لا ينتهي الحديث عن تاريخ الشيعة في أندونيسيا، فلا يزال إلى الآن موضع اهتمام الدارسين والباحثين لما مثله من دور كبير وفاعل في بناء الحضارة الإسلامية على ربوعها، بل نستطيع القول إن التاريخ الشيعي يمثل الدعامة الأساسية للحضارة الإسلامية والمركز الإشعاعي والحضاري والعلمي فيها، يقول الدكتور حزيرين عميد جامعة جاكارتا: (إن التاريخ الإسلامي وازدهاره وتطوره في أندونيسيا بالذات مرتبط بالشيعة ارتباطاً مباشراً).

كما مثل الشيعة الدور الأهم والأعظم في حروب تحرير أندونيسيا منذ أن وطأت أقدام الإحتلال أرضها وحتى استقلالها، وقد لاقوا أنواع التعذيب وصنوف التنكيل والتشريد من أجل الحرية والكرامة، فتم ذلك على أيديهم بعد ملاحم عظيمة سطروها بدمائهم طوال ثلاثة قرون ونصف، يقول المؤرخ الأندونيسي الكبير السيد شهاب: (ذاق الشيعة أنواعاً من التعذيب، وأهوالاً من التنكيل بسبب مقاومتهم للاستعمار).

ويقول أيضاً: (لقد حاربت هولندا الشيعة، وظلّت حربها تزداد عاماً بعد عام حتى بلغ التنكيل أوجه في عام (1642م)، ففي هذا العام شرّدت هولندا الشيعة تشريداً وعذّبتهم تعذيباً، وأباد الاستعمار الهولندي الكتب والوثائق التاريخية المهمة، بل وكل ما له علاقة بالشيعة والحركة الإسلامية، فمنذ أن وطأت أقدام الهولنديين أرض أندونيسيا قاومهم الشيعة أضرى مقاومة مما أحنق عليهم الهولنديين، وظلّ الشيعة على كفاحهم، وظلّ الهولنديون يقابلون هذا الكفاح بالبطش والتنكيل).

ويضيف السيد شهاب: (ثلاثة قرون ونصف قرن من المقاومة، كان الشيعة في هذه المقاومة الطويلة رمزاً عظيماً للجهاد والتضحية الإسلامية، ورمزاً للروح الفياضة.. روح الفداء والعطاء، وكانت هولندا تسميهم: الفوضويين، المشاغبين، الخونة).

القائد العلوي

من أبرز رموز الكفاح المسلّح والجهاد المقدّس الأندونيسي ضد الإستعمار الهولندي الذين صنعوا ببطولاتهم وتضحياتهم المستقبل الحر للشعب الأندونيسي القائد المجاهد السيد الحبيب عبد الرحمن الزاهر ال شهاب الدين العلوي الحسيني التريمي، الذي لم يشكل مصدر خطر على الهولنديين في الحرب فحسب، بل كان مصدر رعب لهم حتى في منامهم وكوابيسهم التي تقض مضاجعهم.

يقول المستشرق الهولندي سنتخراف: (لم يوجد منذ سبعين عاماً زعيم كهذا الزعيم الفذ للأجيين، الحبيب بن عبد الرحمن الزاهر، ونحمد الله على أن كان زعيماً واحداً فقط، فقد كانت حكومة هولندا تخشاه كثيراً، وتبذل جهدها وتتوسّل بكل وسيلة لإخضاعه).

كان للسيد عبد الرحمن مكانة عظيمة وشعبية كبيرة ونفوذ واسع في نفوس الأندونيسيين الأجيين، فقد كتبت جريدة (يافا بوده) الهولندية عنه تقول: (إن هذا السيد العلوي هو أكبر زعيم للأجيين ويعرف في تاريخ أجيه باسم الحبيب عبد الرحمن، وقد تكرر اسمه في التاريخ خصوصاً عندما نجا بنفسه من السجن المخفور بقوة من الجند، وعندما قام يحاربنا مرة أخرى ويحطم أسطولنا المرابط هناك، حتى كتب أحد ضباطنا في ذلك مذكرة بعنوان (محطم الأسطول) إنه ليس لأحد نفوذ كنفوذه، أما تفصيل ذلك فيمكن العثور عليه في مذكرة مستشارنا السابق في اللغات الشرقية الدكتور (سنوك) عن الحالة الدينية والسياسية في أجيه، وأهم أسباب نجاح دعوة هذا السيد هو أنه من السادة الأشراف، فإن لهذا اللقب شأناً عظيماً لدى الأجيين، وأقدس قبر في أجيه في مذكرة الدكتور (سنوك) هو قبر (تنكو كونينغ) المنسوب إلى آل العيدروس الشهيرين)

النسب الشريف

ينتهي نسب السيد عبد الرحمن الحبيب الزاهر إلى السيد الشريف أحمد (المهاجر) ابن السيد عيسى (النقيب) ابن السيد محمد بن علي (العريضي) ابن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام). والى هذا السيد ــ أحمد المهاجر ـــ المولود عام (273هـ) يرجع أغلب العلويين في أندونيسيا.

