q
أصول العقائد فيجب أخذها عينا من الشرع والعقل، وهما متلازمان لا يتخلف مقتضى أحدهما عن مقتضى الآخر، إذ العقل هو حجة الله الواجب امتثاله والحاكم العدل الذي تطابق أحكامه الواقع ونفس الأمر، فلا يرد حكمه، ولولاه لما عرف الشرع، ولذا ورد: إنه ما أدى العبد...

العلم كله وإن كان كمالا للنفس وسعادة، إلا أن فنونه متفاوتة في الشرافة والجمال ووجوب التحصيل وعدمه، فإن بعضها كالطب والهندسة والعروض والموسيقى وأمثالها، مما ترجع جل فائدته إلى الدنيا ولا يحصل بها مزيد بهجة وسعادة في العقبى، ولذا عدت من علوم الدنيا دون الآخرة، ولا يجب تحصيلها، وربما وجب تحصيل بعضها كفاية.

وما هو علم الآخرة الواجب تحصيله، وأشرف العلوم وأحسنها هو العلم الإلهي المعرف لأصول الدين، وعلم الأخلاق المعرف لمنجيات النفس ومهلكاتها، وعلم الفقه المعرف لكيفية العبادات والمعاملات، والعلوم التي مقدمات لهذه الثلاثة كالعربية والمنطق وغيرهما يتصف بالحسن ووجوب التحصيل من باب المقدمة.

وهذه العلوم الثلاثة وإن وجب أخذها إجمالا إلا أنها في كيفية الأخذ مختلفة: فعلم الأخلاق يجب أخذه عينا على كل أحد على ما بينته الشريعة وأوضحه علماء الأخلاق، وعلم الفقه يجب أخذ بعضه عينا إما بالدليل أو التقليد من مجتهد حي، والتارك للطريقين غير معذور، ولذا ورد الحث الأكيد عن التفقه في الدين قال الصادق (ع): عليكم بالتفقه في دين الله ولا تكونوا أعرابا فإنه من لم يتفقه في دين الله لم ينظر الله إليه يوم القيامة ولم يزك له عملا. وقال: ليت السياط على رؤوس أصحابي حتى يتفقهوا في الحلال والحرام، وقال (ع): إن آية الكذاب أن يخبرك خبر السماء والأرض والمشرق والمغرب، فإذا سألته عن حرام الله وحلاله لم يكن عنده شيء.

 وأما أصول العقائد فيجب أخذها عينا من الشرع والعقل، وهما متلازمان لا يتخلف مقتضى أحدهما عن مقتضى الآخر، إذ العقل هو حجة الله الواجب امتثاله والحاكم العدل الذي تطابق أحكامه الواقع ونفس الأمر، فلا يرد حكمه، ولولاه لما عرف الشرع، ولذا ورد: إنه ما أدى العبد فرائض الله حتى عقل عنه، ولا بلغ جميع العابدين في فضل عبادتهم ما بلغ العاقل (1).

فهما متعاضدان ومتظاهران، وما يحكم به أحدهما يحكم به الآخر أيضا، وكيف يكون مقتضى الشرع مخالفا لمقتضى ما هو حجة قاطعة وأحكامه للواقع مطابقة، فالعقل هو الشرع الباطن والنور الداخل، والشرع هو العقل الظاهر والنور الخارج. وما يتراءى في بعض المواضع من التخالف بينها إنما هو لقصور العقل أو لعدم ثبوت ما ينسب إلى الشرع منه، فإن كل عقل ليس تاما، وكلما ينسب إلى الشرع ليس ثابتا منه، فالمناط هو العقل الصحيح وما ثبت قطعا من الشريعة، وأصح العقول وأقواها وأمتنها وأصفاها هو عقل صاحب الوحي. ولذا يدرك بنوريته ما لا سبيل لأمثال عقولنا إلى دركه، كتفاصيل أحوال نشأة الآخرة، فاللازم في مثله أن نأخذه منه إذعانا وإن لم نعرف مأخذه العقلي.

أصول العقائد المجمع عليها

ثم ما أجمعت الأمة المختارة عليه من أصول العقائد هو: أن الواجب سبحانه موجود، وإنه واحد في الألوهية، وبسيط عن شوائب التركيب، ومنزه عن الجسمية وعوارضها، وإن وجوده وصفاته عين ذاته، وإنه متقدم على الزمان والمكان ومتعال عنهما، وإنه حي قديم أزلي قادر مريد عالم بجميع الأشياء، وعلمه بها بعد إيجادها كعلمه بها قبله، ولا يزداد بإحداثها علما، وإن قدرته عامة بالنسبة إلى جميع الممكنات، وإنه يخلق ما يشاء ويفعل ما يريد، ولا يكون شيء إلا بمشيئته، وإنه عدل في حكمه صادق في وعده.

وبالجملة مستجمع لجميع الصفات الكمالية، وليس كمثله شيء، ولا يتصور عقل ولا وهم مثله، بل هو تام فوق التمام. وإن القرآن كلامه، ومحمد -صلى الله عليه وآله وسلم- رسوله، ما أتى به من أمور النشأة الآخرة من الجنة والنار والحساب والثواب والعقاب والصراط والميزان والشفاعة وغير ذلك مما ثبت في شريعته المقدسة حق ثابت، فيجب على كل مؤمن أن يأخذ بجميع ذلك ويتشبث به ويجرد باطنه له، بحيث لو أورد عليه ما ينقضه لم يقبله ولم يعرضه شك وريب.

ثم إن المكلفين مختلفون في كيفية التصديق والاذعان بالعقائد المذكورة، فبعضهم فيها على يقين مثل ضوء الشمس، بحيث لو كشف عنهم الغطاء ما ازدادوا يقينا (2)، وبعضهم على يقين دون ذلك، وأقل هؤلاء رتبة أن تصل مرتبة يقينهم إلى طمأنينة لا اضطراب فيها، وبعضهم على مجرد تصديق ظني يتزلزل من الشبهات وإلقاء النقيض، وإلى هذا الاختلاف أشار الإمام محمد بن علي الباقر - عليهما السلام - بقوله: إن المؤمنين على منازل: منهم على واحدة، ومنهم على اثنتين، ومنهم على ثلاث، ومنهم على أربع، ومنهم على خمس، ومنهم على ست، ومنهم على سبع، فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقو، وعلى صاحب الثنتين ثلاثا لم يقو.. إلى آخره (3).

والإمام أبو عبد الله الصادق عليه السلام بقوله: إن للإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل، فمنه التام المنتهي تمامه، ومنه الناقص البين نقصانه، ومنه الراجح الزائد رجحانه... (4).

 ولا ريب في أن تحصيل ما يطمئن به القلب في العقائد الواجبة أخذها مما لا بد منه لكل مكلف، ومجرد التصديق من غير اطمئنان القلب غير كاف للنجاة في الأخرى والوصول إلى مراتب المؤمنين. ومع حصول الاطمئنان تحصل النجاة والفوز بالفلاح، وإن لم يكن حصوله من تفاصيل البراهين الحكمية والدلائل الكلامية، بل كان حاصلا من دليل إجمالي برهاني أو اقناعي، إذ الشرع الشريف لم يكلف بأكثر من التصديق والجزم بظاهر العقائد المذكورة، ولم يكلف البحث والتفتيش عن كيفياتها وحقائقها وعن تكلف ترتيب الأدلة في نظمها، فلو حصل لأحد طمأنينة في اتصاف الواجب بجميع الصفات الكمالية وبراءته عن الصفات السلبية، بمجرد أن عدم الاتصاف بالأولى والاتصاف بالثانية نقص لا يليق بذاته الأقدس، كان كافيا في النجاة والدخول في زمرة المؤمنين. وكذا إذا حصل له ذلك بمجرد أن هذا مما اتفق عليه فرق الأنبياء وأساطين الحكماء والعلماء، وقوة عقولهم ودقة أفهامهم تأبى عن اتفاقهم على محض الخطأ. وقس على ذلك غيره مما يفيد الاطمئنان كائنا ما كان.

 قال العلامة (الطوسي) - ره - في بعض تصانيفه: أقل ما يجب اعتقاده على المكلف هو ما ترجمة قول لا إله إلا الله محمد رسول الله، ثم إذا صدق الرسول ينبغي أن يصدقه في صفات الله واليوم الآخر وتعيين الإمام المعصوم، كل ذلك مما يشتمل عليه القرآن من غير مزيد برهان: أما في صفات الله فبأنه حي عالم قادر مريد متكلم ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، وأما في الآخرة فبالإيمان بالجنة والنار والصراط والميزان والحساب والشفاعة وغيرها ولا يجب عليه أن يبحث عن حقيقة الصفات، وإن الكلام والعلم وغيرهما حادث أو قديم، بل لو لم تخطر هذه بباله ومات مات مؤمنا، فإن غلب على قلبه شك أو إشكال، فإن أمكن إزالته بكلام قريب من الأفهام وإن لم يكن قويا عند المتكلمين ولا مرضيا فذلك كاف، ولا حاجة إلى تحقيق الدليل، فإن الدليل لا يتم إلا بذكر الشبهة والجواب، ومهما ذكرت الشبهة لا يؤمن أن تتشبث بالخاطر والقلب فيظنها حقة لقصوره عن إدراك جوابها، إذ الشبهة قد تكون جلية والجواب دقيقا لا يحتمله عقله، ولذا ورد الزجر عن البحث والتفتيش في الكلام، وإنما زجر ضعفاء العوام، وأما أئمة الدين فلهم الخوض في غمرة الإشكالات.

 ومنع العوام عن الكلام يجري مجرى منع الصبيان عن شاطئ دجلة خوفا من الغرق، ورخصة الأقوياء فيه أيضا هي رخصة الماهر في صنعة السباحة، إلا أن ههنا موضع غرور ومزلة قدم، وهو إن كل ضعيف في عقله يظن أنه يقدر على إدراك الحقائق كلها، وإنه من جملة الأقوياء فربما يخوضون ويغرقون في بحر الجهالات منم حيث لا يشعرون، فالصواب منع الخلق كلهم -إلا الشاذ النادر الذي لا تسمح الأعصار إلا بواحد منهم أو اثنين- من تجاوز سلوك أهل العلم في الإيمان المرسل والتصديق المجمل بكل ما أنزل الله وأخبر به رسول الله (ص) فمن اشتغل بالخوض فيه فقد أوقع نفسه في شغل شاغل، إذ قال رسول الله (ص) حين رأى أصحابه يخوضون، بعد أن غضب حتى احمرت وجنتاه: أفبهذا أمرتم؟ تضربون كتاب الله بعضه ببعض! انظروا فيما أمركم الله فافعلوا وما نهاكم عنه فانتهوا فهذا تنبيه على منهج الحق.

 ثم لا ريب في أن نورانية اليقين ووضوحه، بل واطمئنان القلب وسكونه لا يحصل من مجرد صنعة الجدل والكلام، كما لا يحصل من محض التلقين وتقليد العوام. بل (الأول) -أعني الاستضاءة بنور اليقين- يتوقف على ملازمة الورع والتقوى، وفطام النفس عن الهوى، وإزالة كدرتها وصدأها: و قد أفلح من زكاها، الشمس 9. وتطهيرها عن ذمائم الصفات والاشتغال بمشاق الرياضة والمجاهدات، حتى يقذف في قلبه نورا إلهي تنكشف به الحجب والأستار عن حقائق هذه العقائد، وهو غاية مقصد الطالبين وقرة عيون الصديقين والمقربين، وله درجات ومراتب، والناس فيه مختلفون بحسب اختلافهم في القوة والاستعداد والسعي والاجتهاد، كما هم مختلفون في إدراك أنواع العلوم والصنائع وكل ميسر لما خلق له (5).

وأما (الثاني) - أعني مجرد الاعتقاد الجازم الراسخ بظواهر تلك العقائد - فيمكن أن يحصل بما دون ذلك، بأن يشتغل - بعد تلقين هذه العقائد والتصديق بها - بوظائف الطاعات، ويصرف برهة من وقته في شرائف العبادات، ويواظب على تفسير القرآن وتلاوته، ودرس الحديث ودرايته، ويحترز عن مخالطة أولي المذاهب الفاسدة وذوي الآراء الباطلة، بل يجتنب كل الاجتناب عن مرافقة أرباب الهوى وأصحاب الشر والشقاء، ويختار مصاحبة أهل الورع واليقين، ومجالسة الأتقياء والصالحين، ويلاحظ سيماهم وسيرتهم وهيئاتهم في الخضوع لله والاستكانة، فيكون التلقين كإلقاء البذر في الصدر، وهذه الأمور كالسقي والتربية له، فينمو ذلك البذر بها ويتقوى ويزداد رسوخا، حتى يرتفع شجرة طيبة راسخة أصلها ثابت وفرعها في السماء. ثم من وصل إلى مقام العقيدة الجازمة إن اشتغل بالشواغل الدنيوية ولم يشتغل بالرياضة والمجاهدة لم ينكشف له غيره ولكنه إذا مات مات مؤمنا على الحق وسلم في الآخرة، وإن اشتغل بتصقيل النفس وارتياضها الشرح صدره وانفتح له باب الإفاضة، ووصل إلى المرتبة الأولى.

* مقتطف من كتاب (جامع السعادات) لمؤلفه الشيخ محمد مهدي النراقي المتوفى 1209ه‍.

........................................

 (1) هذا الحديث رواه في أصول الكافي عن النبي - صلى الله عليه ج: 1

(2) كما قال أمير المؤمنين - عليه الصلاة والسلام -: لو كشف لي الغطاء ما ازددت يقينا. (3) الحديث مروي في أصول الكافي في باب درجات الإيمان عن الامام الباقر (عليه السلام):

إن المؤمنين على منازل منهم على واحدة ومنهم على اثنتين ومنهم على ثلاث ومنهم على أربع ومنهم على خمس ومنهم على ست ومنهم على سبع فلو ذهبت تحمل على صاحب الواحدة ثنتين لم يقو، وعلى صاحب الثنتين ثلاثا لم يقو، وعلى صاحب الثلاث أربعا لم يقو، وعلى صاحب الأربع خمسا لم يقو، وعلى صاحب الخمس ستا لم يقو، وعلى صاحب الست سبعا لم يقو، وعلى هذه الدرجات.

(4) الكافي - الشيخ الكليني - ج ٢ - الصفحة ٣٤.

(5) حديث نبوي مشهور: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له).

اضف تعليق