كان في سوق العلاوي بمدينة كربلاء المقدسة رجل بصير، وهبه الله قدرة في التشخيص مكنته من امتهان شغلة شريفة يعتاش وأهله منها، إذ كان يقف في مفترق سوق الخضار والألبان وسوق بيع الحبوب ومعه ماكنة لثرم اللحم، فيقوم بخدمة المتبضعين عبر ثرم اللحم الذي يأتون به مع البصل وبعض الخضروات في مقابل مبلغ بسيط، وهكذا يقف كل يوم من الصباح الى ما بعد الظهيرة دون أن تعيقه عاهته الخلقية الولادية، ومن لا يعرفه شخصيا يقف مذهولا أمام هذا الرجل البصير الذي يقوم بما لا يقوم به إلا صاحب نظر.

ومضت الأيام والسنون وأنا أشاهد هذا الكاد على عياله وبصوته شبه الجهوري وسعة صدره مع الزبائن، وفي يوم من الأيام وخلال مروري اليومي من سوق العلاوي بحكم مسقط الرأس والسكن افتقدت الرجل، ومضت الأيام والأسابيع، واكتشفت أن السلطات ساقته إلى الخدمة الإجبارية رغم أن قانون الخدمة يمنع استخدام صاحب العاهة المستديمة، وبخاصة حاسة البصر وتقدمه في السن وعبوره مرحلة الشباب آنذاك، ولكن السلطة التي لم ترعو لمثل هذه الأمور ساقته الى الخدمة العسكرية جبرا وأودعته في مطبخ أحد المعسكرات يقشر البصل ويقطعه ويساهم في طبخ قصعة الجنود، ودعواهم فيما أقدموا عليه أن الرجل رغم فقدانه للبصر قادر على العمل وعليه فإنه قادر على الخدمة العسكرية في المطابخ!

هذه القصة التي شهدتها نهاية السبعينات من القرن العشرين الميلادي، استعدت خيوط ذكراها بعد أربعة عقود وأنا أقلب صفحات كتيب "شريعة الجيش" للفقيه آية الله الشيخ محمد صادق الكرباسي الصادر حديثا (2017م) عن بيت العلم للنابهين في بيروت في 56 صفحة من القطع المتوسط، يتناول بعين الفقاهة أحكام الجيش، والتجنيد وأنواعه، ومهمات الجيش في حالتي الحرب والسلم.

مقومات الجيش

طالما دقَّ طبلة آذاننا مصطلح الوطنية وأشباهه لاسيما عندما يكون الحديث عن الجيش ودوره في حفظ الوطن وحدوده، وذلك كمؤشر على جاهزية قطعات الجيش النظامي وروحيته العالية للدفاع عن حياض الوطن وعدم التساهل مع أي عدوان خارجي والتفاني من أجل صيانة حرمة البلد وشعبه وممتلكاته، وهذا المصطلح الشفاف هو بمثابة وسادة وفيرة يضع عليها الشعب رأسه ويخلد الى الراحة والدعة دون خوف أو وجل من عدو غادر مهما بلغت قوته، أو مراهقين سياسيين أو عسكريين يحنون كل مرة إلى قراءة البيان الأول من الثورة المزعومة!

الفقيه الكرباسي في "شريعة الجيش" الذي قدّم له وعلّق عليه آية الله الشيخ حسن رضا الغديري، يموضع مقومات الجيش بخمسة مقومات هي: الوطنية والإختصاص والتطور والإخلاص والإستقلال، وهذه المقومات: (كلها معًا تشكل القوة التي يجب أن تمتلكها هذه المؤسسة وتكون على أساسها في غاية الجهوزية للدفاع عن حريم البلاد والعباد ومن الأعداء والمتربصين للوطن والمواطنين).

