نالت الثورات الشيعية التي قامت ضد السلطتين الأموية والعباسية نصيباً كبيراً من التشويه والتدليس من قبل هاتين السلطتين اللتين سخّرتا (جيشاً) من المتزلّفين والوضّاعين ووعّاظ السلاطين لتأليب الرأي العام ضد هذه الثورات وتحريف أهدافها ووصم أصحابها بالتهم الباطلة، ومن هذه الثورات التي كان لها النصيب الأوفر من هذه السفاسف والأراجيف هي ثورة الثائر الطالبي البطل عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب...

نالت الثورات الشيعية التي قامت ضد السلطتين الأموية والعباسية نصيباً كبيراً من التشويه والتدليس من قبل هاتين السلطتين اللتين سخّرتا (جيشاً) من المتزلّفين والوضّاعين ووعّاظ السلاطين لتأليب الرأي العام ضد هذه الثورات وتحريف أهدافها ووصم أصحابها بالتهم الباطلة، ومن هذه الثورات التي كان لها النصيب الأوفر من هذه السفاسف والأراجيف هي ثورة الثائر الطالبي البطل عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب.

عبد الله بن معاوية

هو عبدالله بن معاوية بن عبدالله بن جعفر ــ ذي الجناحين ــ بن أبي طالب بن عبد المطلب، ولد عام (83هـ) في مكة المكرمة، أمه أم عون واسمها أسماء بنت العباس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، أما زوجته فهي أم زيد بنت زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وكان عبد الله من المشتركين في ثورة زيد ــ الشهيد ــ بن علي في ثورته على الأمويين، أما سبب تسمية أبيه بمعاوية فقد روى السيد جمال الدين الحسني المعروف بـ (ابن عنبة) في كتابه عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب: (إن عبد الله بن جعفر كان عند معاوية فبشّروه بولد فعرف معاوية الخبر فقال: سمِّه معاوية ولك مائة ألف درهم، ففعل، فأعطاه المال، وأعطاه عبد الله للذي بشره به).

ويتضح من خلال هذه الرواية إن تسميته بمعاوية لم تكن عن قناعة بل جاءت خوفاً من غدر معاوية وخشية من غائلته فليس ببعيد أن يفعل ما لا تحمد عقباه إذا لم يمتثل عبد الله لطلبه كما لم يكن دافعه المال لأن عبد الله وهب كل ما أعطاه معاوية لمن بشّره بالصبي، ثم إن مثل هذه الأسماء كانت معروفة ومتداولة عند العرب في الجاهلية والإسلام وهناك كثير من الأشخاص المعروفين قد تسمّوا بها فلا صحة لما يدعيه البعض من أن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) قد سمُّوا أولادهم من أجل بعض الصحابة المعادين في حقيقتهم لأهل البيت لكي يزوّق تاريخهم بهذه التفاهات التي لا تغني ولا تسمن من سيرتهم الهزيلة وهذا الموضوع لا نريد الخوض فيه لكي لا نشط عن موضوعنا.

ورث عبد الله بن معاوية صفات الجود والكرم والنبل عن جده عبد الله، وورث الشجاعة والبطولة والبسالة والثبات واليقين والفصاحة والبلاغة عن جده جعفر بن أبي طالب، كما كان شاعراً مجيداً وكان يكنى بأبي معاوية.

شرارة الثورة

برز هذا الاسم على المسرح السياسي في ذلك الوقت كأعظم ثائر عرفته الساحة الإسلامية، وشاع اسمه وتوسّع نفوذه حتى امتد إلى مناطق كثيرة وكبيرة على خارطة العالم الإسلامي وأصبح أمره يهدِّد الأمويين، وأوجفت له قلوب العباسيين، ووجمت له وجوههم المقنّعة بالغدر والخيانة.

بدأت حركة عبد الله بن معاوية عندما دخل الكوفة مع أخوته الحسن ويزيد وعلي وصالح سنة (126هـ) ليستلم عطاءه من الوالي الأموي يوسف بن عمر فطاب له المقام في الكوفة، وبعد مقتل يحيى بن زيد وموت يزيد بن الوليد ساد الاضطراب الوضع العام في سائر البلاد، وتأججت فورة السخط والغضب الشعبي العارم على بني أمية، فاجتمع أهل الكوفة وبايعوا عبد الله بن معاوية فخرج بهم لقتال جيش الشام المتمركز في الحيرة بقيادة عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن مروان وذلك في سنة (127هـ).

