ميلتون فريدمان    

 

حادث وقع معي خلال زيارة سابقة قمت بها إلى الصين، تركت داخلي أثراً قوياً بالنسبة للفجوة الواسعة من التفاهم التي تفصل الناس المنغمسين في مؤسسات اقتصادية مختلفة. تلك الفجوة تجعل الأهمية بمكان التأكيد، المرّة تلو المرّة، على المبادئ الأساسية التي نعتبرها جميعنا أمراً مسلماً به، بالنسبة للنظام الذي تعودنا عليه. لقد وقع الحادث المشار إليه عندما تناولت أنا وزوجتي طعام الغذاء مع نائب وزير إحدى الدوائر الحكومية، والذي كان على أهبة السفر إلى الولايات المتحدة ليطَّلع على الاقتصاد الأمريكي. أراد مُضيفُنا مساعدتنا له حول من يتوجب الاجتماع بهم.

كان السؤال الأول الذي وجهه في هذا الشأن هو “من في الولايات المتحدة هو المسؤول عن التوزيع المادي؟” لقد أثار هذا السؤال استغرابي واستغراب زوجتي؛ وإنني أشك بأن أي أحد في الولايات المتحدة، مهما كان ساذجاً في شؤون الاقتصاد، يمكن حتى مجرد التفكير بطرح مثل ذلك السؤال. ومع ذلك، فقد كان أمراً طبيعياً جداً لمواطن يعيش في اقتصاد مشترك، أن يسأل مثل هذا السؤال. إنه معتاد على وضع يقرر فيه شخص ما، من يأخذ من مَن ماذا، سواء كان ذلك من يأخذ المواد والأجور مِن مَن.

كان ردّي الأولي أن اقترحت عليه زيارة قاعة بورصة شيكاغو التجارية، حيث تتم التجارة في سلع مثل القمح والقطن والفضة والذهب. أثار هذا الجواب الحيرة لدى مُضيفي، لذا فقد استمررت في التوسع حول حقيقة أنه لا يوجد شخص واحد —أو حتى لجنة من الأشخاص— ”تكون مسؤولة عن توزيع المواد.” هنالك دائرة التجارة، وهناك وزارة الداخلية، لهما اهتماماتهما بمواد الإنتاج والتوزيع ولكن من منظور مختلف كلياً. ولكنهما لا تقرران من سيحصل على أية كمية منها. وبالتالي، فقد وجدت نفسي مرغماً على إجابة مُضيفي بتعابير لم يكن من السهل على مضيفي استيعابها. لا حاجة إلى القول بأنني هنا لا أعني توجيه الانتقاد له. في ضوء خلفيته، فإن مما لا يمكن تصوره أنه كان يمكن أن يفهم كيف أن السوق يستطيع توزيع مجموعة مختلفة من السلع، بين ملايين من البشر المختلفين ولآلاف الاستعمالات، وبدون أن تمسها أيادي سياسية.

أعجوبة السوق تكمن على وجه التحديد في حقيقة أنه من خلال الفوضى والصراخ المتبادل بين الناس، والإشارات الغريبة بأيديهم والتضارب على ساحة بورصة السلع التجارية في شيكاغو، فبطريقة أو بأخرى يبدو أن المتجر القابع في الزاوية مليء على الدوام بكميات كافية من الخبز، والمخبز مليء بما يحتاج إليه من طحين، والمطحنة دائماً تحوي ما تحتاج إليه من قمح، وهكذا. هذه هي الأعجوبة التي يحقق السوق بموجبها تنسيق نشاطات ملايين البشر، ويفعل ذلك بطريقة غير شخصية كلياً، من خلال تسعيرة إذا ما تركت وشأنها دون تدخل، فإنها تكون خالية من الفساد والرشاوى، والنفوذ الخاص، أو الحاجة إلى آليات سياسية.