ولأن الوطنية شرط الجيش النظامي السليم، فإنه: (لا يجوز التعامل مع الجنود في قبولهم أو في ممارساتهم بالإنتماءات الدينية والحزبية والعرقية والطائفية، ولابد من التعامل معهم بروح المواطنة فقط)، ومن مقتضيات الوطنية أنه: (لا يجوز للمؤسسة العسكرية والمنتمين إليها تسريب أسرارها وأخبارها العسكرية)، وهذا من الخيانة بأمن البلد لأن: (الخيانة نقيض العدالة والإخلاص، وضد الثقة والإعتماد) وإفشاء السر العسكري حسب تعليق الفقيه الغديري: (من الخيانة، وهي محرمة بجميع صورها)، والخيانة المخالف لمفهوم الإخلاص ينقض أحد مقومات الجيش الخمسة ويجعله في مهب الإنكسار أمام أية موجة داخلية أو خارجية، على أن الإخلاص ليس حصرا بالمؤسسة العسكرية بل في كل مفاصل الحياة، ومن غير الإخلاص تعرَّض نظام الحياة لخطر الإنهيار إن كان على مستوى الفرد أو الأسرة أو المجتمع أو الدولة، وبتعبير الفقيه الكرباسي أن: (المراد من الإخلاص في هذا المورد هو التوجه الكامل والخالص إلى أداء الوظيفة وحفظ كيان النفس والمجتمع والهدف الذي أسست تلك المؤسسة لأجله)، وإذا كان حب الوطن هو من الإيمان ودلالة على الوطنية والتفاني فإن الإخلاص: (مرتبة عالية في جميع الأعمال، وبه تظهر قيمة الإنسان في حياته)، ولا يتبين أمره وحقيقته إلا: (من خلال العمل والممارسة، ولا يمكن تحققه بالأقوال)، نعم يمكن الجمع بين القول والعمل كما يعلق الشيخ الغديري: (لأنّ القول قد يحكي عن باطن الإنسان والعمل بصدقه، فإذا وجد الإختلاف فيهما فلا قيمة للقول).

ولا تعارض بين الإستقلال والمشاركة السياسية، فـ: (للجندي وسائر العسكريين حق الإنتخاب وممارسة كل حقوقهم المدنية والسياسية)، كما: (للعسكريين الحق في الترشيح لكل المناصب في البلاد إذا كانوا مؤهلين)، واشترط الفقيه الغديري في تعليقه على ما ذهب إليه الفقيه الكرباسي: (أن لا يتنافى مع وظيفتهم العسكرية ولا يتعارض بما قُرر في نظام الخدمة العسكرية المتعاقد والمتعاهد عليه)، وقد تسالم في معظم البلدان الديمقراطية أن يُسمح للعسكري الإنخراط في عملية الإنتخابات دون الترشيح لعضوية مجلس النواب حيث يقتضي في الترشيح الإستقالة من السلك العسكري بوصف الجيش سلطة مستقلة هدفها حماية البلد دون الدخول في المناكفات السياسية والولاءات الحزبية وما يترشح عن التنافس الإنتخابي من آثار سلبية.

ولا يختلف إثنان بأن التطور في أي مجال مقبول ومعقول هو مطلب واقعي تدعونا إليه الفطرة السليمة، ويتعزز هذا الأمر في المجال العسكري لاسيما مع وجود قوى شيطانية تسعى عبر تطوير أسلحتها وأجهزتها العسكرية إلى فرض إرادتها على الشعوب تحت شفرة التفوق العسكري دون مراعاة للحدود ومصالح كل بلد في الوجود، وبعض الدول كانت ومازالت حتى يومنا هذا تستخدم تطورها العسكري في استنزاف طاقات الشعوب عبر احتلال أوطانها كما في السياسة القديمة، وعبر خلق الأزمات وتأزيم الخلافات وافتعال الحروب وفرض سوق بيع السلاح على الطرفين كما في السياسة الحديثة، وهذه السياسة الظالمة التي تفرضها القوى العسكرية النافذة تحتم على أية أمة أن تسعى إلى تطوير قدراتها الدفاعية من أجل خلق رادع أمني عملا بالسياسة القرآنية: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) سورة الانفال: 60، والتطوير المستمر لقدرات الجيش عدة وعددا وجهوزية يمثل واحد من أهم مقومات الجيش الوطني، وإذا كانت بعض الحكومات قد أجازت لنفسها تطوير الأسلحة الفتاكة المحرمة شرعا وعرفا ودوليا كما في استخدام أميركا للقنبلة الذرية في هيروشيما وناكازاكي، واستخدام نظام صدام حسين للأسلحة الكيمياوية في جنوب العراق وأهواره وفي مدينة حلبجة بشماله، فإن تصنيع مثل هذه الأسلحة من حيث المبدأ غير جائز شرعا إلا في حالتين كما يشترط الفقيه الكرباسي، حيث: (لا يجوز تعليم الجنود على استخدام أسلحة الدمار الشامل وكذلك الأسلحة الكيمياوية المحرّمة شرعا، إلا لأمرين: الأول: لمعرفة القضاء عليها أو التخلص منها، الثاني: معرفة التعامل معها فيما إذا استخدمها الأعداء).

وحيث لا يستطيع كل جندي أن يتعلم كل وسائل القتال، كان الإختصاص هو جزء من عمل المؤسسة العسكرية منذ القدم وحتى يومنا هذا، وهو يعطي قوة لكل صنف من أصناف العسكر.