والسيد عبد الرحمن الزاهر هو جد الأسرة العلوية الشريفة (آل السقاف) وهو أول من لقب بالسقاف لعلميته العالية التي فاق بها علماء زمانه، وكان للسيد عبد الرحمن اثنا عشر ولداً تفرّعت منهم أسر عديدة، وتنتهي الأسر الفرعية لآل السقاف كلها له، منها: آل مكنون، وآل الروش، وآل المساوي، وآل الصافي السقاف، وآل شهاب الدين، وآل العيدروس، وآل العطاس، وآل باعقيل، وآل البيتي، وآل النمور وغيرها، كما ترجع إليه البيوتات البدوية المنتسبة للسقاف، وهم بيت حمودة، بيت سهل، بيت عقيل، بيت قرموص، بيت محسن، بيت زين .. كما برز من هذه الأسر الكثير من الأعلام والعلماء والقادة والشخصيات المؤثرة.

مع مسيرة العلم

ولد السيد عبد الرحمن في حضرموت باليمن عام (1249هـ/1834م) وسافر به والده، محمد آل الزاهر، إلى مالابار بعد وفاة أمه وهو لا يزال في العام الثاني من عمره، وفي سن الخامسة من عمره أرسله والده إلى مصر لتعلم القراءة والكتابة، وخاصة علوم القرآن. وفي عام (1842) عاد إلى مالابار لمواصلة الدراسة في كاليكوت (كلكتا). وفي سنة (1848) تنقل في بلاد الهند وسيلان والدول العربية لطلب العلم.

وبقي يتنقل في البلاد لطلب العلم ونشره فانتقل إلى حيدر آباد التي تولى فيها رتبة (جمعدار) وهي رتبة قائد ألف جندي، ولكنه لم يبق في حيدر آباد وعاد إلى كاليكوت، وعمل صائغاً فأثرى من مهنته وعاوده الحنين إلى السفر والتنقل، ولكن هذه المرة كانت صوب أوربا لاستكشاف طبيعة حياة الشعوب فسافر إلى إيطاليا وفرنسا وألمانيا وتركيا ثم عاد إلى الشرق فأقام في بومبي وحيدر آباد وكلكتا وسنغافورة وفي كل هذه الأماكن كان يجد الحفاوة البالغة والتعظيم من سلاطينها.

دخوله عالم السياسة

تقلّد السيد عبد الرحمن منصباً كبيراً لدى سلطان جهور ولكنه لم يدم في هذا المنصب سوى سنة ونصف فهاجر إلى جزيرة (بينانغ)، وفي عام (1864) سافر إلى (بيدي باجيه)، ومنها إلى العاصمة دار السلام وأقام لدى السيد محمد مهدي في (لام بيسانغ) وفيها عين بمنصب كبير من قبل السلطان إبراهيم منصور وبقي يترقى من منصب إلى إعلى بفضل حنكته وثقافته وجهاده حتى أصبح الرجل الثاني في السلطنة بعد السلطان بعد أن قدم خدمات جليلة وتحققت على يديه انجازات عظيمة في أجيه.

الموقف الهولندي

كانت هولندا تراقب عن كثب تحركات هذا الرجل وتستشعر خطره عليها لنفوذه الواسع وشعبيته الكبيرة في كل البلاد التي زارها، وقد لاحظت العلاقة القوية والرابطة الوثيقة للسيد عبد الرحمن بالسلطان إبراهيم منصور وقد تقلد أعلى منصب في الدولة بعد السلطان فحاولت زعزعة هذه العلاقة وفصمها لما يمثله السيد عبد الرحمن من ثقل كبير في الدولة، فأرسلت رجلاً عربياً اسمه (علي باحنان) لهذه المهمة فدخل هذا الرجل (لام بيسانغ) بزي تاجر وفتح له دكاناً فيها وبدأ ينفث سموم الفتنة بين السلطان والسيد الحبيب عبد الرحمن ونجح في ذلك وأحدث شرخاً في العلاقة بينهما وسبّب نفوراً في الصداقة.