شجاعته

لقد ورث عبد الله الشجاعة الهاشمية فهو سليل سيد البطحاء أبي طالب (عليه السلام) الذي قال فيه رسول الله (صلى الله عليه وآله): (رحم الله عمي أبا طالب، لو أولد الناس كلهم لولدوا شجعانا)، وهو حفيد بطل مؤتة وقائدها، فورث عن هذين البطلين أعلى درجات الشجاعة والثبات، ففي تلك الفترة الدموية الرهيبة التي حكمتها سلطة الحديد والنار لم يتهيِّب عبد الله من القيام والثورة ضد أبشع سلطة عرفها التاريخ الإسلامي وأشدها دموية، بل لم يدخل قلبه خشية من تبعات الثورة وما سيؤول إليه أمره إذا فشلت الثورة، فقد غَضِب لله في ثورته فاصطدم بالجيش الأموي رغم عدم التكافؤ بين الجيشين وجرت معارك ضارية بين الطرفين واقتتلوا قتالاً شديداً لعدة أيام.

المؤامرة الجبانة

لما أحسّ الأمويون بأن لا طاقة لهم على كسر هذا السيف الذي سُلَّ بوجوههم لجأوا كعادتهم في مثل هذه الظروف الصعبة إلى الأساليب الجبانة وممارسة الحيلة لتفريق عدوهم وزرع الفتنة في صفوفه ومن ثم تقويضه، فدسّ ابن عمر رجلاً بين صفوف عبد الله بن معاوية والتقى برجل من جيشه يُدعى ابن ضمرة واتفقا على أن يخذل ابن ضمرة عبد الله وينهزم من المعركة، والظاهر أن ابن ضمرة هذا كان على رأس جماعة كبيرة من جيش عبد الله فأغراه بأموال ومناصب ومغريات مقابل أن ينهزم إذا نشبت الحرب لكي ينهزم بهزيمته أتباعه وتكون العملية سهلة لمن يريد اللحاق بهم.

وعلم عبد الله بن معاوية بأمر هذه المؤامرة، فقال لأصحابه: إذا انهزم ابن ضمرة فلا يهولنكم ذلك. ولكن رغم هذه التوصيات إلا أن أكثر الناس في جيشه لما رأى انهزام ابن ضمرة انهزموا معه وهربوا وتركوا عبد الله مع عدد قليل يواجهون جيشاً يفوقهم كثيراً عدَّة وعدداً فقاتلوا معه ببسالة وشجاعة نادرة لأيام عديدة في شوارع الكوفة وأزقتها، وقتل من بقي مع عبد الله حتى بقي يقاتل وحده وهو يقول:

تفرَّقتِ الظباءُ على خراشٍ *** فما يدري خراشٌ ما يصيدُ

ثم انضمَّ إليه جماعة وقاتلوا معه ولما جن الليل خرجوا من الكوفة إلى المدائن ومنها إلى بلاد فارس فبايعه فيها جماعة كثيرة من الناس واستقر في أصفهان ثم في اصطخر وامتد نفوذه إلى مناطق واسعة منها: البصرة، وهمدان، وقم، والري، وقومس، وأصفهان، وفارس، وولى أخوته على البلاد وقصده الناس ومنهم بنو العباس السفاح والمنصور ــ الذي ولاه على إيذج ــ وعيسى بن علي وحتى من بني أمية ممن انشق عنهم حيث قصده سليمان بن هشام بن عبد الملك وعمر بن سهيل بن عبد العزيز بن مروان (فمن أراد منهم عملاً قلّده، ومن أراد منهم صلة وصله) فلم يزل نفوذه وسيطرته على هذه البلاد حتى تولى الخلافة مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية والملقب بـ (الحمار).

الخيانة

أرسل مروان الحمار إلى عبد الله بن معاوية جيشاً كثيفاً بقيادة عامر بن ضبارة ولكن عبد الله لم يجد هؤلاء الناس الذين أنعم عليهم عند الحاجة في هذه الأوقات الحرجة فقد تخلّى عنه كثير منهم وبقي معه أشخاص قليلون لا يمكن معهم حتى التفكير بخوض معركة مع جيش ضخم ولكنه رغم ذلك خاضها بشجاعة، ولكن ما لبث أتباعه أن فروا وقتل من ثبت منهم فاضطر إلى اللجوء إلى كرمان وطلب المساعدة من أبي مسلم الخراساني الذي استولى عليها حديثاً بعد هزيمته لجيش الوالي الأموي نصر بن سيار.