دعني الآن أتحول أكثر مباشرة إلى الموضوع. بمعاني معينة، فإن الإشارة إلى “السوق” يضع البحث على أسس خاطئة. السوق ليس بقرة تحلب؛ مثلما أنه ليس العلاج الشافي لجميع الأمراض. بتعبير لغوي حرفي، فإن السوق هو ببساطة الاجتماع، في مكان وزمان محددين، من أجل عقد صفقات. لا حاجة إلى القول بأن كلمة “الاجتماع” وكلمة “المكان” هما تسميات مجازية؛ إنها لا تعني الاجتماع الفعلي معاً. في الزمن الحالي، هنالك سوق في تبادل العملات يشمل العالم بأسره. الناس يجتمعون بواسطة الستلايت اللاقط، والهواتف وما إلى ذلك. يضاف إلى ذلك، أن الصفقات التي تتم في، أو من خلال السوق، ليست مقتصرة على تلك المتعلقة بالمال أو المشتريات أو المبيعات. العلماء الذين يتعاونون مع بعضهم بعضاً لتقدم حقول تخصصهم، سواءً أكانت الفيزياء أم الكيمياء، أو الاقتصاد أو علم الفلك، هم في الحقيقة والواقع يعقدون صفقات فيما بينهم. سوقهم يتكون من سلسلة متصلة من المجلات والمؤتمرات وما إلى ذلك.

السوق هو الآلية التي يمكن تجنيدها لأغراض عديدة. واعتماداً على طريقة استعمالها، فإنها قد تساهم في التطور الاجتماعي والاقتصادي، أو لجم مثل ذلك التطور. استخدام أو عدم استخدام السوق ليس التمييز المهم. كل مجتمع سواء كان شيوعياً أو اشتراكياً أو ديمقراطياً اشتراكياً أو رأسمالياً نقياً، أو أي نظام آخر، يستخدم السوق. وبدلاً من ذلك، فإن التمييز الأساسي هو وجود الملكية الخاصة أو عدم وجودها. من هم المشتركون في السوق، وبالنيابة عن من يتعاملون؟ هل المتعاملون بيروقراطيون حكوميون يتعاملون بالنيابة عن شيء اسمه الدولة؟ أم أنهم أفراد يتعاملون مباشرة أو بشكل غير مباشر بالنيابة عن أنفسهم؟ ولهذا السبب، وفي بحث سابق قدمته في الصين، فقد دعوت إلى أوسع استخدام ممكن ليس لتعبير السوق ولكن لتعبير “السوق الحر الخاص”. هذه الكلمات “الحر” و”الخاص” هي حتى أكثر أهمية من كلمة “السوق”.

تنشأ مشاكل عديدة محددة عندما يحاول مجتمع استبدال اقتصاد موجه بيد السوق الخفية، والتي سوف أبحث عدداً منها. هذه المشاكل لا تقتصر على المجتمعات التي حاولت استخدام التوجيه كآلية اقتصادية أساسية، كما هو الحال في الصين وروسيا؛ إنها تنشأ كذلك في الاقتصاديات الغربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا، والتي أصبح عامل الأمر والتوجيه فيها أكثر اتساعاً بمرور الوقت، والتي تجري فيها محاولات لعكس ذلك التوجه. إزالة العمليات الاقتصادية التي تملكها الحكومات في الغرب، مثل خدمات البريد في الولايات المتحدة، والسكك الحديدية والمنافع الخدماتية في بلدان أخرى، يثير قضايا مماثلة لتلك التي تنشأ، عند عملية استبدال الاقتصاد الموجه والملكية العامة بتعاون طوعي، وملكية خاصة في الصين وروسيا وغيرهما.

التحرير الجزئي مقابل التحرير الكلي

إن إدخال دور أكبر لآلية السوق الخاصة، في قطاع واحد من قطاعات الاقتصاد، قد يصاب بالفشل الجزئي أو الكلي نتيجة الأفق المحدود للتغيير. انظر إلى ما كان يعتبر خطوة رئيسية تجاه استخدام أوسع للسوق، والمتمثل في إنشاء السوق الأوروبية المشتركة، ومحاولة تحقيق تجارة حرة بين بلدان السوق المشتركة. لقد مضى حتى الآن ما يقارب الـ40 عاماً منذ مشروع شومان لإقامة مجموعة الفحم والفولاذ الأوروبية، ومع ذلك فلا أحد ينكر بأن التجارة الحرة داخل بلدان السوق ما زالت مثلاً أعلى أكثر منها حقيقة واقعة. آخر دليل على ذلك هو الاتفاق الأخير لإزالة جميع أشكال العوائق بحلول عام 1992. ولو كانت اتفاقية السوق المشتركة ناجحة منذ البداية، لكانت قد تحققت حرية التجارة قبل سنوات عديدة مضت.