السلطان علاء الدين إبراهيم منصور

تولى هذا السلطان حكم أجيه عام (1838) بعد موت أخيه السلطان محمد وبعد سلسلة من الملوك من آبائه وأجداده خاضوا حروباً وصراعات طويلة مع الهولنديين الذين أسقطوا (باروس) في نفس العام بعد أن فقد الأجيون أي دعم خارجي برجوع وفدهم الرسمي من تركيا برئاسة (نياء روم) خالي الوفاض، في الوقت الذي بذل الهولنديون مساعيهم للسيطرة على سومترا فكانت اعتداءاتهم على السفن الأجية تتكرر، كما كرروا محاولاتهم لفصل الممالك عن أجيه لإضعافها ومن ثم مهاجمتها والسيطرة عليها فعرضوا على أمير (ترمون) مبلغ (2400) روبية للتنازل عنها لهم فنجحوا بذلك، وهاجموا (باروس) عدة مرات وقاومهم السكان مقاومة باسلة ولم يتمكن الهولنديون من دخولها إلا بعد أن خسروا الكثير من جنودهم، ولكن احتلال هاتين المدينتين من قبل الهولنديين لم يدم طويلا.

فقد ثار البحارة الأندونيسيين في السفينة الهولندية (دولبين) وسلموها للسلطان بعد أن قتلوا ربانها ومن معه من الهولنديين، وحدث نفس الشيء مع السفينتين البريطانيتين (زورستر) و(روبرت سبنكي) ولكنهم هذه المرة أغرقوهما، وتكررت مثل هذه الحوادث.

إفشال مخطط التفرقة الهولندي

عمل السلطان على توحيد المناطق الأجية كردة فعل على محاولة هولندا في تقسيمها وفصلها، فبعث السلطان قوة بحرية قوامها (200) سفينة إلى مناطق سومترا الشرقية بقيادة الزعيم حسين فاستطاع توحيدها تحت راية أجيه وأخذ الولاء منها للسلطان فذهل الهولنديون من هذا التحول السريع لكنهم لم ييأسوا فسلكوا هذه المرة طريق أكثر دبلوماسية عندما عرضوا صداقتهم من خلال الوفد الذي جاء إلى أجيه عام (1855)، لكن هذا الوفد جوبه بعاصفة من الهياج الشعبي العارم والسخط الجماهيري، فطالب الأجيون بوجوب طرد الوفد والمطالبة باسترجاع المناطق التي استولى عليها الهولنديون، ولولا عظمة السلطان لتفاقم الهياج وأخذ منحى آخر، وتكرر الحال بعد عام (1856) مع وفد آخر وطرد أيضا.

وفي عام (1857) أرسلت هولندا وفداً بقيادة (فن سوين) يحمل هدايا ورسائل ومقترحات لعقد مفاوضات ومعاهدات فاستقبلهم الأجيون بنظرات يتطاير منها الشرر والغضب والسخط وازدادت حدّة التوتر عندما هرب بعض البحارة من الأندونيسيين من السفينة الهولندية ولجوئهم إلى الأهالي فازداد الشعب حنقاً وغيظاً وفسّروا ذلك بالقسوة التي يعامل بها هؤلاء البحارة بها من قبل الهولنديين، ورغم ذلك عقد السلطان مع الوفد اتفاقاً بعد مناقشات ومحادثات اتسمت بالحدّة والتوتر والاضطراب حتى تم وضع ثماني نقاط في هذه الاتفاقية، ولكن الهولنديين خرقوا واحدة من نقاط هذه الاتفاقية وهي عدم ممارسة اللصوصية على السفن واعتدائها على سفن الجانب الآخر فتجاوزت سفينتان هولنديتان حدودهما فأمر السلطان بأسرهما. كما خرقوا نقاطاً أخرى بتكثيفهم جهودهم ومحاولاتهم لفصل بعض المناطق عن أجيه وأخذوا يمدّون نفوذهم حتى استطاعوا فصل (سياك) عام (1858).

