q
تشكل الأزمة المتعددة العالمية تهديدا غير مسبوق للتنمية الاقتصادية. ويتطلب توفير مستقبل أكثر مرونة واستدامة وازدهارا للجميع الآن إعادة تحديد وتعريف أساسيات النمو للتصدي للتهديدات الجديدة العابرة للحدود الوطنية. لقد أصبحت الاستجابة السلسة السريعة، والإبداع، والتعاون الدولي، وشراكات القطاع الخاص أكثر أهمية من أي وقت مضى...
بقلم: آنا بييردي

واشنطن، العاصمة ــ لم يكن التأثير الذي خلفته الأزمات الأخيرة في أي مكان من العالَـم ــ العواقب الاقتصادية المستمرة الناجمة عن جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، والآثار غير المباشرة المترتبة على الحرب التي تشنها روسيا في أوكرانيا ــ أشد حِـدّة مما كان عليه في بلدان العالَـم النامي. يكافح الناس في البلدان الفقيرة للتغلب على ارتفاع أسعار الغذاء والوقود والديون التي لم يعد من الممكن تحملها، في حين لا يزال أطفال المدارس يعانون من ضياع فُـرَص التعلم بسبب الجائحة. وفي عدد كبير من الأماكن، توقف النمو الاقتصادي.

ما يزيد من تفاقم هذه التحديات أن التأثيرات المترتبة على تغير المناخ أصبحت أشد وضوحا، حيث تهدد الفيضانات وموجات الجفاف وفشل المحاصيل حياة البشر وسبل معايشهم. وكما حَـذَّرَت الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ في أحدث تقرير أصدرته، يتعين على العالَـم أن يتحرك على الفور لدرء بعض العواقب الأكثر مأساوية المترتبة على الانحباس الحراري الكوكبي، والتي من شأنها أن تُـلـحِـق أعظم الضرر بالناس الأشد فقرا وعُـرضة للخطر.

تشكل "الأزمة المتعددة" العالمية تهديدا غير مسبوق للتنمية الاقتصادية. ويتطلب توفير مستقبل أكثر مرونة واستدامة وازدهارا للجميع الآن إعادة تحديد وتعريف أساسيات النمو للتصدي للتهديدات الجديدة العابرة للحدود الوطنية. لقد أصبحت الاستجابة السلسة السريعة، والإبداع، والتعاون الدولي، وشراكات القطاع الخاص أكثر أهمية من أي وقت مضى. ويعمل البنك الدولي، الذي يُـعَـد بالفعل الممول الأكبر للعمل المناخي في البلدان النامية، على تعزيز نموذجه التشغيلي ليصبح قادرا على الاستجابة السريعة لمثل هذه الظروف المتغيرة.

عند تقييم التوقعات للبلدان المنخفضة الدخل، تتحدث الأرقام عن نفسها. في الاقتصادات النامية، من المتوقع أن يكون النمو خلال الفترة المتبقية من هذا العقد أقل بنحو الثلث مما كان عليه في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. دفعت الأزمات الأخيرة بعشرات الملايين من البشر إلى براثن الفقر مرة أخرى. وبدلا من تلبية هدف التنمية المستدامة المتمثل في إنهاء الفقر المدقع بحلول عام 2030، يشير معدل التقدم الحالي إلى أن ما يقرب من 600 مليون إنسان سيظلون يعيشون على أقل من 2.15 دولارا في اليوم. والصورة في الأمد الأبعد قاتمة بذات القدر: فقد تكلف الصدمات التعليمية المرتبطة بجائحة كوفيد طلاب اليوم في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل ما يصل إلى 10% من دخلهم في المستقبل.

لتعويض خسائر السنوات الأخيرة وإعادة البلدان النامية إلى المسار الصحيح، يجب أن نساعد الحكومات على تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي وتطوير بيئات الأعمال التي تُـفـضي إلى الاستثمار من جانب القطاع الخاص. كما يشكل طرح مشاريع رأسمالية جاهزة للاستثمار والتي ستقوم عليها دعائم مستقبل أكثر استدامة، بما في ذلك مشاريع الطاقة المتجددة والبنية الأساسية المقاوِمة لتغير المناخ، ضرورة أساسية. ولتخفيف التأثير المتخلف عن الأزمات في المستقبل، نحتاج إلى دعم بناء أنظمة قوية وقابلة للتكيف في مجالات الصحة العامة والتعليم والرفاهة الاجتماعية.