ماذا كانت المشكلة؟ لماذا لا توجد ولايات متحدة أوروبية حقيقية في أوروبا؟ في رأيي، فإن الجواب هو أن إزالة القيود حتى من حيث المبدأ، قد أقر فقط للبضائع والخدمات، ولكن ليس لحرية تنقل المال. قد احتفظت البلدان المختلفة بسلطات كاملة على عملاتها الوطنية. وأكثر أهمية، فقد رفضت تلك الدول تطبيق نظام يضمن تعويم تبادل العملات بحرّية—أي التبادل الحر لعملة واحدة مع عملة أخرى بأي سعر تبادل يكون قد تم الاتفاق عليه طوعاً في أسواق خاصة حرة. إن رفض ترك السوق الخاص تقرير معدلات تبادل النقد بين البلدان المختلفة شكَّل ضعفاً مميتاً.

حالياً، تواجه الصين تحديداً مشكلة مماثلة. إن الهدف من بحثي لهذا الموضوع هنا ليس الترويج لنظام تبادل حر للعملات، ولكن إعطاء مثل صارخ يرينا كيف أن اقتصار نزع التوجيه أو التخصيص على منطقة واحدة، وعدم توسيعه بحيث يشمل مناطق متصلة بها عن قرب، من شأنه أن يفسد الهدف الأساسي.

مثل ثانٍ يأتي من الولايات المتحدة. فمع أن شركات الطيران هي شكلاً خاصة، فقد تم إخضاعها إلى رقابة حكومية واسعة، بالنسبة للأسعار التي يمكن فرضها، والأسواق التي تستطيع خدمتها. لقد أدى رفع الرقابة عن شركات الطيران عام 1978 إلى زيادة كبيرة جداً في التنافس، وتخفيض واسع وشامل للأسعار، وزيادة في آفاق الخدمات، وبالتالي توسع رئيسي في حجم التنقل الجوي. ولكن، وبينما تم تحرير شركات الطيران أو كما أُفضِّل أن أسميه تخصيص شركات الطيران، فإن المطارات ظلت على حالها. لقد ظلت المطارات مملوكة للحكومة وتدار من قبلها. لم يجد القطاع الخاص صعوبة في إنتاج جميع الطائرات التي ترى شركات الطيران أنها تستطيع تشغيلها بربحية. ولم تجد شركات الطيران الخاصة صعوبة في إيجاد الطيارين لقيادتها والمضيفين والمضيفات لخدمتها. ومن الناحية الأخرى، فإن الطائرات الملأى بالركاب كثيراً ما تواجه تأخيراً في خدمات المطارات لها بسبب عدم كفاءة التجهيزات والآليات التي تستخدم في عمليات هبوطها وطيرانها. بطبيعة الحال، تجيب الحكومة واضعة اللوم على شركات الطيران الخاصة؛ فقد بدأت تطلب من شركات الطيران تقديم تقارير عن أسباب تأخرها في الوصول بالمواعيد المقررة، ونشر تقارير موجزة حول تقيّد شركات الطيران المختلفة بمواعيد الوصول. لقد تم تقديم مقترحات عدة، حتى في ظل احتفاظ الحكومة بملكية وإدارة المطارات، على الأقل فيما يتعلق بحقوق إدارة البوابات، من حيث عدد البوابات وعدد مرات استخدامها، وأن يتم ذلك عن طريق المناقصة. ولكن لسوء الحظ، فإن معارضة شركات الطيران التي تملك مصالح خاصة في البوابات وأوقات استعمالاتها بتفويض من الحكومة، قد حال دون الأخذ حتى بأقل إجراءات الإصلاح. بطبيعة الحال، الحل الأفضل كثيراً، هو خصخصة المطارات.

مثل ثالث يتمثل في تخاصية بعض نواحي التصنيع، في وقت يتم فيه الإبقاء على الإنتاج أو على تسعيرة المواد الخام، تحت إشراف الحكومة. دعني أذكر بعض الأمثلة الواضحة بالنسبة للصين. إدخال درجة عالية من التخاصية في قطاع الزراعة قد أدى إلى زيادة كبيرة في الإنتاج الزراعي والإنتاجية—وهو أحد أكثر المظاهر الدراماتيكية في نجاح الصين، في توسيع استخدامات السوق الحرة الخاصة. ولكن من الواضح بأن النجاح ذاته قد خلق مشكلة حقيقية. الغالبية العظمى من الشعب الصيني تعمل في الزراعة. وحتى تحقيق تقدم قليل نسبياً في الإنتاجية الزراعية يعني بوضوح الاستغناء عن عمال زراعيين لم يعد مجدياً تشغيلهم. إن من مصلحة الصين استخدام هذه العمالة في ميادين أكثر إنتاجية، مثل الصناعة. ومع ذلك، فإن الجزء الأكبر من قطاع الصناعة، مازال تابعاً للاقتصاد الموجّه؛ إن هذا القطاع لم يخضع للخصخصة أو التحرير، أو الخضوع كليّةً لعوامل السوق.