لجأ عبد الله إلى أبي مسلم الخراساني وهو يظن أنه سيمده ويعينه ولكنه لم يعلم إنه لجأ إلى حتفه برجله وإن خنجر الغدر العباسي مبيّتٌ له وإن الخطر الذي هو مقبل عليه أشد من خطر عدوه الأموي وهو يظنهم شركاءه في الثورة !

رأس الشيطان

لقد استولى عبد الله على الكوفة وضمّ إلى دولته شيراز وفارس وكورها وحلوان وقومس وأصبهان والري والبصرة وهمدان وقم واصطخر إضافة إلى الكوفة، وعظم أمره جداً وكاد أن يسقط الدولة الأموية التي لم يبق لها إلا الشام وبعض توابعها، لكن هناك من كان يترصّد هذه الفتوحات وهو يغلي من الغيظ وينظر لها بعين القلق من غير الأمويين، فقد أقضت مضاجع محمد بن علي بن عبد الله بن العباس هذه الثورة العظيمة التي تكاد تقضي على الدولة الأموية فلا بد من معالجة الموقف وإيقاف هذه الثورة قبل أن تفلت الأمور نهائياً من أيدي بني العباس ورغم أن عبد الله قد أنعم على بني العباس وأكرمهم وولاهم على الأمصار ومنهم المنصور بن محمد بن علي الذي ولاه على إيذج! لأنه كان يظن أنهم معه في ثورته، إلا أن محمد قد تنكر لكل هذا الفضل لعبد الله وغدر به وأمر بقتله.

توجه عبد الله إلى خراسان وهو مطمئن لأن فيها أبو مسلم الخراساني داعية العلويين كما يظن، فلم يكن يعلم أن أبا مسلم يدعو للعباسيين وقد لجأ إليه طلباً لنصرته فحبسه ثم قتله قتلة شنيعة بإيعاز من محمد بن علي بن عبد الله بن العباس!!

الشيطان العباسي

محمد بن علي بن عبد الله بن العباس هذا الرجل في الحقيقة هو مؤسس الدولة العباسية وواضع دعائمها التي قامت على الدماء والجثث والأشلاء وقد انصب اهتمامه على مواجهة العدو المشترك وهما الثوار العلويين والطالبيين خفية وغدراً والحكم الأموي جهراً، فقد بدأ محمد يحوك الدسائس والمؤامرات للإيقاع بالثوار وقتلهم وتصفيتهم ليصفو إليه الأمر، وكان يخطط للاستقلال بالثورة وسرقتها. فقد كان داهية ماكراً غادراً فاختار خراسان للدعوة إليه وإلى أهل بيته.

وانتشر دعاته واستقل بهم، وعمل جاهداً على إبعادهم عن الثورات، واستمر في عمله بمنتهى الحذر والسرية واستغلال نفوذ العلويين لصالحه وصالح دعوته وإيهام الناس بأنه يعمل على الدعوة لهم، فاختار خراسان وأرسل إليها دعاته لأن أهلها شيعة ولم يكن يعرف أنه يدعو لنفسه سوى القليل من خاصته.

بمثل هذه الأساليب الشيطانية حاكت الدولة العباسية خيوط خلافتها الأولى، الخيوط التي حاكها محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ونسج منها في الظلام دولة دموية سادية بشعة جرّت المهالك والويلات والمآسي على الأمة الإسلامية، فمقام محمد في الدولة العباسية كمقام معاوية في الدولة الأموية، فكانت خلايا محمد بن علي تعمل بصمت داخل الثورة فتلتقط أيادي الإغتيال زعماء الثورة وهم غافلون، فلم يخطر ببال عبد الله بن معاوية أن محمداً يدعو لنفسه!!

