والسياسة الصناعية، التي تقدم الحكومات الدعم من خلالها لكل قطاع على حدة، يمكن أن تدفع الابتكار إذا نُفِّذَت بالشكل السليم. ولكن تحقيق التوازن الصحيح أمر بالغ الأهمية ينبغي أن يؤخذ في الحسبان، لأن التاريخ مليء بقصص تحذر من أخطاء السياسات، وارتفاع تكاليف المالية العامة، والتداعيات السلبية على البلدان الأخرى...
بقلم: إيرا دابلا-نوريس، فيتور غاسبار

قد تميل البلدان إلى التحول نحو السياسة الصناعية، لكن وضع مزيج من السياسات يدعم الابتكار على نطاق أوسع يمكن أن يساعد على دفع النمو الاقتصادي.

يسعى كثير من البلدان في الوقت الحاضر إلى استخدام السياسية الصناعية بكثافة لإعطاء دفعة للابتكار في قطاعات محددة على أمل إنعاش الإنتاجية والنمو طويل المدى مجددا، وسط المخاوف الأمنية. ويمر العالم بفترة من ازدهار مبادرات كبيرة في مختلف أنحائه مثل قانون الرقائق والعلوم في الولايات المتحدة الذي سيمول البحوث المحلية وتصنيع أشباه الموصلات، أو خطة الصفقة الخضراء الصناعية في الاتحاد الأوروبي، التي تدعم تحول المجموعة إلى الحياد المناخي، أو التوجيه الجديد بشأن الاقتصاد والسياسة الصناعية في اليابان، أو قانون الرقائق الكوري إلى جانب السياسات المطبقة منذ فترة طويلة في اقتصادات الأسواق الصاعدة مثل الصين.

والسياسة الصناعية، التي تقدم الحكومات الدعم من خلالها لكل قطاع على حدة، يمكن أن تدفع الابتكار إذا نُفِّذَت بالشكل السليم. ولكن تحقيق التوازن الصحيح أمر بالغ الأهمية ينبغي أن يؤخذ في الحسبان، لأن التاريخ مليء بقصص تحذر من أخطاء السياسات، وارتفاع تكاليف المالية العامة، والتداعيات السلبية على البلدان الأخرى.

والتحول في الآونة الأخيرة نحو السياسة الصناعية بهدف دعم الابتكار في قطاعات وتكنولوجيا محددة ليس حلا سحريا، كما يوضح لنا أحد فصول عدد إبريل 2024 من تقرير "الراصد المالي". وبدلا من ذلك، فإن سياسات المالية العامة المصممة بشكل جيد وتدعم الابتكار ونشر التكنولوجيا على نطاق أوسع، مع التركيز على العمل البحثي الأساسي الذي يشكل أساس الابتكار التطبيقي، يمكن أن تؤدي إلى ارتفاع النمو عبر البلدان وتعجيل التحول إلى اقتصاد أكثر اخضرارا ورقمنة.

ويتضح من تقييمنا للطريقة التي ينبغي انتهاجها في توجيه دعم المالية العامة للابتكار في قطاعات محددة أن اتباع هذه السياسات لا يولد مكاسب الإنتاجية والرفاهية إلا في ظل ظروف مشددة:

- عندما تولد القطاعات المستهدفة منافع اجتماعية قابلة للقياس، مثل خفض انبعاثات الكربون أو انتشار تداعيات أكبر من خلال انتقال المعرفة إلى قطاعات أخرى؛

- وعندما تخلو السياسات من التمييز ضد الشركات الأجنبية؛

- وعندما تمتلك الحكومة قدرة قوية على إدارة هذه السياسة وتنفيذها.

ويعتمد معظم السياسات الصناعية بشدة على الدعم المُكلِف أو التخفيف الضريبي، الأمر الذي يمكن أن يكون ضارا بالإنتاجية والرفاهية إذا افتقر توجيهه إلى الفعالية. ونرى ذلك مرارا وتكرارا، كما في حالات سوء توجيه الدعم نحو قطاعات ذات صلات سياسية على سبيل المثال. وإضافة إلى ذلك، التمييز ضد الشركات الأجنبية يمكن أن يصبح مثبطا لذاته، لأن من شأن هذه السياسات أن تكون دافعا للانتقام وما يترتب عليه من تكلفة بينما معظم البلدان – وحتى الاقتصادات المتقدمة الكبرى – يعتمد على ابتكارات بلدان أخرى.

ويمكن تبرير اعتماد السياسة الصناعية في بعض الحالات، مثل دعمها لقطاعات يتولد عنها انتقال المعرفة بقوة إلى الاقتصاد المحلي (في حالة صناعة أشباه الموصلات، على سبيل المثال). ومن الحالات المهمة الأخرى لاستخدامها هي دفع الابتكار الأخضر – فالوصول إلى صافي الانبعاثات الصفري سيقتضي توفير تكنولوجيا لا وجود لها بعد. غير أن دعم الابتكار الأخضر ينبغي أن يكون شفافا، ويركز على الأهداف البيئية، ويكمله تسعير قوي للكربون بهدف تخفيض تكاليف المالية العامة إلى أدنى حد.

وبصورة أعم، ينبغي للحكومات التي تستخدم السياسات الصناعية أن تستثمر في القدرات الفنية، وأن تعيد معايرة الدعم الذي تقدمه مع تغير الظروف، وتعمل على نحو يتماشى مع الأسواق المفتوحة والقائمة على المنافسة. ويتعين عليها أن تصمم هذه السياسة بهدف تجنب الإنفاق المهدر للموارد والتدابير الحمائية التي يمكن أن تفضي إلى مزيد من تشرذم التجارة العالمية.

مزيج سياسات المالية العامة الداعمة للابتكار

من المستحسن أن تعمل الاقتصادات المتقدمة في مجال التكنولوجيا على اختيار مزيج السياسات الذي يدعم الابتكار بشكل أعم، وخاصة لأن العمل البحثي الأساسي واسع التطبيقات عادة ما ينقصه التمويل.

وإحدى الطرق فعالة التكلفة في دفع الابتكار والنمو هي تنفيذ مزيج مكمل من التمويل العام للعمل البحثي الأساسي، وتقديم منح تدعم البحوث والتطوير في الشركات البادئة الابتكارية، ومنح حوافز ضريبية لتشجيع الابتكار التطبيقي على مستوى الشركات. وتشير تقديراتنا إلى أن زيادة في الإنفاق على هذه السياسات قدرها 0,5 نقطة مئوية من إجمالي الناتج المحلي – أو حوالي 50% من المستوى الحالي في اقتصادات منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي – يمكن أن ترفع إجمالي الناتج المحلي بما يصل إلى 2% في متوسط الاقتصادات المتقدمة. والوصول إلى هذا المستوى من الإنفاق على الابتكار يمكن أن يخفض نسبة الدين إلى إجمالي الناتج المحلي على المدى الطويل.

غير أن التصميم مهم. فالمنح تحقق أكبر قدر من المنفعة إذا وُجِّهَت نحو المراحل الأولى من دورة حياة الابتكار أي، على سبيل المثال، إذا كان يتحتم تيسير الحصول على الحوافز الضريبية لكي لا تقتصر منفعتها على الشركات الكبيرة الراسخة فحسب.

وفي حين أن دعم الابتكار يمكن أن يؤتي ثماره في الأجل الطويل، قد يتعين على البلد التي ليس لديها سوى حيز محدود للإنفاق من المالية العامة أن تعيد تحديد أولويات مصارف الإنفاق الأخرى وتعمل على تعبئة مزيد من الإيرادات في الأجل القصير.

وتختلف الأولويات بالنسبة للبلدان الأقل تقدما في مجال التكنولوجيا. ويمكن لحكوماتها أن تحقق مكاسب إنتاجية أكبر من خلال السياسات التي تشجع على نشر التكنولوجيا التي طورتها بلدان أخرى. ولكنها يجب أن تستثمر في رأس المال البشري والبنية التحتية الاستراتيجية لكي تجنى المنافع الكاملة من التدفقات التكنولوجية الداخلة.

وفي كل البلدان، يكتسب توثيق أواصر التعاون الدولي وزيادة تبادل المعرفة أهمية بالغة في تعجيل التحول الأخضر والرقمي وتحقيق مستقبل أكثر رخاء. أما السياسات المنغلقة فهي تقلص إمكانات العالم الابتكارية وتبطىء نشر التكنولوجيا، ولا سيما إلى البلدان التي هي في أمس الحاجة إليها.

* تستند هذه التدوينة إلى الفصل 2 فيعدد إبريل 2024 من تقرير الراصد المالي.

https://www.imf.org/

اضف تعليق