هل بإمكاننا الاعتماد على ما وصل إلينا من معلومات في المصادر القديمة حول الشخصيات التاريخية والأخذ بها بصيغة نهائية وتبنِّي تلك المعلومات على أنها من المُسلّمات، أم أن للتاريخ قولٌ آخر خُفي أو أخفاه المؤرخون؟.

إن أهمية نتاج العملية التاريخية ومدى تفاعلها في الحاضر يقتضي منا أن نتوخَّى الدقّة والحيادية في البحث والتحقيق والتنقيب في حيثيات التأريخ لكي نفهم الماضي على ضوء الحقائق التاريخية بمعزلٍ عن الصورة التي صورها لنا المؤرخون الذين رضخوا لأهوائهم السياسية ونزعاتهم المذهبية فأملت عليهم مجانبة الحقيقة والسير في هوى السلطة.

إن الارتباط الوثيق بين الماضي والحاضر ومدى تفاعله معه يجب أن يؤخذ بنظر الاعتبار والأهمية من قبل المؤرخين في عملية نقل الحوادث التاريخية وسِيَرِ الشخصيات، لأن نظرة الأجيال إلى هذه الحوادث والشخصيات ستحدِّدُها مؤرخاتهم، ولكن المؤرخين لم يكونوا أهلاً لحمل هذه الأمانة فاستهانوا بأهمية هذه العلاقة التي يتمُّ على ضوئها الرؤية الصحيحة إلى الماضي بعيداً عن المغالطات والالتباس، وفضّلوا رضا السلطات المستبدّة والتماهي مع ما تقتضيه سياساتها من تزييف وتدليس وتحريف على نقل الحقيقة التاريخية التي تحقق الترابط الوثيق بين مجتمع الأمس ومجتمع اليوم، فالحقائق التاريخية التي غيّبوها والتزييف والتحريف الذي أظهروه كان السبب الرئيسي في تخبّط الأمة وصراعها وتشتتها.

السلطة تملي على المؤرخين مدوّناتهم

بالرجوع إلى المصادر التاريخية نجد أن أغلب المؤرخين هم من موالي السلطة وتابعيهم، حيث راجت أسواق بيع الذمم وكثر وضع الروايات المكذوبة العارية من الصحة والتي تناقض تماماً الحقائق التاريخية، فدُوِّنت ورُوِّجت الأكاذيب والموضوعات، ومما زاد من الإساءة إلى التاريخ وشخصياته معاً أن الكتّاب والدارسين المحدثين تعبّدوا بما نقلته تلك المصادر واعتمدوها واعتبروها من المسلمات، دون التأمّل فيها، بل دون محاكمة العقل والرجوع إلى الواقع التاريخي وعدّوها نصوصاً لا تقبل الشك والجدال.

ويجد المتتبع لحوادث وشخصيات التاريخ أن معظم المؤرخين قد استمالتهم السلطة إلى جانبها لإخفاء الكثير من الحقائق أو تزويرها فيما يتعلق بالمعارضين والثائرين أو حتى ممن تستشعر السلطة منهم بعض الخطر، وقد راجت بضاعة هؤلاء الوضّاعين بشكل كبير في العهد الأموي وتابع نهجهم أمثالهم في العصر العباسي.

فالاهتمام الكبير الذي أولاه المؤرخون لحياة الحكام وتوغّلهم في سرد حركاتهم وسكناتهم وسمرهم ومجالسهم الماجنة ولياليهم الحمراء جعلهم يشاركونهم نظرتهم نحو الأحداث والشخصيات فيوالون من والوا ويعادون من عادوا، وهكذا كُتب على الذين سخطت عليهم السلطة أن تلازمهم النظرة السيئة عبر الأجيال.

ابن المقفع ضحية التأريخ والسلطة

كان من أبرز ضحايا السلطة القمعية وتزييف المؤرخين هو الأديب والكاتب والمفكر الكبير أبن المقفع الذي تشابهت المصادر وكتب التراجم في سرد قصته التي انتهت بنهاية مأساوية بتهمة الزندقة، وقد تناقلتها هذه المصادر دون قراءة للواقع السياسي في ذلك العصر ودون الالتفات إلى الكثير من الحقائق التاريخية والأدلة التي تنفي عنه هذه التهمة.

