تعد مشكلة الفقر إحدى المشاكل التي تعاني منها البلدان بشكل عام والنامية بشكل خاص، وذلك لأسباب عديدة سنفرد لها مقالاً خاصاً، ولكن ضمن هذا العنوان سنوضح ما هي العوامل التي تساعد على إنتاج الثروة من أجل معالجة الفقر، وسنعتمد في هذه العوامل على ما أوضحه السيد مرتضى الشيرازي في كتابه "استراتيجيات إنتاج الثروة ومكافحة الفقر في منهج الإمام علي عليه السلام" ويمكن توضيح أبرزها بما يأتي:

أولا- منح الأرض والمعادن والثروات كلها للناس: إن منح الأرض وما في باطنها وما على سطحها من ثروات طبيعية ومعدنية للأفراد من دون تحكم جهات معينة كالدولة مثلاً، سيعطي للأفراد حرية أكبر في الاستثمار سواء كان هذا الاستثمار زراعي نباتي أو حيواني، صناعي استخراجي أو تحويلي، سياحي او خدمي أو تجاري...إلخ، من دون قيود تفرض عليهم، إذ في حال فرضت الدولة قيودا كالضرائب أو الرسوم أو غيرها ستحد هذه القيود من إمكانية الأفراد على الإنتاج، فتتضاءل الثروة ويزداد الفقر، وبالتأكيد أن منح الأرض للناس جميعاً مستمد من القران الكريم في سورة البقرة آية 29(خلق لكم ما في الأرض جميعاً)، وحديث الرسول الكريم محمد(ص) (الأرض لله ولمن عمرها).

ومع هذا تجدر الإشارة إلى مسألة غاية في الأهمية وهي في الوقت المعاصر ان حصل تراكم الأموال لدى البعض من الناس يجعل قدراتهم على التوسع في الاستثمار أكبر وهذا يفضي إلى ظهور الاحتكار وهذا ما يزيد من مشكلة الفقر، لذا لا بد من الأخذ بعين الاعتبار مسألة العدالة في التوزيع.

ثانياً- ترشيد الإنفاق: يعد ترشيد الإنفاق من الأساليب المهمة التي تؤدي للمحافظة على الثروة، أي أن لا يحصل إسراف وتبذير في الإنفاق، وهذا ما يصرح به القرآن الكريم في سورة آل عمران آية 141 (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، وذكر في سورة الإسراء (وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا(26)إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (27)، فالحل يكمن في الترشيد الذي يؤدي إلى زيادة إنتاجية الإنفاق من خلال التركيز على المجالات التي تزيد من إنتاج الثروة ومن ثم تراكمها، والابتعاد عن هدرها عن طريق الإسراف.

وبهذا الخصوص يستشهد السيد الشيرازي بعدّة أمثلة عن أمير المؤمنين (ع) عن الترشيد وعدم الإسراف والتبذير كإطفاء الإمام(ع) السراج الذي كان من أموال بيت المال عندما جاءه شخص ليتحدث عن أمر شخصي، وكان يقارب بين السطور في رسائله...إلخ.

ثالثاً- الضمان الاجتماعي: إن تطبيق مسألة الضمان الاجتماعي تساعد على إنتاج الثروة عندما يشعر الفرد إن مستقبله مكفول من قبل الدولة، فيحصل له الاطمئنان النفسي ويزداد ولاءه للدولة التي تشعر بمستقبله، فيبدع في إنتاجه وتراكم ثروته فيزول فقره، وبالتأكيد هذا لن يكون سبب لتقاعسه عن العمل لان الضمان خاص بمستقبله والحوادث التي تعترض سير حياته، ومن باب أولى يكون الضمان للطبقات السفلى التي لا تستطيع العمل لأسباب معينة سواء المرض أو الشيخوخة أو غيرها، حيث يقول أمير المؤمنين عليه السلام "ثم الله الله، في الطبقة السفلى من الذين لا حيلة لهم من المساكين، والمحتاجين، وأهل البؤس (شد الفقر) والزمنى (ذوي العاهات)، فإن في هذه الطبقة قانعاً (وهو السائل)، ومعتراً (وهو المتعرّض للعطاء بلا سؤال)، واحفظ الله ما استحفظك من حقه فيهم، واجعل لهم قسماً من بيت مالك.

رابعاً- خلق التوازن بين الريف والحضر: إن من أهم أسباب اختلال التوازن الاقتصادي وشيوع الفقر, هو سياسة التمييز التي تتبعها الحكومات في إيلاء منطقة على حساب أخرى، والاهتمام بالمدن على حساب الأرياف. هكذا عمل سيسبب انتقال وهجرة الناس إلى المناطق أو المدن التي أولتها الحكومة أهمية أكبر على حساب الأخرى، فيزداد الضغط على الخدمات كنتيجة للهجرة، والتقليل من فرص العمل بسبب زيادة فرص العمل في هذه المنطقة أو المدينة، وهذا سيسبب انخفاض الأجور وظهور الفقر.

كان الإمام علي عليه السلام أول داعية لإيجاد التوازن بين القرى والأرياف وبين المدن، إذ يقول في عهده لمالك الأشتر (فإن للأقصى منهم مثل الذي للأدنى وكل قد استرعيت حقه) أي إن الحاكم مسؤول عن كلا الحقين، ولا يجوز له أن يفرط بأي منهما، وإن العناية بالريف سبب أساسي في الحفاظ على اقتصاد سليم ومتطور.