توحيد المناطق

أدت هذه الخروقات من قبل هولندا إلى شنّ حرب عليهم من قبل السلطان عام (1863) حيث هاجمت قوة أجية الهولنديين في (بولوكمباي) وقتلت منهم وهرب آخرون، لكن هولندا أعدت جيشاً كبيراً عام (1865) واستطاعت به بعد معارك ضارية استمرت حتى عام (1870) من دخول سومترا، وفي نفس العام مات السلطان إبراهيم منصور فتولى الحكم السلطان محمد بن السلطان علي اسكندر وكان في الرابعة عشر من العمر فتولى الوصاية عليه السيد الحبيب عبد الرحمن الزاهر الذي كان أشهر رجل في أجيه وكان قائداً كبيراً فتولى الحكم الفعلي بالوصاية في هذا الجو السياسي المضطرب الذي ينذر بالخطر.

صفحة الكفاح المسلح

لم يؤثر النفور وزعزعة العلاقة التي زرعتهما هولندا بين السلطان إبراهيم والحبيب عبد الرحمن على شعبية الحبيب في أجيه فقد أخذت شعبيته تتزايد يوماً بعد يوم لمواقفه المخلصة والوطنية لأجيه فصار له نفوذ سياسي كبير عند الأجيين، ولم تمر خمس سنوات على مدة إقامته في أجيه حتى صار الرجل الأول فيها، وعندما مات السلطان إبراهيم اجتمع رجال الدولة وأجمعوا على وصاية الحبيب على السلطان الصغير الجديد فكان على الحبيب أمام هذه المسؤولية الكبرى التي أنيطت به أن يدفع عن أيجة هجمات البرتغاليين ويرد مؤامراتهم ودسائسهم ويحافظ على وحدة المناطق الأيجية وكان أهلا لذلك.

المعاهدة وشرارة الحرب

بعد سنة من تولي الحبيب عبد الرحمن وصايته على أجيه أي في عام (1871) عقدت بريطانيا وهولندا اتفاقية تسمح لهولندا بمدِّ نفوذها في كل مناطق أجيه، وبدأت تخطط لذلك وتبث الجواسيس وفي عام (1872) تجرأت بمطالبة أجيه بالاعتراف بسيادتها ولكنها جوبهت بالرفض القاطع من قبل الأجيين ثم بعثت وفداً تطالب فيه أجيه بالسماح لها بحرية تنقل سفنها السفن الهولندية في موانئها فرفض الحبيب عبد الرحمن هذا الطلب أيضاً واعتبره تمهيداً لإستعمار أجيه فعاد الوفد يجر أذيال الخيبة.

كثفت هولندا من جهودها لفصل بعض المناطق عن أجيه تمهيداً للحرب فاستطاعت كسب أمير (بيدي) وهاجمت السفينة الأجية (سيمبانغ أوليم) التي يمتلكها (توكوبايا) صديق الحبيب عبد الرحمن وفي عام (1872) قررت الهجوم على أجيه فبدأت بإعداد قواتها، وأخذ الأجيون ببناء الحصون لصد العدو وبذل الحبيب عبد الرحمن مساع كبيرة لشراء الأسلحة لأن الهولنديين قد تعاقدوا مع بائعي السفن والأسلحة وأغروهم.

الحرب

في عام (1873) هاجمت القوات الهولندية أجيه مؤلفة من (3200) جندي و(168) ضابطاً بقيادة المأجور (كوهلر) بعد أن رفض الأجيون الاعتراف بسيادة هولندا عليهم وجرت بينهما معارك طاحنة استمرت (45) يوماً، لم يستطع فيها الهولنديون من إحراز أي تقدم يذكر للاستحكامات الأجية والحصون المنيعة التي كان الأجيون يمطرون النار منها على رؤوس الهولنديين.

لم الهولنديون فلولهم وهاجموا (أولي لوى) فبادر أميرها إلى الاستسلام، وبعد أن أحكموا قبضتهم عليها توجهوا إلى (كوتا مكت)، لكن هذه المنطقة لم تكن كسابقتها فما إن نزلوا إلى ساحلها حتى انهالت النار عليهم من المقاتلين الأجيين فارتدوا مدحورين إلى الشواطئ تحميهم مدافع سفنهم وكرر الهولنديون محاولتهم فاندحروا مرة أخرى مخلفين جثث القتلى، وإزاء هذه الاستماتة في القتال عززت هولندا من قواتها فجاءت قوات أخرى معها المدافع فزاد ذلك من إصرار الأجيين على المقاومة حتى الموت فتصدوا للعدو بصيحات التكبير التي بثت الرعب في قلوب الهولنديين واستطاعوا هزيمتهم هزيمة منكرة وقتلوا الكثير من جنودهم وضباطهم وقتل قائدهم (فن بيل) وأذاقوا هولندا مرارة الهزيمة يقول أحد الضباط الهولنديين المشتركين في هذه المعارك في مذكراته: (إن الأجيين يهاجموننا في كل معركة مباغتة على رغم مواجهتهم لجيش مستكمل السلاح، فأدركنا إن مهمتنا شاقة)

العاصمة

زحف الهولنديون نحو (لامباسي) وهاجموها ولكن مصيرهم لم يكن بأفضل من مصيرهم في (كوتا مكت)، بل أسوأ فقد أذاقهم الأجيون فيها الهزيمة أكثر مرارة وألما فتوجهوا نحو العاصمة (كوتا كونونغن) بقيادة (فندالن) مصممين على احتلالها بعد أن مدوا قواتهم وعززوها بالأسلحة واندفع الجانبان في معارك شرسة وضارية سقط فيها الكثير من القتلى منهما وبعد (17) يوماً هربت القوات الهولندية أمام هجمات الأجيين مخلفة (113) ضابطاً وكثيراً من الجنود قتلى.

لجأ الهولنديون إلى أساليبهم الجبانة لبث الفتنة بين أمراء المناطق وبث الجواسيس، وبالمقابل فقد تأهّب الأجيون لكل هجوم مباغت فحفروا الخنادق ونصبوا المدافع وأعلنوا الجهاد الديني دفاعاً عن أرضهم ودينهم، ثم عاود الهولنديون حملتهم الثانية بقوات كبيرة بلغت أكثر من عشرة آلاف مقاتل مجهزة بالمدافع بقيادة (فنسويتن) وجرت معارك ضارية قاوم فيها الأجيون القوات الهولندية مقاومة باسلة ولكن نفاد الأسلحة عند الأجيين والامدادات الهولندية انهت المعركة بسقوط العاصمة بعد أن تقلص عدد الجيش الهولندي إلى ثلاثة آلاف ولكن المعارك لم تخمد بسقوط العاصمة فقد عادت إلى أشد ما هو عليه بقيادة الحبيب عبد الرحمن الزاهر.

الحبيب الزاهر

بدأ الحبيب حركته الثورية بهجمات عنيفة على مواقع الهولنديين أصابتهم بالرعب، وحينما أراد القائد الهولندي الزحف إلى مناطق (4مقيم) و(6مقيم) كان قد سبقه إليهما الحبيب الذي أعدّ قوة جديدة في (مونتاسيك) وأخذ يحث على الجهاد، فلباه الأجيون بأصوات التكبير مما أرغم الهولنديين على أخذ موقف المدافع بعد أن كانوا هم من يهاجمون.

قاد عبد الرحمن مجاميع الأجيين وهاجم (موركاسا) ودحر الهولنديين وقتل الكثير منهم وتوالت هجماته عليهم حتى أنقصت عددهم ولم تنجح مفاوضات الهولنديين معه حيث عقد عظماء أجيه ـ وهو من ضمنهم ـ اجتماعا ضم خمسمائة شخص أقسموا اليمين على (مواصلة الجهاد في سبيل الله وطرد الكفار الهولنديين)، وقد استعاد الأجيون على يد هذا القائد الكثير من المناطق التي احتلها الهولنديون بعد معارك طاحنة.

العمليات البطولية

إضافة إلى استمرار المعارك بدون توقف فقد خاضت المجاميع الأجية بقيادة الحبيب عمليات بطولية نادرة، فالدوريات الهولندية معرضة دائماً للخطر ففي أي لحظة يهاجمها الأجيون ويقتلون جميع أفرادها أو يتسلق قرابة 20 شخصاً أو أكثر الأسوار المحصنة في جنح الظلام فيقتلون كل من يجدونه من الهولنديين ويخرجون ومعهم الأسلحة والغنائم، وقد يكمنون لفرقة هولندية فيبيدونها عن بكرة أبيها، وقد يدخل شخص بصفة تاجر ماشية أو غيرها بين الهولنديين فإذا صار بينهم يخرج خنجره ويقتل ضابطين أو ثلاثة قبل أن يقتلوه، كل تلك العمليات أصابت الهولنديين بالرعب.

يقول الماجور براندهوف عن هجمات الأجيين المباغتة: (إن للعصابات الأجية مهارة ودربة على القتال، كانوا يتخيّرون الهجوم تخيّراً على أقسام الجيش، والجيش الهولندي منفصلة أجزاؤه بعضها عن بعض، فالأمامي لا يرى من في الوسط، وهذا لا يرى الخلفي، فلما هاجم الأجيون الطليعة لم يعلم بذلك من يليها، هاجموا من اليمين، فلما اتجه الهولنديون إلى اليمين هاجم آخرون من الشمال، أي من خلفهم، وهذه خطة محكمة، وكانت الهجمات تقع في آن واحد على الأقسام، فتؤخر تقدم الجنود، لأنهم لا يعرفون ما وقع لإخوانهم).

ويضيف براندهوف في حديثه عن مدى صلابة الأجي في الدفاع عن دينه ووطنه وتضحيته بنفسه في سبيل ذلك فيقول: (إن استقتال الأجيين وغيرتهم الدينية وحروبهم الطويلة قد استرعى إعجاب الكثيرين من الهولنديين أنفسهم فهم يقتحمون غمار الحرب، ويتسابقون لورود حياض المنايا، يدفعهم الحماس الديني معتقدين بأن كل ما يعانونه من حرب وشقاء جهاد في سبيل الله، وأن لهم الجنة).

وهناك شواهد كثيرة جداً وشهادات شهود عيان كثيرة أيضاً في الوثائق الهولندية سجلها التاريخ عن تلك الشجاعة التي تشبه المعاجز، فالكثير من الضباط والجنود سجلوا شهاداتهم عن رجل أجي يهاجم وحده مجموعة من الجنود والضباط ولا يحمل سلاحاً بيده سوى سكين أو رمح فيتلقى الرصاص بصدره ولا يسقط حتى يقتل من الهولنديين جندياً أو اثنين أو أكثر.

وكتب المراسل الحربي لجريدة التايمس اللندنية حينئذ يقول: (إن الأجيين ليسوا من النوع الذي يفرض عليه الإستسلام فرضاً مهما بلغت أعمال الإبادة، لا يتساوون مع سكان الجزائر الأخرى، إنهم ذوو عزائم قوية وحماس منقطع النظير، يفضلون الموت على الإستسلام إذا عدم الأمل، ولكنهم في حاجة إلى الأسلحة الجيدة للتغلب على الأوربيين).

القيادة الشجاعة

توالت هجمات الحبيب على مراكز الهولنديين وطرق مواصلاتهم وأحرقوا مستودعات الأسلحة الهولندية، وعادت المعارك إلى قوتها على يديه فاسترجع مناطق (كلي كلودا) و(كرينغ رايا) وكبد الهولنديين خسائر فادحة في (بوكيت سيروم) ووجه لهم ضربات قوية وجسيمة، واستمرت المعارك لعدة أشهر وأنزل بهم هزيمة ساحقة في معركة (كلي تارون) على أطراف العاصمة وحاصر أطراف العاصمة، وجعل هدفه القضاء عليهم نهائياً في معركة أخيرة في العاصمة (بندر أجيه) التي سماها الهولنديون (كوتاراج)، فبدأ الهولنديون يعززون من إمداداتهم أمام زحف هذا القائد البطل ووصلت قوات هولندية كبيرة مجهزة بالمدافع من (بتافيا) فضاعف عبد الرحمن من استعداده وإصراره على خوض المعركة، وتوالت الإمدادات الهولندية حتى تجمعت لديهم قوة عظيمة استطاعوا بها الإستيلاء على بعض مناطق عبد الرحمن في (مونتاسيك) و(سونوب) و(انك باتي) و(انك كالونغ) في محاولة لتقليص قوته وإضعافها، فواجههم عبد الرحمن في معركة (لونغي) وهي آخر معركة خاضها حيث انكسر الأجيون أمام كثرة العدو الهولندي وتعزيزاته وكثر القتلى في صفوف الأجيين فارتمى عبد الرحمن بين القتلى متصنّعاً الموت ثم نجا ليلاً وعاد إلى رجاله لكن الهولنديين استطاعوا القبض عليه.

النفي

لم يفرح الهولنديون منذ احتلالهم أندونيسيا كما فرحوا عندما ألقوا القبض على الحبيب عبد الرحمن (فغرقوا في السرور إلى أذقانهم لنفيه ونظموا القصائد وتغنوا بها) كما يقول مؤرخهم سنتخراف في كتابه أجيه، وصدر القرار الهولندي بنفيه على فصعد إلى الباخرة مرفوع الرأس والجبين وسط صفوف الأعداء ونفي الى سريلانكا ثم الى مكة المكرمة عام (1879) وبقي في مكة حتى وفاته فيها عام (1305هـ/1888م) فانطوت بموته أروع صفحة من تاريخ النضال المسلح في أندونيسيا.

اضف تعليق