ولعل الصدى الكبير والشهرة الواسعة لهذه التهمة التي أُلصقت بأبن المقفع وتناقُلها من قبل المؤرخين على أنها من المسلّمات راجع إلى الجهة التي ألبسته بها وهي السلطة العباسية الحاكمة التي كانت تعيش في أوج عظمتها واقتدار سلطانها، وكذلك راجع الى ما ترتَّبت عليه هذه التهمة من قتلة فظيعة صارت حديث الناس والمؤرخين.

المقفع

قبل الدخول إلى موضوع البحث لابد من إيجاز ترجمة ولو مختصرة عن ابن المقفع لأهمية ذلك في نتيجة البحث، فقد أجمع المؤرخون أن اسمه روزبه بن داذويه ويُكنى أبا عمرو وهو فارسي الأصل، ولد في قرية جور الإيرانية والتي يُطلق عليها اليوم (فيروز آباد) عام (107هـ) ونشأ على دين المجوسية المانوية ثم اعتنق الإسلام وتسمّى بعبد الله وتكنّى بأبي محمد ونزل البصرة، وقيل في تسمية والده بالمقفع: لأن الحجاج بن يوسف ضربه في مال احتجنه – أي احتواه – عندما ولاّه على خراج فارس ضرباً مبرحاً فتقفّعت يده – أي يبست – فسمِّي من يومه بالمقفع، وقيل أيضاً في سبب ذلك: نسبة إلى بيع القفاع وهي من الجريد كالمقاطف بلا آذان فسمِّي من يومه بالمقفع، وكان المقفع مولى لآل الأهتم التميميين الذين اشتهروا بالفصاحة والخطابة فاكتسب المقفع منهم مبادئ العربية واستعرب سريعاً، وكان لاختلاطه بمواليه أثر كبير على طابعه العربي.

ولم يُسلم المقفع بل مات على دينه وعليه نشأ ابنه روزبه الذي أسلم فيما بعد، وقد عُني المقفع بابنه عناية شديدة وقام بتأديبه فاتّقن ابن المقفع اللغتين الفارسية والعربية وأطلّ على محيط العربية الزاخر فنهل من علومها ومعارفها مازجاً عناصر الثقافتين في أدبه.

الكتابة وبداية السقوط في فخ السلطة

تولّى ابن المقفع منصب الكتابة في أواخر العهد الأموي لآل هبيرة في ولايتهم على العراق، ولما قامت الدولة العباسية تولّى الكتابة لسليمان بن علي عم المنصور وأخيه عيسى بن علي، وفي عهد الأخير أعلن ابن المقفع إسلامه وتسمّى بعبد الله وتكنّى بأبي محمد، وبقي ابن المقفع يعمل في دواوين عيسى حتى خرج عبد الله بن علي عم المنصور وواليه على الشام وأعلن ثورته عليه، غير أن جيوش المنصور هزمته ففرّ إلى أخويه سليمان وعيسى ولجأ إليهما، فطلبه المنصور منهما فأبيا أن يسلّماه إليه إلاّ إذا كتبَ له أماناً، فقبل ما عرضاه وكلفهما كتابته فأمرا ابن المقفع أن يكتبه فكتبه وتشدّد فيه تشدُّداً أغضب المنصور كثيراً وجعله يتميّز من الغيظ عليه، فلم يدع ابن المقفع في كتابه مسلكاً لأن ينقض المنصور بأمانه فامتلأ المنصور سخطاً حين قرأ هذا الأمان وسأل عن كاتبه فقيل له: ابن المقفع، فقال: أما أحد يكفينيه؟ وأوعز إلى سفيان بن معاوية المهلبي عامله على البصرة حينئذٍ أن يقتله وكان هذا العامل حاقداً على ابن المقفع لأنه كان كثير السخرية منه فقتله شر قتلة ومثل به وذلك عام (142هـ) ولم يتجاوز ابن المقفع السادسة والثلاثين من عمره.

وقفة مع المقفع

هذه الترجمة المختصرة لابن المقفع اتفقت عليها أمّهات كتب السير والترجمة والتاريخ فتجدها في الفهرست لابن النديم (ص89–190)، والأعلام للزركلي (ج4ص140)، ومروج الذهب المسعودي (ج4ص242)، والأغاني لأبي الفرج (ج18ص200)، وخزانة الأدب للبغدادي (ج3ص395) وغيرها من كتب السير.

وقبل أن نرافق السيرة الأدبية لابن المقفع والوقوف على مؤلفاته نرى إنه من الجدير بنا أن لا نمرّ على هذه السيرة التي ذكرناها مروراً عابراً دون الإشارة إلى بعض الملاحظات.

ففيما يخصّ داذويه والد ابن المقفع الذي زعم المؤرخون: أن الحجاج ضربه حتى تفقّعت يده فنقول: إن الحجاج كما هو معروف كان والياً ظالماً طاغياً يضرب ويقتل على الشبهة والظنة، ثم إن الدولة الأموية كانت تحتقر الموالي – من غير العرب – فكيف يولّي الحجاج على خِراج فارس رجلاً أعجمياً وهو كما معروف منصب خطير ومهم؟ فهل فات المؤرخون ذلك، أم أن هَوَس التزلّف والتملّق للسلطة قد أعماهم حتى عن وضع الأكاذيب المقبولة؟

يقول أحمد أمين في كتابه (ضحى الإسلام) (ج1ص27) عن الحكم الأموي: (الحق أن الحكم الأموي لم يكن حكماً إسلامياً يسوّى فيه بين الناس ويكافئ المُحسن عربياً كان أو مولى ويعاقب المجرم عربياً كان أو مولى، وإنما الحكم فيه عربي، والموالي خدمة للعرب وكانت تسود العرب فيه نزعة الجاهلية لا النزعة الإسلامية).

ويقول الدكتور علي شلق عن عهد الأمويين: (لقد تزايدت أعداد الموالي دون أن يحوزوا الحقوق المتناسبة مع وضعهم كمسلمين).

فإن باع المؤرخون عقولهم للسلطة وأسفّوا بها، فإن الأجيال كفيلة بفضح تلك العقول الخاوية والأقلام المأجورة التي شاركت السلطات الظالمة جرائمها بتزييف الحقائق.

ثم إنه على الرغم من أن التاريخ لم يذكر شيئاً عن شخصية المقفع، إلّا أننا نستطيع أن نستشفَّ ملامح شخصيته من خلال ابنه ونجزم أنه كان بريئاً تماماً ممَّا اتّهم به، بل ونجزم إنه كان فوق كل شبهات المؤرخين، فالمقفع هو الذي تولّى ابنه بالتربية والرعاية فكان – ابن المقفع – (نبيل الخلق، وقوراً يترفّع عن الدنايا، ولا يجعل للهوى سلطاناً على عقله، وكان يأخذ نفسه بكل ما يمكن من خصال المروءة والشعور بالكرامة) كما يقول الدكتور شوقي ضيف في تاريخ الادب العربي – العصر العباسي الاول – (ص510).

و(سرياً سخياً يطعم الطعام ويتّسع على كل من احتاج إليه) كما يقول الجهشياري في الفهرست (ص104).

وقد عُرف: (بالكرم والإيثار، والحفاظ على الصديق والوفاء للصحب، والتشدد في الخلق وصيانة النفس).

وتدلنا كتبه على تمتعه: (تهذيب النفس وترويضها على الأعمال الصالحة)

فهذه الصفات من المؤكد إنه قد اكتسبها من والده الذي عهد بتربيته وتعليمه، ومن كانت له هذه الصفات النبيلة فإنه لا يمكن أن تصدر منه هذه الخيانة، ولكن ليس غريباً أن يُطلق مؤرخو الحكام الأمويين التهم جزافاً على من يشاؤون حتى على أطهر الناس وأتقاهم وأورعهم!!

فهذا زيد بن علي بن الحسين (عليه السلام) قد أُتُهم باطلاً بأن: الوالي الأموي قد أودع عنده أموالاً عظيمة وأنكرها، فإذا كانت التهمة قد طالت هذه الشخصيات العظيمة فإن من السهل إطلاقها على رجل مجوسي.

ولكن هناك رواية هي أقرب للصواب في سبب تسمية داذويه بالمقفع وهي الرواية التي ذكرها محمود إبراهيم هيبة في مقدمة كتاب الأدب الكبير لابن المقفع (ط القاهرة1912) وهذه الرواية هي: (إنه سمِّي بالمقفع لأنه كان يعمل القِفَاع – جمع قفعة – ويبيعها وهي شيء شبيه بالزنبيل بلا عروة ليس بالكبير، يعمل من الخوص ويحمل فيه التمر وغيره) ونرى إن هذه الرواية هي الأنسب في تسميته بالمقفع.

من كتبَ كليلة ودمنة؟

كان ابن المقفع يجمع بين الثقافات العربية والاسلامية والفارسية والهندية واليونانية (وقد نقل عن اللغة الفارسية القديمة (الفهلوية) كتاب كليلة ودمنة وهو أنفس ما وصل إلينا من كتبه وإليه يُعزى الفضل في شهرته وخلوده في ميدان الفكر والثقافة، وقد وضعه على ألسنة البهائم والطير وتضمن الكثير من المواعظ والحكم والأمثال وفصولاً ممتعة من القصص المستقاة من مصادر فارسية وهندية، فهو في الاصل كتاب هندي وضعه الفيلسوف (بيدبا)). هذا ما يقوله بعض المؤرخين بخصوص (كليلة ودمنة).

أما البعض الآخر فيؤكد أن الكتاب من تأليف عبد الله ابن المقفع نفسه، أما ادعاؤه بنقله من الفرس فراجع إلى: (خشية من أذى السلطة العباسية وبطشها بسبب ما أصدره في الكتاب من آراء نقدية جريئة تعرّض بهم وبأعوانهم وتدين بطشهم وتسلّطهم وتنعى عليهم غرورهم وجهلهم وطيشهم وظلمهم للرعية فكان أن أنكر نسبته إليه ونحله إلى بيدبا الفيلسوف الذي لا وجود له في الحقيقة، وادّعى إنه نقله عن الفارسية بينما هو من وضعه وتأليفه) كما يقول عمر فروخ في تاريخ الأدب العربي (ج2ص54).

ونجدنا ننحاز إلى هذا الرأي الذي استند إلى دلائل قوية وقرائن واضحة، فهذا الكتاب الذي يحتوي في مضمونه معاني التصدي للحاكم الظالم وفضح جرائمه على لسان الحيوانات في قصص شيقة يشير هو إلى مؤلفه (ابن المقفع) الذي نجح في تحقيق هدفه النبيل، فلا أحد يعرف لهذا الأصل الفارسي وجوداً كما يقول فروخ، كما إن الحياة والطبيعة التي تعيشها فصول الكتاب عربية وإسلامية، فقد تضمن الكثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تخللت القصص، كما إن العادات والتقاليد وأساليب الحوار ذات طابع عربي وتتحرك وتفكر ضمن دائرة الثقافة العربية الإسلامية.

الجو المرعب

(أن استطعت أن لا تدع في خراسان من يتكلم بالعربية فافعل وأيَّما غلام بلغ خمسة أشبار تتهمه فاقتله واقتل جميع من شككت فيه)!!

هذا كلام المنصور الدوانيقي لأحد ولاته نقله المقريزي في كتابه (النزاع والتخاصم)!! وهو يعطي صورة واضحة عن معالم ذلك العصر المرعب، كما يوصي والٍ آخر بقوله: (استعمل السيف ولا ترحم صغيراً أو كبيراً)!!

في هذا الجو المرعب عاش ابن المقفع!!