أظهرت السنوات الثلاث الأخيرة أهمية زيادة مستويات التأهب للأزمات وتحسين زمن الاستجابة. قَـدَّمَـت مجموعة البنك الدولي حزمة تمويل بقيمة 170 مليار دولار عن الأشهر الخمسة عشر التي تنتهي في يونيو/حزيران 2023 لمساعدة الدول على التعامل مع التأثيرات المترتبة على الأزمات المتعددة المتداخلة. وقد اشتمل هذا بشكل حاسم على دعم جهود تعزيز أنظمة الحماية الاجتماعية والأمن الغذائي في بعض البلدان الأكثر ضعفا وعُـرضة للخطر على مستوى العالَـم. منذ فبراير/شباط 2022، حشد البنك الدولي أكثر من 23 مليار دولار من الدعم المالي لأوكرانيا.

تضطلع الأموال الموجهة أيضا بدور حاسم في التخفيف من حدة الكوارث في المستقبل. على سبيل المثال، سيساعد صندوق الجوائح الجديد الذي أنشأه البنك الدولي البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل على تعزيز قدراتها في مجالات أساسية مثل مراقبة الأمراض، والمختبرات، وقوة العمل في الصحة العامة، والمشاركة المجتمعية، فضلا عن الاتصال والتنسيق والإدارة في حالات الطوارئ.

الواقع أن التحديات ذات الطبيعة العابرة للحدود الوطنية أو العالمية في الأساس ــ وخاصة تغير المناخ ــ تدفع أكبر التحولات في سياسات التنمية. إلى جانب الموارد الأكبر، يستلزم تحقيق التقدم تعزيز ثقافة تبادل المعرفة، حتى يتسنى للبلدان أن تتعلم بسرعة من بعضها بعضا وأن تتخذ قرارات أفضل في ظل ظروف تتسم بقدر عظيم من عدم اليقين. التخطيط الدقيق مطلوب أيضا لضمان عمل المشاريع على تعزيز المرونة والقدرة على الصمود في الأمد البعيد وكونها قابلة للتطوير من خلال استثمارات القطاع الخاص.

قد يبدو التصدي للانحباس الحراري الكوكبي مسألة بالغة المشقة، لكن التقرير الأخير الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ يقدم بعض الأمل. فهو يشير إلى أن العديد من تكنولوجيات التخفيف ــ وخاصة تلك التي تركز على تحسين استخدام الأراضي والطاقة المتجددة ــ أصبحت فَـعّـالة من حيث التكلفة في السنوات الأخيرة. علاوة على ذلك، أدت السياسات الرامية إلى التعجيل باستيعاب هذه التكنولوجيات، والحد من إزالة الغابات، وتحسين كفاءة الطاقة، إلى انخفاضات كبيرة في الانبعاثات الغازية المسببة للانحباس الحراري الكوكبي في بعض القطاعات. ومع الدعم الدولي، قد يكون مثل هذا التقدم نِـعمة للبلدان النامية.

في المقام الأول من الأهمية، تتطلب التحديات الجديدة تعزيز أواصر التعاون بين البلدان والالتزام المتزايد من جانب المجتمع الدولي. وهنا أيضا يتجلى الأمل. لقد شهد العالم للتو جائحة مُـهـلِـكة كانت لتصبح أشد فتكا في غياب التعاون عبر الحدود. بالعمل معا، تمكنا من إنتاج وتوزيع لقاحات فَـعّـالة بسرعة غير مسبوقة. في غياب أي بادرة لانحسار الصدمات العالمية، ومع تحمل الاقتصادات النامية القسم الأعظم من وطأة هذه الصدمات، يجب أن يصبح هذا النوع من الالتزام المشترك والعمل الموحد الوضع الطبيعي الجديد.

* آنا بييردي، هي المدير الإداري للعمليات في البنك الدولي.
https://www.project-syndicate.org/

اضف تعليق