لقد بذلت جهود حقيقية لتغيير الطريقة التي تدير فيها الحكومة الفعاليات التابعة لها. فقد أُبلغ المسؤولون في تلك الفعاليات باستخدام آليات السوق، كما بذلت جهود لإعطائهم الحوافز لعمل ذلك. ولكن، وما دام أن البيروقراطيين هم الذين يديرون الصناعات التابعة للدولة، فإن قدرتهم على الاستجابة بفعالية لضغوطات السوق سوف تظل محدودة بشكل حاد. بالنسبة للصين، فإن أكثر القيود خطورة هي قدرتهم على التصرف بمرونة، واستعدادهم أو قدرتهم على المغامرة للقيام بمشاريع تنطوي على المغامرة والتي تحمل في طياتها مخاطر الفشل، ولكن بعض النجاح الحقيقي والباهر، وإن يكن قليلاً. مرة أخرى، إن القضية ذات طابع عالمي. فكل دراسة أجريت في الولايات المتحدة أو المملكة المتحدة تظهر بأن المشاريع الصغيرة—وليست الشركات الضخمة التي هي ملء الأسماع هي وراء خلق معظم فرص العمل. في الصين، مجالات مثل هذه المشاريع الخاصة الصغيرة لهي قليلة جداً.

إن خصخصة أوسع كثيراً للنشاط الاقتصادي من شأنها تخفيض صعوبات استيعاب العمال الذين يستغني القطاع الزراعي عنهم. عندها، سوف تنشأ مشاريع خاصة في جميع الأماكن لامتصاص القوة العاملة.

مثل آخر للصين هو شبيه للمشكلة التي ذكرتها بالنسبة للسوق الأوروبية المشتركة؛ الفرق بين آفاق الحرية في إنتاج وتوزيع البضائع والخدمات، وبين إنتاج وتوزيع عملة النقد. التحرير الواسع الذي تم في أسعار العديد من السلع، وبالأخص السلع الزراعية وما شابهها، لم تصاحبه خصخصة النظام البنكي. وكما فهمت، فإن حكومة الصين تقرر بشكل غير مباشر ماذا يحدث لحجم العملة المتداولة، عن طريق المنح التي تعطيها للمشاريع الحكومية. النتيجة تشمل زيادة سريعة في كمية النقد المتداول، وليس—وهذا ما يدعو إلى الدهشة—ضغطاً متصاعداً على الأسعار، الأمر الذي أدَّى إلى تضخم علني ومُقنَّع، أخذ يُطل بوجهه القبيح.

متى يجب أن يأتي الإصلاح تدريجياً، ومتى يكون التغيير الراديكالي والفوري أمراً مناسباً؟ أحد البدائل يتبدى في قصة الأرنب والسلحفاة، عندما وصلت السلحفاة بمشيتها “البطيئة ولكن الثابتة” إلى خط النهاية، سابقة الأرنب الأسرع منها كثيراً، ولكنه كان الأقل استمرارية وثباتاً. المثل الثاني يتجسد في المقولة بأنه ليس من الفطنة قطع ذنب الكلب بالبوصات. وهنا تكمن إحدى أصعب المشاكل التي تُواجه نتيجة لتوسيع مجالات السوق. دعوني أُبين ذلك بالنسبة للتجارة الخارجية. لنفترض بأن بلداً كان يفرض مستويات مرتفعة من التعرفة الجمركية، يقرر الانتقال إلى وضع التجارة الحرّة. إن محاسن التحرر التدريجي واضحة. لقد استثمر رأس المال بطرق لم يعد من الممكن معها أن يمثل استخداماً فعالاً للثروة المتاحة ضمن الظروف الجديدة. معظم رأس المال آنذاك يكون في شكل آليات، ومباني، ومهارات إنسانية وما شابه ذلك. أليس واضحاً في مثل تلك الحالة أن يكون من الأجدى والأعدل تخفيض التعرفة تدريجياً؟ ذلك يعطي أرباب الثروات المتخصصة فرصة سحب رأسمالهم تدريجياً، وبالتالي تخفيض النفقات التي فرضها عليهم التغيير.

إن الدعوة إلى إزالة التعرفة بجرة قلم، أي بما يشبه المعالجة بالصدمة، هي أكثر دقة وتعقيداً، ومع ذلك، ومن منظور الكفاءة الاقتصادية، فإنها أكثر إقناعاً. فإلى المدى الذي تكون فيه الكفاءة الاقتصادية أعلى في استثمار الموارد في غياب التعرفة، يجب أن يتم ذلك، وإذا كان بالإمكان الحصول على أي مردود فوق الكلفة الهامشية، عن طريق مواصلة استخدام الموارد الإنسانية وغيرها، فإن من الأفضل الحصول على ذلك الهامش بدلاً من لا شيء. سوف يقع العبء على أرباب الموارد المتخصصة في الحال، ولكن استثماراً سلبياً سوف يتبع ذلك فقط، بالسرعة التي يتم بموجبها استخدام العمالة المتخصصة والموارد الأخرى، في مشاريع أخرى أكثر إنتاجية وجدوى. من الناحية الأخرى، فإن التخفيض التدريجي للتعرفة يتيح ربحاً فردياً نتيجة مواصلة استخدام الموارد الخاصة على مستوى أعلى، ولكن على حساب الكفاءة الاجتماعية، وبالتالي فرض كلف لا ضرورة لها على المجتمع.

إن إنهاء تضخم مستمر يخلق مشاكل مماثلة، وإنهاؤه بضربة واحدة، إذا لم يكن قد استشعر به قبل زمن طويل من ذلك، قد يتسبب في خسائر رأسمالية واسعة النطاق. وعقود طويلة الأجل كان قد تمّ التعاقد حولها بتوقعات معيّنة بالنسبة للتضخم قد تصبح فجأة غير مناسبة. فالدعوة من منظور العدالة لفترة انتقال تدريجية أقوى كثيراً بالنسبة لدرجة معتدلة من التضخم منها بالنسبة إلى التعرفة. إن النتائج المترتبة على كل من التضخم المسبق ونهايته غير المتوقعة، هي أكثر شمولاً، وتؤثر على أعداد أكبر من الناس الذين يكونون قد تضرروا أولاً من التضخم المسبق، ويتضررون مرة أخرى من إنهاء ذلك التضخم. إن تخفيض التضخم تدريجياً يسهل الفترة الانتقالية، كما يقلل من أكلاف تحقيق نموٍ حقيقي بمعزل عن التضخم.

ومع ذلك، فإن الكثير يتوقف على نسبة ارتفاع التضخم. فإذا كان التضخم عالياً جداً—على ارتفاع سنوي من ثلاث خانات—فإن الوضع يكون صعباً جداً. يكون جميع المشاركين في السوق قد عدَّلوا من ترتيباتهم بحيث يكونوا قد أخذوا كل التغييرات بالحسبان. إن زوال التضخم المفاجئ سوف يفرض كلفاً قليلة، لأن المؤسسات المالية وغيرها، تكون قد تأقلمت مع تغييرات حادة في نسبة التضخم—وبالحقيقة، فإن مثل هذا التأقلم يُمثل ثمناً رئيسياً نتيجة التضخم العالي والمتغيّر. والإزالة التدريجية في بعض الأحيان ليست مجدية، بسبب عدم توافر وقت كاف—يكون الكلب قد مات قبل أن يكون ذيله الطويل قد قُطِع بضع بوصات.

إن الرقابة المباشرة على الأسعار—سواءً كانت عامة أو محددة، أي على الإيجارات أو أسعار تبادل العملات—يجب أن يتم وضع حد لها في الحال. مارجريت ثاتشر وضعت حداً تاماً للرقابة على تبادل العملات وفي الحال. التأقلم التدريجي من شأنه فقط أن يطيل الضرر الذي تنزله الرقابة، ويعطي أرباحاً لا مبرر لها لمن يتعاملون فيها “من الداخل.” النقص في الإمدادات، والصفوف الطويلة وغيرهما من التشوهات التي تتأتى عن محاولات إبقاء الأسعار دون مستوى سعرها السوقي، سوف تستمر، مع أنها سوف تنخفض، وتنشأ مكانها مشاكل إضافية، ذلك لأن التدرج يُشجع على المضاربة ويشجع الخصوم على السعي لإعادة الوضع إلى ما كان عليه. حالة مماثلة تنطبق على محاولات الإبقاء على الأسعار حول معدلات أسعار السوق، كما يتبين بوضوح من السياسات الزراعية للولايات المتحدة واليابان والسوق الأوروبية المشتركة.