فقطع الرؤوس، وهدم الدور على الأحياء، وزجِّ الأبرياء والصلحاء في السجون، وسلخ جلود الأحياء، وجعل الأجساد طعاماً لتنور لاهب، كل ذلك كان مألوفاً في ذلك العهد الدموي الذي فاق في دمويته جميع العصور فكان المنصور: (يتفنّن في أساليب القتل و التعذيب بنحو لم يعرف عمن سبقه من الحاكمين) كما وُصِف.

ولنستمع إلى ابن الأثير وهو يروي لنا إحدى جرائم المنصور حيث قال: (ارسل المنصور محمد بن حول والياً على الموصل فامتنع أهلها عن طاعته و سألوه أن يولّي عليهم غيره فأرسل أخاه يحيى في اثني عشر ألف مقاتل فخافه أهل الموصل والتزموا منازلهم فنادى بالأمان، ولما زال من نفوسهم ما يحاذرونه منه فتك بهم وقتلهم قتلاً ذريعاً وأسرف في القتل حتى غاصت الأرجل في الدماء، فلما كان الليل سمع صراخ النساء والأطفال فأمر جلاديه بقتل النساء والأطفال وما بقي من الشيوخ واستمرَّ القتل والتنكيل بالأبرياء والنساء والأطفال ثلاثة أيام)!!

فهل يستطيع ابن المقفع أن يظهر كتابه (كليلة ودمنة) الذي تضمّن فكرة التصدي للظلم، وتضمن أيضاً إشارات قوية إلى هذا الواقع المزري والجو الرهيب؟

في ذلك الوقت شاع النفاق والفساد فلا يستطيع أي إنسان إدلاء رأي ما لم يكن يوافق سياسة السلطة وأهوائها فكيف لابن المقفع أن يقول كلمته؟ فلم يجد من سبيل أمامه للإفصاح عما يراه حقاً وعدلاً فعمد إلى التقية ولجأ إلى التلميح إلى هذا الواقع المظلم الظالم وهنا يكمن الدور الطليعي والاصلاحي للأديب الحقيقي والتزامه بقضايا مجتمعه.

الأديب الملتزم

يقول الدكتور حسين مروة في كتابه: (دراسات في الفكر والأدب) (ص74): (ابن المقفع أديب كبير كان لفكره ولأدبه فعلاهما الكبيران في مجتمع العصر العباسي الأول وإن المسألة الاجتماعية ــ السياسية تسرّبت إلى فكره وأدبه خلال العلاقة مع نفسها التي لم يستطع هذا الكاتب الرائد أن يفلت من حضورها في كتاباته الإبداعية ولم يستطع كذلك أن يخبِّئها وراء الرمز في (كليلة ودمنة) ولا وراء الكلام النظري والتجريدي في كتابيه: (الأدب الصغير) و(الأدب الكبير)، وتتجلّى خطورة هذا الدور الذي اضطلع به ابن المقفع فيما يثيره في المجتمع العربي في الميدان الثقافي من مسائل أدبية واجتماعية وسياسية ومنها الصلة بين الأديب والمجتمع فكان ذلك دافعاً لوضع كتابه (كليلة ودمنة) وفي ذلك إعلاء لشأن الأدب والأديب وتنزيه الكلمة من أن تطرح للبيع في بلاط الخلفاء والأمراء فكان ابن المقفع واعياً لدوره الريادي مدركاً بأنه صاحب رسالة يقتضي تبليغها ركوب الأخطار فليس خافياً ما يشكّل هذا العمل الفكري أو الفكر العملي المنحاز إلى مصالح الشعب من خطورة على السلطات الاستبدادية).

ويقول الدكتور حبيب يوسف مغنية في مقدمة شرحه لكتاب كليلة ودمنة: (إن أعظم الأخطار التي يخافها الحاكم هي أن يُبتلى بأديب مثل ابن المقفع هذا المفكّر الذي جهر بآراء جريئة هي في الحقيقة في أهداف جميع الشرائع الدينية ومنها الدين الإسلامي الذي اتهم بالمروق عنه ومخالفته فانتهى إلى أن يكون في عداد المفكرين الذين يُقضون تنكيلاً وقتلاً وتمثيلاً لا لشيء إلاّ لانهم استجابوا لما تدعو إليه هذه الشرائع ذاتها من الإيمان بالإنسان والإنتصار لقضاياه الأساسية وحقوقه المشروعة).