خامساً- التكافل الاجتماعي: التكافل أعم من الضمان، حيث يشمل الجوانب المادية والمعنوية، أي هو قيام الأفراد أصحاب المقدرة، بصرف النظر عن نوعها سواء كانت مادية أو معنوية، بمساعدة الأفراد بما يحتاجون، هذا سيؤدي إلى معالجة ليس الفقر المادي كالافتقار للمال والدخل وغيرها فحسب، بل يؤدي إلى معالجة الفقر المعنوي أيضاً كالافتقار للعلم والأخلاق وحرية التعبير والرأي والحرمان من الفكر الصائب...إلخ. وأقر الإسلام قانون تكفل الزوج لنفقات الزوجة، وكذلك تكفل الأب لنفقات أولاده ما داموا محتاجين، وتكفل الابن لنفقات والديه ما داموا محتاجين.

سادساً- تنشيط حركة الأموال: كلما توفرت الحرية للإفراد سيعملون على استثمار رؤوس أموالهم بشكل أوسع كنتيجة لغياب القيود التي يمكن أن تقلل من حركة نشاطهم الاقتصادية، فتوفير الحرية سيساعد على تنشيط الحركة الاقتصادية للأفراد دون تخوف يجعلهم يفكرون في اكتناز أموالهم، فتنشيط حركة الأموال التي تساهم في تقدم الاقتصاد تكون مرهونة بمدى توفر الحرية ومدى توفر النظام السائد الذي يربي المجتمع على عدم الاكتناز والاحتكار.

وخير مثال على تنشيط حركة الأموال حين كان أمير المؤمنين (ع) عندما تجبى الحقوق الشرعية، يقوم بصرفها فوراً للناس، ومن هنا لم يكن الإمام يستبقي أموال بيت المال حتى لليلة واحدة، بل كان يوزعها في نفس اليوم، وفي المساء كان يكنس بيت المال، للدلالة على عدم بقاء شيء.

سابعاً- المرونة في الضرائب: تعد الضرائب المجحفة من أهم عوامل الفقر، وخصوصاً تلك التي تفرض على الاستهلاك، إذ إن فرضها على الاستهلاك يعني التقليل من دخول الطبقات السفلى وهذا ما يؤثر على مستواهم المعاشي فيزداد الفقر، في حين إن فرض الضرائب على الإنتاج مع الالتزام بعامل المرونة أي في حالة انخفاض الإنتاج والأرباح يجب أن تنخفض نسبة الضرائب، وهو مما ينسجم مع العقل والشرع، حيث يقول أمير المؤمنين ع (فإن شكوا ثقلاً أو علة أو انقطاع شرب أو بالة أو إحالة أرض اغتمرها غرق أو أجحف بها عطش، خففت عنهم بما ترجو أن يصلح به أمرهم. ولا يثقلن عليك شيء خففت به المؤونة عنهم،... بما ترجو أن يصلح به أمرهم).

ثامناً- على الدولة التخطيط والإشراف لا الإنتاج: يجب على الدولة أن تأخذ على عاتقها القيام بمهمة حفظ النظام ومراعاة العدالة والتخطيط لازدهار الاقتصاد، وفي الوقت ذاته عليها أن تتجنب أي دور اقتصادي يُعد بديلاً عن دور الناس، شركات وأفراد، في إدارة ثرواتهم لان الناس مسلطون على أموالهم، وإن التأميم اي تحويل ملكية قطاع معين إلى ملكية الدولة، يعد خطأ كبيراً، كما إن تدخل الدولة في الإنتاج بشكل مباشر هو خطأ آخر، حيث لم يأت التأميم إلا وسيلة لتخليص الشعوب من الاستعمار القديم على ثرواتهم المعدنية والزراعية لاسيما النفط، وهذه ليست القاعدة الأساس بل استثناء، لكن الأمر انقلب على الشعوب ليكون نقمةً بدلاً من أن يكون نعمة، إذ الواجب أن تكون كل(ملكية) ثروة عائدة للناس، وأما إدارة بعض الثروات الكبرى التي يعجز عنها آحاد الناس، فالواجب أن تكون بيد ممثلين عن الناس ينتخبونهم لا بيد الحكومة.

وقد قال أمير المؤمنين في عهده لمالك الأشتر (ثم استوص بالتجار وذوي الصناعات وأوص بهم خيراً، المقيم منهم، والمضطرب بماله، والمترفق ببدنه، فإنهم مواد المنافع وأسباب... وتفقد أمورهم بحضرتك وفي حواشي بلادك.) وقال أيضاً (وتفقد أمر الخراج بما يصلح أهله) فمسؤولية الحاكم الرعاية وتوفير الأمن الاقتصادي والعناية بسلامة مسيرة عملية الإنتاج، لا التدخل المباشر في إنتاج السلع والخدمات.

إن العمل على تحقيق العوامل أعلاه بشكل جمعي ستسهم في زيادة الثروة لدى الأفراد والتقليل من الفقر وآثاره التي تنعكس على مجمل نشاطات الحياة بشكل سلبي، ولكن في الوقت ذاته لا بد من مراعاة ووضع حالة التطور الاقتصادي المتقدم، بعد القضاء على الفقر، تحت المراقبة، لأنه في حال تطور الإنسان اقتصادياً وعدم الأخذ بعين الاعتبار الزهو والرفاه المفرط سيتحقق الفقر، ولكن من جانب آخر وهو الفقر المعنوي كالافتقار للأخلاق وغياب الجوانب الإنسانية ولا ينظر الإنسان إلا للمادة، وهذا ما يعرضه للطغيان، حيث يقول القرآن الكريم في سورة العلق آية 6 (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى).

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2017Ⓒ
http://shrsc.com

اضف تعليق