ولعل من علامات قوة أي بلد، هو ابتعاد الجيش عن خلافات الساسة وأن يبقى مؤسسة وطنية مستقلة حامية للوطن في الملمات الخارجية من عدوان عسكري، والملمات الداخلية من عوارض طبيعية ومناخية وبيئية تعصف بالبلد تتطلب تدخل قطعات الجيش التي أهَّلها اختصاصها لأن تكون جاهزة للعمل من أجل حماية المجتمع أثناء الفيضانات والحرائق الواسعة والزلازل، او لمساعدة أجهزة الأمن الداخلية لحفظ الأمن ومنع حدوث الفلتان الأمني أو تشظِّيه، ويرى الفقيه الكرباسي أنه ينبغي أن يكون في الجيش علماء من ذوي الإختصاص يرشدون الجيش وينمون فيه روح الوطنية والإيمان: (كما لابد من أن ينضّم الى هذه المؤسسة عدد كبير من الإختصاصيين بالشؤون المرتبطة بالعسكرة وما يساعدها في هذا المجال تطورًا وممارسة واستمرارية).

الجندي المسؤول

لا مراء بأن المؤسسة العسكرية تمثل واحدة من مؤسسات الدولة في النظام القديم والحديث لا فرق، ولكل بلد أن يستخدم نظام التجنيد الذي يناسبه وفق المصلحة العامة ومقتضيات الحال، وبتقدير الفقيه الكرباسي: (يفضل أن يجمع بين النظام الطوعي وإنضباطية الفرد)، ويذهب المعلق الغديري الى التجنيد الإجباري: (بل قد يجب تشكيل نظام التجنيد والعسكر للحفاظ على كيان الشعب والوطن والحراسة على ثروات الامة وللدفاع في مقابل العدو المهاجم)، لكن الفقيه الكرباسي حدد الإجبار بأمرين، ذلك أن: (النظام الإجباري يحتاج شرعيته إلى اختيار الشعب ومباركة حاكم الشرع).

وإذا كان التجنيد طوعيا أو أجباريا أو استخدامها كوظيفة ومهنة وفق شهادات تخرج، فإنه ينبغي لمن يلتحق بها أن يتوفر على مجموعة من الصفات تؤهله لهذه المسؤولية الكبيرة، يلخصها الفقيه الكرباسي بمجموعات صفات أهما: البلوغ، العقل، الرشد، الإختيار، السلامة الصحية، الرجولة، الإخلاص، الإطاعة.

ومع نافذية هذه الصفات: (لا يجوز استخدام الأطفال في المؤسسة العسكرية)، كما: (لا يجوز لأولياء الأطفال زج الأطفال في مثل هذه المؤسسة)، و: (لا يجوز استخدام من يُعد أبلها)، على إن المراد بالإختيار: (أن لا يُهدَّد الشخص بالإنضمام إلى مؤسسة الجيش، فيكون التحاقه من باب الإكراه مرغما على ذلك)، ومن الإختيار أنه: (لا يمكن للأب إرغام ابنه على الإلتحاق بالمؤسسة العسكرية)، ولا جبر على المرأة الالتحاق بالخدمة العسكرية: (إلا في الجهاد الدفاعي)، ولا يعني عدم الوجوب الحرمة المطلقة، إذ: (لا يحرم على المرأة القتال في الحروب إلا أن ذلك ليس واجبا عليها)، ومعنى شرط الإخلاص: (أن لا يكون انتهازيا، بل يحب وطنه ولا يخالف الأوامر الملقاة عليه)، لأن: (الإنقياد شرط أساسي في المنتسبين إلى الجيش)، إذ: (لا يجوز التمرد على القيادة) العاملة بالقوانين التي لا لبس فيها، وللطاعة أصولها: (فلو أن القائد أمره بخدمة أبنائه فلا يجب إطاعته، كما لو أمره بتسريب أخبار الجيش إلى الأعداء فلا تجوز إطاعته).

ومن نافلة القول: إذا كان النظام السليم القائم على الإختيار والقبول المتبادل بين الراعي والرعية ينحو الى الفصل بين السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعة والقضائية)، فإن الجيش بوطنيته واستقلاليته وإخلاصه ومهنيته وجهوزيته هو الحافظ الأمين لهذا المثلث الذي يحط المواطن عند زواياه رحاله وماله وعياله قرير العين، وينام على أريكة الأمن مطمئنا لا يخشى فوضى مختلقة ولا انقلابا مفتعلا.

* الرأي الآخر للدراسات- لندن

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق