قد تضع جائحة كوفيد 19 حدا لعصر التبادل الحرّ المحموم، هذا النظام الاقتصادي المُصَمَّم على مقاس القطاع الخاص والذي نتجت عنه تكاليف ملحوظة لكلّ ساكنة المعمور منذ سنوات خلت، هناك مصالح قوية تعترضه: إنهم يدافعون عن صعود رأسمالية الأزمة بشكل يضمن استئناف كلّ شيء كما...
بقلم: LORI M. WALLACH
Directrice de public citzen’s global trade wach. Washington, DC
ترجمة: خاليد جوهري

في دائرة اللبراليين هناك شعار وحيد: بعد مرور الجائحة ستؤول الأمور إل نصابها. ماذا لو شكّلت هذه الأزمة فرصة للقطع مع النموذج الذي أفضى إلى ظهور فيروس كورونا وانتشاره؟

قد تضع جائحة كوفيد 19 حدا لعصر التبادل الحرّ المحموم، هذا النظام الاقتصادي المُصَمَّم على مقاس القطاع الخاص والذي نتجت عنه تكاليف ملحوظة لكلّ ساكنة المعمور منذ سنوات خلت، هناك مصالح قوية تعترضه: إنهم يدافعون عن صعود "رأسمالية الأزمة" بشكل يضمن استئناف كلّ شيء كما كان من قبل، ويظهر جليا أن بعض القادة السياسيين يفتقرون إلى الشجاعة أو إلى التخمين اللازم للمضيّ نحو هذا التحول –عندما لا يضعون أنفسهم في خدمة أرباب لعمل- ومع ذلك يمكننا تحديد أربعة أسباب قد تجعل من أزمة كوفيد 19 فرصة غير مسبوقة، لقد حان الوقت لإصدار استراتيجية الصدمة، هذه الآلية التي وصفها نعومي كلين Naomi Klein الذي كان غالبا ما يسمح للمهيمنين باستغلال الأزمات من أجل إعادة تنظيم العالم على ذوقهم.

أول مصدر للأمل: أن الجائحة دفعت أغلب ساكنة الدول المتقدمة إلى تجريب الألم والكرب الذي تخلّفه العولمة الليبرالية في عقر دارها، في عالم سُخِّر لخدمة الشركات متعددة الجنسيات، فحتى الدول الثرية لم تعد قادرة على إنتاج أو الحصول على أجهزة التنفس الصناعي أو الوسائل الطبية الضرورية لعلاج المرضى أو حتى الكمامات، لقد أدى وقف الإنتاج في أحد البلدان إلى ردود فعل متسلسلة للأنظمة الطبية والاقتصادية والتي جعلت العالم بأسره يركع، مما زاد من حدة خسائر كورونا.

إن الولاء لإله الفعالية الذي يعتلي عرش الأولمبيوس "التبادل الحر" أدى إلى مطاردة الطاقات غير المستعملة، ذلك أن في هذه الظروف ستتوقف سلسلة الإنتاج بكاملها إذا لم تشتغل واحدة من بين مئات حلقاتها –مجتمع ما في بقعة من بقاع المعمور-، فعندما يمرض بعض العمال في بلد ما وعندما نضع إجراء التباعد الاجتماعي حيز التنفيذ للحيلولة دون تفشي الفيروس، وعندما تفضل الحكومات حاجات شعوبها على الصادرات، فإن نقص المواد الأساسية سيظهر سريعا؛ آنذاك سيكتشف العديد من الأشخاص المحنة التي كان ولازال يعرفها ملايين العمال والفلاحين الصغار والمجتمعات المهملة على جنبات الطريق السيار للعولمة.

فالضفدع الذي ارتمى في الإناء لم يستشعر أن حرارة هذا الأخير تتزايد، حيث كانت الكارثة المفاجئة وحدها كفيلة بإيقاظ كل من استبعدوا أي تهديد، وحتى من اتخذوا تمجيد العولمة كتخصص للدفاع عن اتفاقيات التبادل الحر، أصبحوا الآن يُقرون بأن الأمور ستذهب بعيدا بدون شك وأن نموذج الإنتاج المحلي سيحمل الكثير من الإيجابيات، ولم نعد نلحظ المقالات التي تعالج هذا التراجع في أعمدة بعض الجرائد العالمية المبشِّرة باقتصاد السوق (the Economist ou du Financial times).

المصدر الثاني للأمل: لقد تحطّمت الحدود التي كانت تثبت "حدود العقل" حيث لا تقدر أية حكومة على التوضيح: "للأسف لا يمكننا اتخاذ التدابير المفروضة لأنها تتعارض وقواعد كبريات منظمات التجارة الدولية". المواجهات التي يتطلبها تهديد كوفيد 19 تدفع الحكومات إلى تقطيع ورقة المبادئ الكبرى التي كانت وراء العولمة الليبرالية، ذلك أنه من الصعب تخيل العودة السريعة إلى وضعية البداية، ولا يتأتّى ذلك إلا بالدور الجديد الذي ستلعبه الحكومات مُجبرة بسبب الجائحة.

لقد جعلت الكثير من الدول من المصاريف التي رُصدت لحد الآن جوهر سياستها: التقصير في واجبها المتمثل في حماية الشعوب عوض الخوض في إملاءات القطاع الخاص حيث سيقرر بعضهم الاستجابة لانتظارات ناخبيهم: جعل حاجات الساكنة أولوية والتدخل عند حاجتنا إليهم.

لازالت أشهر قليلة وسيكون من الصعب علينا تخيل عيد الغطاس épiphanie الذي صاغته السيدة سابين وياند Sabine Weyand المديرة العامة للتجارة للجنة الأوربية، وكذلك الحال عندما نظمت الجمعية الدولية للتجارة بواشنطن (WITA) محاضرة في 9 أبريل 2020: " علينا الاعتراف أنه لا يمكننا ترك السوق وحده يُخصص الموارد النادرة في عز العاصفة، يجب قبول فكرة إلزامية توجيهها نحو قطاع الصحة عوض ترك المضاربين يستحوذون عليها.

لكن السيدة وياند تدافع عن عودة الأعمال إلى ما كانت عليه متى أمكن ذلك. في حين أبان مفوض التجارة فيل هوكان Phil HOGAN عن جرأة كبيرة: لقد اقترح بدء المفاوضات الرامية إلى رفع كل القيود المطبَّقة على الأجهزة الطبية "بشكل يضمن اشتغال سلاسل الإنتاج الكلي بشكل سلس" (خطاب 16 أبريل 2020)، ليختلف مع المتحمسين للعولمة على تقديم أي مجهود لإعادة توطين الإنتاج (relocalisation)، والذي تم رسمه بشكل كاريكاتوري كبحث تافه على "الاكتفاء الذاتي"؛ لكن المسألة ليست هي الاختيار بين العولمة والاكتفاء الذاتي بل يتعلق الأمر بعدد لا يستهان به من الناس فهموا أن بلدانهم لم تكن تحميهم في نظام التبادل الحر ولن ينسوا ذلك أبدا.

وبالشكل ذاته، تبدو حججا واهية تلك الخطابات السعيدة الداعمة لمزايا سياسة "الوقت المناسب" و"الأداء العالي" مادام الجميع يستفيد منها: الكل يعتبر أن هذا النظام يرمي إلى تحقيق أعلى الأرباح على حساب كل من صحة البشر والإنصاف والأمن القومي؛ وتجدر الإشارة إلى أن شيئا ما قد تغير، فقد نشر وزراء التجارة لبلدان مجوعة العشرين خبرا في 30 مارس مفاده أن التدابير اللازمة لمكافحة الجائحة قد كانت عبارة عن استثناءات مشروعة لقواعد منظمة التجارة العالمية OMC، ذلك أن الكثير من الإجراءات المنتهِكة لقيود المؤسسة المذكورة أبانت في الأخير عن طريقة منعها للسلطات العمومية للاستجابة لحاجات شعوبها.

المصدر الثالث للأمل: لقد نجحت الأزمة في خلخلة الخطوط السياسية المتصدعة فيما يتعلق بالتبادل خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية إذ عوض التقسيم يسار-يمين كشفت عن تقسيم آخر: الشعبيون ضد اللوبيين من القطاع الخاص، فالسيد بيرني ساندرس Bernie Sanders والسيدة اليزابيت وارن Elisabeth Warren اللذان ينتميان لليسار يدافعان عن نهاية هذه العولمة التي هي على مقاس تفضيلات أرباب العمل.

لكن هذه النظرة إلى العالم وجدت صدى لدى شعبيّي اليمين: " لقد أبانت هذه الجائحة عن قصور في حجم سلاسل التوريد، ذلك أننا لم نعد ننتج بعض المواد الأساسية على التراب الأمريكي مما يشكل تهديدا لصحتنا وأمننا القومي ولاقتصادنا كذلك، فالأمريكيون لم يكتشفوا هذا المشكل لكن واشنطن تدركه، و وول ستريت من جهتها تتمنى أن لا نتّهمها بالتلبّس." هذه النقطة لم يذكرها ساندرس و وارن بل ذكرها السيناتور الجمهوري جوش هاولي Josh Hawley في 3 أبريل.

المصدر الرابع للأمل: تسارع إعادة التقييم المعمَّم –من طرف الحكومات وبل حتى الشعوب أيضا- للأوهام المحيطة بنظام الاقتصاد العالمي والدور المخصص للصين كمَصْنَع للمعمور، وكتوضيح لهذا التغيير المفاجئ: أعلنت طوكيو عن برنامج يرمي إلى مساعدة الشركات متعددة الجنسيات على مغادرة الصين بمبلغ ملياري دولار أي ما يعادل 1.8 أورو(1)؛ وقبل الجائحة كانت العديد من البلدان تبحث عن وسيلة لتعزيز قدراتها على البحث والإنتاج لكي تتصدى للعبارة "صُنِع في الصين 2025"؛ والبرنامج الذي وضعته بيكين لاحتكار الصناعات المستقبلية ( الذكاء الاصطناعي، السيارات الصديقة للبيئة، مجال الفضاء، التكنولوجيا الطبية...) هذا الاهتمام المتزايد لبيكين بخصوص جهود تعزيز التحكم فائق التقنية جعل بعض المعلقين يطلقون عليه ( مركنتيلية التجديد) (2) وتطوير قدراتها العسكرية المموَّل بالفائض التجاري الضخم، كل هذا غيّر تغييرا جذريا مواقع النخب السياسية والمسؤولين عن الأمن القومي للعديد من البلدان في مسألة السياسة الخارجية.

هذه الأسباب الأربعة توحي إلى أن أزمة كوفيد-19 قد تعيد تنظيم الديناميات المُنظِّمة للنقاشات التي تدور حول النظام الاقتصادي العالمي وذلك في لحظة أصبح الاهتمام ب "من ينتج ماذا" مسألة حياة أو موت.

إذا ما توصلنا إلى أن الأزمة تؤدي إلى تغييرات إيجابية، سنتمكن من إعادة بناء اقتصادات محلية ووطنية وإقليمية أكثر قوة، تم تصميمها من قبل فاعلين مختلفين قادرين على إنتاج سلع وخدمات ضرورية بأثمنة معقولة مع خلق مناصب شغل لائقة ودعم الفلاحين الصغار وحماية البيئة، وهذا ما تتطلبه الأزمة المناخية أيضا.

هل نذكر أنه إلى حدود منتصف التسعينات كانت قواعد التجارة الدولية تعتبر أن المواد الغذائية ليست بضاعة كباقي البضاعات؟ لماذا؟ لأن الجميع يحتاج المواد الغذائية من أجل بقائه، وقد فرضت الدول إذن هامش أمان يسمح لهم بتحديد كيفية تأمين تزويد شعوبها، بما في ذلك تشكيل المخزون أو دعم بعض المنتجات، هذا المنطق يجب أن يطال قطاعات مهمة أخرى كالأدوية والتجهيزات الطبية حيث أبان القصور الكبير في إنتاجها على المستوى الوطني أو الإقليمي عن هشاشة بعض الدول.

نعلم جيدا عُدّة السياسات الصناعية الوطنية التي تبدو ذات صيت سلبي في كل مكان إلا في الصين، حيث أبانت عن نجاحها، إذ نجد هناك تدابير ضريبية تكافئ الإنتاج الوطني للصناعات الصديقة للبيئة وليس ترحيل الإنتاج، وكذا تدابير التقنين المالي الذي يشجع الاستثمارات الإنتاجية وليس المضاربة، ثم حماية المحتويات الوطنية والإقليمية في مختلف القطاعات، بالإضافة إلى تقنين الملكية الفكرية التي تسمح باقتناء الأدوية والتكنولوجيا الطبية بأرخص الأثمنة مع تحفيز الابتكار وتشجيع البحث وتكوين العمال والمتعلمين... ولا يرتبط وضع هذه السياسات حيز التنفيذ بغياب الأفكار بل بالإرادة السياسية.

..........................................
(1)Kenneth Rapoza, « Japan ditches China in multi-billion dollar coronavirus shakeout », Forbes, New York, 9 avril 2020, www.forbes.com
(2)Robert D. Atkinson, « The case for a national industrial strategy to counter China’s technological rise », Information Technology & Innovation foundation, 13 avril 2020 www.itif.org
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق