اخلاقية فضلاً عن الاثار السلبية التي تحصل في المجتمع من انخفاض فرص العمل وانتاج البطالة وانخفاض الدخول وزيادة الفقر وهذا ما يدفع الى ظهور المشاكل الاجتماعية كالسرقة والاحتيال والاختلاس والقتل...إلخ، هذا ما يدفع بالدولة الى المزيد من الانفاق نحو الجانب الامني لمعالجة ومنع هذه المشاكل، إذ ان هذا الاخير يعد أحد عناصر مناخ الاستثمار المهمة حيث معروف ان راس المال جبان ودائماً ما يبحث عن الاماكن الآمنة.

لكن في حال شيوع ثقافة الانفاق الرشيد اي لا اسرف ولا تقتير ستوفر الدولة ما كان ينبغي انفاقه في ظل غياب الامن وشيوع المشاكل الاجتماعية، وتوجيهه نحو الفقراء والمحتاجين لسد احتياجاتهم والرقي بهم على المستوى الاجتماعي والاقتصادي والتعليمي والصحي...إلخ.

لا تبسطها كل البسط وتصبح من المسرفين فتصبح من الفقراء، حيث يرفض الله الاسراف حتى قال "وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ" سورة الاسراء،(31)، يرفضه اشد الرفض حتى وصف المسرفين بانهم اخوان الشياطين حيث يقول في سورة الاسراء " ن المبذرين كانوا اخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا" سورة الاسراء،(27)، يؤثر الاسراف بشكل كبير على محدودي الدخل في المجتمع، اذ ان الاسراف يعني مزيد من الانفاق وزيادة الطلب على السلع وهذا يولد ارتفاع الاسعار فلا يستطيع صاحب الدخل المحدود من مواجهة الارتفاع في الاسعار، فيضطر لمسايرة الحياة الاجتماعية التي يعيش فيها، وهذا ما يُعبر عنه في المصادر الاقتصادية بعنصر "المحاكاة"، الى الاقتراض وهذا ما يزيد الامر سوءاً ويكون اسوء في حال كان الاقتراض مشروط بالفائدة. فإذا لم نقل اسعار الفائدة هي المسؤولة عن الازمة المالية العالمية التي حصل في عام 2008 فلا اقل هي أحد العناصر المهمة التي ساهمت في انفجارها.

الاسلام لا يُحبذ البخل والتقتير فضلاً عن الاكتناز "وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ" سورة التوبة،(34)، يترك الاكتناز اثار اقتصادية واجتماعية وخيمة على المجتمع، حيث لايزال الذهب يحتل مكانة اقتصادية واجتماعية مهمة في الوقت الحاضر، خصوصاً عند حدوث الازمات المالية حيث يصبح هو الملاذ الآمن، اذ ارتفاع اسعار النفط على سبيل المثال مقابل انخفاض قيمة الدولار، لان في الغالب النفط مقوم بالدولار، هذا ما يدفع الى الهروب من العملة (الدولار) والاتجاه نحو الذهب لأنه غالباً ما يتسم بالاستقرار، فما بالك إذا كان هناك من يتحين هذه الفرص (انخفاض قيمة العملة والاتجاه نحو الذهب)؟ فالإسلام يرفض الاكتناز لمنع الاحتكار والتحكم بمصير الناس اقتصادياً، وامر اصحاب الاكتناز بالإنفاق كرهاً "وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ" سورة التوبة، (54).

فالوسطية تضمن لنا العيش المشترك وتحقيق الاستقرار والتوازن الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي وهذا مستوحى من المقولة "لا تكن صلباً فتُكسر ولا رطباً فتُعصر".

* باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية/2004-Ⓒ2016
www.fcdrs.com

اضف تعليق


التعليقات

عدنان عبد الصاحب
العراق
قرأت افكار عدّة في هذا المقال: الاخلاق، والتوازن بين العطاء والإمساك في المال، والاسس النفسية لبناء الامة، والوسطية في المجتمع الاسلامي، وفق ما جاء في كتاب (الوسطية في الاقتصاد الاسلامي)، وحتى قرأت شيئاً من التفسير، وايضاً كراهية شراء الذهب بدل الدولار، واتمنى لو أقرأ شيئاً في المستقبل عن قدرة تأثير الاقتصاد الاسلامي على نظام حياتنا، وشكراً للكاتب المحترم2016-12-22