التغلب على المعيقات السياسية

لقد أقحَمَ هذا الموضوع نفسه بشكل حتمي في الأقسام السابقة. المشاكل العامة هنا هي حول كيفية تجاوز العقبات السياسية التي تقف في وجه توسيع السوق. إن الخطر ليس فقط أن تلك المعيقات من شأنها أن تُحبط السعي لتحرير السوق، ولكن، وبدرجة متساوية، أن يؤدي السعي للتغلب على الحواجز السياسية على تدمير فوائد تحرير السوق. التحدي هو في إيجاد وسائل للتغلب على تلك المعيقات دون خلق تلك الآثار الضارة. وتجارب الغرب في حقل الخصخصة يلقي ضوءً خاصاً على هذا الموضوع.

ربما تشكل التجربة البريطانية في الخصخصة أغنى مجموعات التجارب، وأكثرها تحليلاً، وإنني أوصي أصدقاءنا الصينيين الذين يسعون إلى توسيع السوق بدراسة العِبر المستفادة من تجربة الخصخصة البريطانية.

مثل بسيط من الولايات المتحدة يدلل على الموضوع هو خصخصة مصلحة البريد. إن خدمة البريد في أمريكا تملك احتكاراً في بريد الدرجة الأولى بسبب قوانين الإكسبرس الخاصة التي تحرم على الأفراد تحت طائلة التجريم تقديم خدمات نقل بريد الدرجة الأولى. ومحاولات عديدة جرت لممارسة ذلك ولكنها انتهت إلى المحاكم التي وضعت حداً لها. لقد أخذت الخصخصة في الزحف في تقديم خدمات على الهامش، أولاً في شكل خدمات نقل الطرود. لقد نجحت شركة (يونايتد بارسل سيرفس)، وغيرها من شركات نقل الطرود الأخرى، في أخذ معظم خدمات النقل التي كانت تتولاها مصلحة البريد سابقاً. يضاف إلى ذلك، خدمات المراسلين الفرديين وأكثرها شهرة (الفيديرال إكسبرس)، والتي كان نجاحها عظيماً لدرجة أن شركات عديدة أخرى دخلت إلى الميدان. التطورات التي كانت سوف تشجعها التقدمات التكنولوجية، بغض النظر عن وسيلة إبداء الخدمة، قد نمت بسرعة. والأمثلة على ذلك البريد الإلكتروني عبر الكومبيوتر والهاتف والفاكس، ومرة أخرى عن طريق الهاتف. هذه الأمثلة تُبين قوة الابتكار التي تملكها الأسواق الخاصة في الاستفادة من الفرص التي تتاح أمامها نتيجة عجز المؤسسات الحكومية.

لقد بُذلت محاولات متكررة سعياً وراء إلغاء قوانين الإكسبرس الخاص، بحيث تتمكن الشركات الخاصة من الدخول منافسة للخدمة البريدية الحكومية. ولكن جميع تلك المحاولات كانت تصطدم باحتجاجات عنيفة من قبل اتحادات موظفي البريد، ومن مديري خدمات البريد التنفيذيين، ومن المجتمعات الريفية التي تعتقد بأنها ستُحرم من الخدمات البريدية. ومن الناحية الأخرى، قليلون هم من يملكون اهتماماً قوياً ومركّزاً، يدفع بهم إلى تأييد إلغاء قوانين الإكسبرس التي تحمي الخدمة البريدية الحكومية. رجال الأعمال الذين يرغبون في دخول هذا الميدان، إذا كان متاحاً للقطاع الخاص، لا يعرفون مسبقاً بأنهم يستطيعون أن يفعلوا ذلك. مئات الآلاف من الناس، والذين سوف يحصلون على عمل دون شك، في حالة قيام خدمات بريدية خاصة، ليس لديهم أقل فكرة بأنهم سوف يحصلون على ذلك.

إحدى الطرق للتغلب على معارضة الخصخصة، وقد استخدمت على نطاق واسع في بريطانيا، وكما وصفها روبرت بوول، هي تحديد المعارضين المحتملين وإدخالهم في الصفقة، عن طريق تملك أسهم فيها. التطبيقات العملية لهذا المبدأ هي: (1) تملك الأسهم من قبل المستخدمين، و(2) الرأسمالية العامة.

إن فرصة تملك أسهم في المشروع من شأنها إحداث تغيير دراماتيكي على نظرة موظفي الخدمة العامة المنتظمين في نقابات، كما تبين في موضوع شركة الاتصالات البريطانية، فقد شجب موظفو النقابات الخصخصة المقترحة للشركة، طالبين من أعضاء النقابات عدم شراء الأسهم المعروضة للبيع. ولكن في نهاية الأمر، وعندما شعروا بفرصة الربح المالي، ابتاع حوالي 96% من القوة العاملة أسهم الشركة.

ويستخدم بوول تجربة شركة الاتصالات البريطانية للتدليل على الآلية الثانية ألا وهي: الرأسمالية العامة.

لتشجيع عملاء الخدمات الهاتفية على شراء أسهم، قدمت لهم سندات تمنحهم فيها خصماً على فواتير هواتفهم، إذا ما احتفظوا بأسهمهم لمدة لا تقل عن ستة أشهر. ولكي يمنعوا المؤسسات والشركات الكبرى من ابتياع حصة الأسد، فقد حدد شراء الأسهم بـ800 سهم لكل راغب في الشراء.

أحد المطبات التي يتوجب الابتعاد عنها في السير بهذا الأسلوب هو تزيين الصفقة عن طريق تحويلها من احتكار حكومي إلى احتكار خاص—والذي قد يُشكل تقدماً ولكنه يقل كثيراً عن النتيجة المرجوّة. إن تجربة خدمة البريد الحكومية الأمريكية تُبيّن المطلب، وكذلك زيف محاولة تقليد الخصخصة وتوقع أن يؤدي ذلك إلى جوهرها. فقد أنشئت كشركة حكومية ذات استقلال، وغير خاضعة للنفوذ السياسي المباشر، وبحيث تعمل على قواعد عمليات السوق. ولم تكن النتيجة على ذلك النحو، ولأسباب مفهومة. لقد بقيت احتكاراً، ولكنها لم تطور اهتماماً خاصاً قوياً لرفع كفاءة أدائها.

إن أفضل شكل بالنسبة لي للخصخصة هو ليس في بيع الأسهم على الإطلاق ولكن، في إعطاء المؤسسات التي تملكها الحكومة للمواطنين. إنني أسأل المعارضين، من يملك الشركات الحكومية؟ الجواب المعتاد هو: “الجمهور.” حسناً إذن، لماذا لا نجعل ذلك حقيقة بدلاً من تركها شعاراً براقاً؟ أقم شركة خاصة وأعطي لكل مواطن سهماً أو مائة سهم فيها. اتركهم أحراراً في شراء أو بيع تلك الأسهم. وفي زمن قصير سوف تصبح تلك الأسهم في أيدي رجال الأعمال، إما أن يبقوا على الشركة كما هي، ولنفترض أنها الخدمة البريدية، إذا كان ذلك أربح وأجدى، أو يقسمونها إلى عدد من الكيانات إذا بدا ذلك هو الأربح.

مثال أخير يُبين وجهة النظر هذه بشكل آخر. لقد سمح الروس بقطع أراضٍ صغيرة في مجال الزراعة. وتقدر تلك القطع الخاصة بحوالي 3% من أراضي الاتحاد السوفييتي القابلة للزراعة؛ وثلث مجموع الإنتاج الزراعي الذي يباع في الاتحاد السوفييتي يأتي من هذه القطع الصغيرة الخاصة. لقد اخترت كلماتي بعناية، إنني لم أقل بأن ثلث الإنتاج جاء من تلك المزارع الصغيرة، لأنني أكون مخطئاً لو قلت ذلك. إن نسبة كبيرة من الإنتاج الآتي من المزارع الصغيرة هو حقاً من إنتاجها. ولكن يساورني شك قوي بأن قسماً كبيراً منه أيضاً قد تم تحويله من المزارع الجماعية.

على امتداد عقود، كان واضحاً لحكام الاتحاد السوفييتي بأن في مقدورهم زيادة الإنتاج الزراعي زيادة كبيرة، عن طريق زيادة حجم ودور المزارع الخاصة. لماذا لم يفعلوا ذلك؟ لم يكن ذلك بكل تأكيد بسبب الجهل. الجواب بوضوح هو أن الخصخصة سوف تؤدي إلى إقامة مراكز سلطة مستقلة، والتي بدورها سوف تنقص من سلطات البيروقراطية السياسية. لقد اعتبر الحكام الثمن السياسي الذي يتوجب عليهم دفعه، أعلى من الفائدة الاقتصادية التي سوف يجنونها. في هذه اللحظة، وتحت تأثير مثل هذه السياسة في الصين، كما أشك، فإن الرئيس غورباتشوف يتحدث عن توسيع كبير للمزارع الخاصة. وليس واضحاً أبداً إن كان سينجح في ذلك.

إستبداد الوضع القائم

إن قضايا التغلب على المصالح الذاتية الكامنة، وتفويت مساعي الإيجار، تنطبق تقريباً على جميع محاولات إحداث تغييرات في السياسات الحكومية، سواء أكان التغيير متصلاً بالخصخصة، أو إزالة قواعد عسكرية، أو تخفيض المعونات، أو أي شيء آخر. إن النتيجة المتمثلة في استبداد الوضع القائم، كما عنوَنتُ أنا وزوجتي كتاباً وضعناه مؤخراً، والذي يبحث أمثلة واسعة لمثل تلك الحالات في الولايات المتحدة، هو السبب الرئيسي الذي يجعل الآليات السياسية اقل فعالية كثيراً من آليات السوق الحر، في تشجيع التغييرات الديناميكية، وفي تحقيق النمو والرخاء الاقتصادي.

هنالك حِكَمٌ بسيطة للتغلب على استبداد الأوضاع القائمة. ولكن هنالك حكمة واحدة تنطبق أكثر من غيرها، على البحث الذي أجريناه سابقاً بشأن التغيير التدريجي مقابل التغيير المفاجئ. إذا كان الهدف خصخصة فعالية حكومية أو إلغاءها، فليتم ذلك بشكل كامل ودون تردد. لا تلجأ إلى الحل الوسط بتأميم جزئي، أو تخفيض جزئي. إن مثل ذلك سوف يترك المجال لمجموعة من المعارضين المصممين، للعمل بإصرار، وكثيراً ما يكون بنجاح، لإلغاء التغيير. لقد حاولت إدارة ريغان مراراً خصخصة أمتراك (خدمة السكك الحديدة للركاب)، وأن تلغي شركة الخدمات القانونية. وفي كل حالة، تمت تسوية الأمر بتخفيض في الموازنة وتحقيق نصر مرحلي مؤقت. ومن الناحية الأخرى، فإن الإلغاء التام لمجلس إدارة الطيران المدني يعطي أملاً أكبر كثيراً بأن تحرير النقل الجوي وشركات الطيران هو هنا ليبقى.

وفي الختام، هنالك وسائل أفضل، أو أسوأ، لخصخصة اقتصاد موجه؛ ولكن لا توجد صيغة سحرية للانتقال بسهولة ودون ألم من اقتصاد موجه إلى اقتصاد طوعي قائم على التبادل التجاري. ومع ذلك، فإن المكاسب المتوقعة كبيرة إلى حد أنه إذا كان بالإمكان تحقيق التحول، فإن الكلفة المرحلية سوف تكون باهتة بالنسبة للمكاسب. إن زعماء الصين الحاليين يستحقون الإشادة لإدراكهم بأن المكاسب المتوقعة تُقزِّم التكلفة المرحلية، ولأنهم يبذلون جهوداً جدّية حثيثة لإنجاز المرحلة الانتقالية. الشعب الصيني سيكون الكاسب الأكبر، ولكنه ليس الوحيد أبداً الذي سوف يستفيد من نجاح هذه الجهود. فجميع شعوب العالم سوف تستفيد من ذلك.

إن السلام والرخاء العميم المشترك هما الجائزة العليا للتعاون الطوعي على امتداد العالم، كوسيلة رئيسية لتنظيم النشاط الاقتصادي.

* ميلتون فريدمان، إقتصادي أمريكي، وهو من أعمدة “مدرسة شيكاغو” للاقتصاد، من أبرز المروّجين للنظام الرأسمالي التنافسي، ومؤلف كتاب: الحرية والرأسمالية، والذي حدد فيه الدور المناسب للحكومة ضمن نظام السوق الحر المثالي، من أجل خلق وصون الحريات السياسية والاجتماعية، حاصل على جائزة نوبل للاقتصاد للعام 1976
http://minbaralhurriyya.org

اضف تعليق