التهمة الباطلة

إذاً ليس من العجيب ولا من الصعب أن تتَّهم السلطة ابن المقفع (بالزندقة) لأنها في نظرها هي الخروج عن طاعة السلطان ولكن شاء الحق أن يسجّل لهذا الرجل مظلوميته في سجلات التاريخ رغم إصرار بعض الكتّاب على زندقته.

فالدكتور شوقي ضيف يرجّح في سبب قتل ابن المقفع الكتاب الذي كتبه أماناً لعبد الله بن علي عم المنصور ولكنه مع ذلك لا ينفي عنه تهمة السلطة العباسية فيقول: (وليس معنى استظهارنا أن يكون الأمان سالف الذكر هو السبب الحقيقي في قتل ابن القفع إننا ننفي عنه الزندقة)!!!

إن الدكتور ضيف لا يريد أن يتحرَّر من جموده الفكري ولا يريد أن ينزع عنه الأغلال التي وضعها المؤرخون في يديه فسيّرت قلمه إلى ما يريدون، بل لا يريد أن يرى الحقيقة حتى وإن تجلت له بأنصع صورها فيقول: (ويظهر إنه ــ أي ابن المقفع ــ على الرغم من (زندقته) كان يبهره جمال القرآن وصياغاته فاستعار من ألفاظه وأساليبه كثيراً من جوانب كتاباته)!!

ثم يقول (وطبيعي أن تبلغ هذه الإستعارة عنده الغاية في تحميداته التي كان يفتتح بها الرسائل الرسمية والتي كان يعظم بها الدين الحنيف على نحو ما نرى في هذا التحميد: (الحمد لله ذي العظمة القاهرة والآلاء الظاهرة الذي لا يعجزه شيء ولا يمتنع منه ولا يدفع قضاؤه ولا أمره، أما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون والحمد لله الذي خلق الخلق بعلمه.... الخ)......

وهو دعاء طويل تضمن الكثير من التعظيم لله عز وجل والآيات الكريمة ثم يذكر عدّة من رسائله على هذا النحو!! ونترك للقارئ الحكم على قوله هذا.

دحض التهمة

امتلأت كتب ابن المقفع بالإيمان بالله والكفر بالسلطة الظالمة، ونبقى مع الدكتور ضيف وهو ينقل هذا الكلام لابن المقفع ومع ذلك لا ينفي عنه تهمة الزندقة: (أما بعد فإن لكل مخلوق حاجة، ولكل حاجة غاية، ولكل غاية سبيلاً، والله وقّت للأمور أقدارها، وهيَّأ إلى الغايات سبلها، وسبب الحاجات ببلاغها).

عجباً والله لمن يتهم من يقول هذا الكلام الذي احتوى على غاية المعرفة بالله والإيمان به، بالزندقة لكي يبرأ ساحة السلطة الظالمة من جريمة قتله!!

أي عمىً أكثر من هذا العمى؟

لقد ابتليَ تاريخ هذه الأمة بعمى (الدكاترة)!!

أنسي ضيف وهو يكتب تاريخ الأدب العربي التهم الجاهزة التي كانت تكيلها السلطة العباسية لمناوئيها كذباً وزوراً وبهتاناً؟

ألم يقرأ قول الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه (تاريخ الإلحاد في الإسلام): (إن الدولة العباسية حاربت التشيّع إلى حد جعل الانتساب إلى الشيعة الرافضة دليلاً على الزندقة وداعياً إلى الإتهام بها)؟؟؟.

إن جناية التأريخ بحق هؤلاء المفكرين الكبار لا تغتفر، فمتى نصحح تأريخنا ونقرأه قراءة حقيقية تدين الظالم وتنتصف للمظلوم؟

اضف تعليق