عبد الله في سجن الخراساني

كان عبد الله مطمئناً عندما لجأ إلى أبي مسلم الخراساني ولم يكن ليتصوّر أن الخسّة والنذالة ببني العباس تصل بهم إلى هذا الحدّ فقد تنكّروا لكل القيم الإنسانية والشيم العربية التي تحفظ ذمام المستجير فما إن دخل كرمان حتى قبض عليه أبو مسلم وأودعه السجن وجعل عليه جواسيساً ينقلون إليه ما يتحدث به فأبلغوه أنه يقول: (ليس في الأرض أحمق منكم يا أهل خراسان في طاعتكم هذا الرجل وتسليمكم إليه مقاليد أموركم من غير أن تراجعوه في شيء أو تسألوه عنه، والله ما رضيت الملائكة الحرام من الله تعالى بهذا حتى راجعته في أمر آدم عليه السلام، فقالت: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء، حتى قال لهم: إني أعلم ما لا تعلمون).

فلما بلغ هذا القول إلى أبي مسلم قال: ما ظنكم برجل يتكلم بهذا وهو أسير، والله لو أطلق لأفسد كور خراسان)

لقد كان عبد الله يظن ــ كأهل خراسان ــ وغيرهم أن أبا مسلم يدعو للعلويين وليس للعباسيين حتى دخوله السجن واتضاح الأمور له، ولم يكن عبد الله هو الوحيد من الثوار على الدولة الأموية من يعتقد بهذا، فقد كان كبار قادة الثورة يعتقدون بهذا كعثمان بن محمد بن خالد بن الزبير، ومطير بن عبد الله وغيرهما وعندما اعترضا على قتل محمد (ذي النفس الزكية) وأخيه إبراهيم من قبل المنصور وذكراه بالبيعة التي في رقبته لمحمد تمت تصفيتهم على يديه.

الجريمة

إن الذي أثار عبد الله على أهل خراسان هو عدم اعتراضهم على تسلط العباسيين على البلاد وخيانة العلويين ونقض بيعتهم والغدر بهم، ولعل أهل خراسان كانوا يرحبون بأي دعوة تخلصهم من جور الأمويين.

لقد صدم عبد الله بهذه الخيانة التي لم يكن يتوقعها فأرسل ــ وهو في سجنه ــ رسالة إلى أبي مسلم يذكره بعواقب الخيانة والظلم والعمل بالتقوى فجاء ما نصها: (إلى أبي مسلم، من الأسير في يديه، بلا ذنب إليه ولا خلاف عليه. أما بعد فإنك مستودع ودائع، ومولى صنائع، وإن الودائع مرعية، وإن الصنائع عارية، فاذكر القصاص، واطلب الخلاص، ونبه للفكر قلبك، واتق الله ربك، وآثر ما يلقاك غداً على ما لا يلقاك أبداً، فإنك لاقٍ ما أسلفت، وغير لاقٍ ما خلفت، وفقك الله لما ينجيك، وآتاك شكر ما يبليك).

ولكن بدلاً من أن يتعظ الخراساني من هذه الرسالة فقد زاد من غيه وظلمه وكأنها تأمره بخلاف ما فيها فأرسل إلى عبد الله من قتله ومن معه وقطع رؤوسهم وأرسلها إلى ابن ضبارة القائد الأموي الذي أرسلها بدوره إلى مروان الحمار.

عبد الله من أجياد بني هاشم

اشتهر عبد الله بصفاته الحميدة وطبائعه الكريمة وعُرف بالكرم والعطاء، ورُويت في ذلك روايات كثيرة حتى مدحه الشاعر ابن هرمة ــ أبو إسحاق إبراهيم بن علي بن سلمة الكناني القرشي (80هـ/ 176هـ) ــ بقصيدة طويلة مطلعها:

عاتبَ النفسَ والفؤادَ الغويا *** في طلابِ الصِّبا فلستُ صبيَّا

ويقول منها:

أحبُّ مدحاً أبا معاوية الماجدَ لا تلقهِ حصوراً عييَّا

بل كريماً يرتاحُ للمجدِ بسَّاماً إذا هزَّه السؤالُ حَيِيَّا

إنَّ لي عنده وإن رغِمَ الأعداءُ حظاً من نفسهِ وقفيا

إنْ أمُتْ تبقَ مدحتي وإخائي وثنائي من الحياةِ مَليا

يأخذُ السبقَ بالتقدُّمِ في الجريَ إذا ما النَّدى انتحاهُ عليا

ذو فتاءٍ عندَ العداةِ وأوصاهُ أبوهُ ألا يزالُ وفيا

فرعى عقدةَ الوصاةِ فأكرمْ بهما موصِيَاً وهذا وصِيا

يا ابنَ أسماءَ فاسقِ دلوي فقد أوردتُها منهلاً يثجُّ رويِّا

كما مدحه أيضا بقوله:

فإلا تواتِ اليوم سلمى فـربَّما شربنا بحوضِ اللهوِ غيرَ المرنَّقِ

فدعها فقد أعذرتَ في ذكرِ وصلها وأجريتَ فيها شأوَ غربٍ ومشرقِ

ولكنْ لعبدِ اللهِ فانطقْ بمدحه يُجيرُكَ من عسرِ الزمانِ المطبَّقِ

أخٌ قلتُ للأذنينِ لمّا مدحته هلمُّوا وساري الليل مِ الآنَ فاطرُقِ

شديدُ التأنِّي في الأمورِ مجرّبٌ متى يعرِ أمرَ القومِ يفرِ ويُخلقِ

ترى الخيرَ يجري في أسرَّةِ وجههِ كما لألأت في السيفِ جريةَ رونَقِ

كريمٌ إذا ما شاءَ عدَّ له أباً له نسبٌ فوق السماكِ المحلّقِ

وأمَّا لها فضلٌ على كلِّ حُرَّةٍ متى ما تسابِقْ بابنِها القومَ تَسبِق

حللتَ محلَ القلبِ من آلِ هاشمٍ فعشكَ مأوى بيضِها المتفلّقِ

ولمْ تكُ بالمُعزى إليها نصابُه لِصاقاً ولا ذا المركبِ المتعلّقِ

فمنْ مثلُ عبد اللهِ أو مثلُ جعفرٍ ومثلُ أبيكَ الأريحيِّ المرهّقِ

اليد الأموية الملوَّثة

لم يكتف الأمويون بتقويض ثورته ولا العباسيون بقتله وسرقة منجزات ثورته بل إنهم سعوا إلى تسقيطها أمام أنظار الرأي العام واتهامه بصفات كانت بهم كالقسوة والزندقة وسوء السيرة إذ أنهم لم يجدوا ما يعيب عبد الله سوى أنه أعلن الثورة على سياستهم فألصقوا به ما ليس فيه وكما قال الشريف الرضي:

فلمَّا لم يلاقوا فيَّ عيباً رموني من عيوبِهمُ وعابوا

وهذا الفعل القبيح ليس بجديد على الأمويين ولا على العباسيين فقد سعوا وجهدوا على مجابهة أي حركة أو ثورة تقوم ضدهم بإعلام مرتزق يقوم على الانتقاص منها ومن أصحابها وتزوير الحقائق وتلفيق الأكاذيب ضدها.

إن سيرة عبد الله بن معاوية الصالحة لم تكن لتمرَّ على الأمويين والعباسيين وأتباعهم دون أن يلوثوها، ولن يرضى أبو الفرج الأصفهاني الأموي إلا بأن يركن إلى نزعته الأموية للدسِّ في هذه السيرة، وليس ذلك بعجيب عليه بعد أن امتدت يداه للعبث بسيرة من هو أفضل من عبد الله وألصق فيه ما ألصق إرضاءً لأهوائه، حيث لم تفته بائقة وجريمة ومثلبة ارتكبها أسلافه الأمويون دون أن يضع مثلها في سيرة بني هاشم وهناك كثير من الأمثلة، وما يهمنا هنا ما وضع في سيرة عبد الله بن معاوية.

أكاذيب يفندها العقل

روى أبو الفرج في الأغاني (ج11ص75) ما نصه: (كان عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب من أشد الناس عقوبة، وكان معه عبد الله بن المسور بن عون بن جعفر بن أبي طالب فبلغه أنه يقول: أنا ابن عون بن جعفر فضربه بالسياط حتى قتله)!!

أنا لم أفهم هنا سبب التهمة لكي استوعب العقوبة! ولا أظن أن القارئ يرى أن هناك تهمة تستوجب العقوبة لمجرد أن يقول الإنسان أنا ابن فلان!! فهل هي جريمة أن يفصح الرجل عن اسم أبيه؟ ويسترسل أبو الفرج في لصق التهم بسيرة عبد الله فيقول: (إن معاوية دعا بامرأة ابن المسور وكلمها بشيء فراجعته فأمر بقتلها فقتلت)!!

إنه هنا يلصق جرائم أسلافه بعبد الله فقتل النساء لم تكن من شيم بني هاشم، بل من (شيم) الأمويين والزبيريين والعباسيين وتاريخهم (يحفل) بهذه (الشجاعة النادرة) التي بدأت (ببطولات) معاوية بقتله آمنة بنت الشريد زوجة الصحابي الجليل عمرو بن الحمق الخزاعي بعد أن سجنها لمدة سنتين في الشام، وبعد أن قتل زوجها وضع رأسه في حجرها ثم قتلها!

ثم تسلسلت هذه (البطولات) في تاريخ الأمويين وانتقلت إلى الزبيريين بقتل عمرة بنت النعمان زوجة المختار بن أبي عبيد الثقفي على يد مصعب بن الزبير وغيرها من البطولات التي حفل بها تاريخهم (المجيد).

الزندقة

ولا تنتهي مهازل أبي الفرج عند هذا الحد فقد لوّث سيرة عبد الله بتهمة الزندقة، ولكنه قدم لهذه التهمة بعض المُمهِّدات التي تناول فيها صفات عبد الله النبيلة لكي يدسَّ السمَّ في العسل ويجعله سائغاً لدى القارئ، فقال في (مقاتل الطالبيين) (ص105): (وكان عبد الله جواداً فارساً شاعراً، ولكنه كان سيء السيرة، رديء المذهب، قتّالاً، مستظهراً ببطانة السوء ومن يُرمى بالزندقة، ولولا أن يُظن أن خبره لم يقع علينا لما ذكرناه مع من ذكرناه....)!!

ثم يروي بعض القصص المختلقة التي تدل على القسوة والبشاعة اتّصف بها طغاة بني أمية وولاتهم وألصقها بعبد الله! ولا أدري كيف يستقيم هذا القول مع القول الذي قاله أبو الفرج نفسه في نفس الكتاب من أن أهل الكوفة بايعوه؟ وقاتل بهم الوالي الأموي عبد الله بن عمر؟ ولمّا خرج من الكوفة امتدت دولته حتى ضمَّت البصرة وهمدان وقم والري وقومس وأصفهان وفارس وجعل مركز عاصمته أصفهان؟ فكيف ترضخ كل هذه الأمصار والدول والولايات لحكم زنديق!! وكيف رضيت الكوفة وهي أم التشيُّع أن تبايع رجلاً سيء الدين؟ وكيف قَبِل زيد الشهيد ابن علي بن الحسين وهو (من علماء آل محمد) كما وصفه الإمام الرضا (عليه السلام) أن يزوجه من ابنته أم زيد فهلا سأل الأصفهاني نفسه كيف اتفقت كلمة العلماء من كل المذاهب ومنهم أبو حنيفة على تأييد ثورة زيد وشرعيتها إذا كان قد زوج ابنته من زنديق؟ الله أكبر قاتلهم الله أنى يؤفكون

ونحيل القارئ إلى المقارنة بين اتهام أبي الفرج لعبد الله بالزندقة ومفاد الرسالة التي بعثها عبد الله بن معاوية إلى أبي مسلم عندما كان في سجنه والتي ذكرناها وما حملته من إيمان صاحبها بالله ورسوله والقرآن وجميع قيم السماء المقدسة فهل خفيت هذه الرسالة عن أبي الفرج كلا والله بل اطلع عليها لكن الشيطان كان قرينه فتغاضى عنها.

الوسيلة القذرة

إن تهمة الزندقة لم تكن جديدة على الأمويين والعباسيين معاً في إلصاقها بمن شاءوا من أعدائهم وخصومهم فكل من يوالي أهل البيت (عليهم السلام) كان يُتّهم بالإلحاد، وهي ذريعة للإيقاع بهم وقتلهم، وقد مارست هذه السياسة القذرة وسائل دنيئة وخسيسة للإيقاع بالشيعة وقتلهم والحط من قدرهم وكان العباسيون يتّهمون الشيعة بالزندقة لتبرير قتلهم وتشريدهم ومطاردتهم أمام الرأي العام، يقول عبدالرحمن بدوي في كتابه: (من تاريخ الالحاد في الاسلام) (ص37): (إنّ الاتهام بالزندقة في ذلك العصر كان يسير جنباً إلى جنب مع الانتساب إلى مذهب الرافضة). ويقول الدكتور أحمد شلبي في كتابه: (التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية) (ج3ص200): (إن الرمي بالزندقة اتخذ وسيلة للإيقاع بالأبرياء في كثير من الأحايين). ويقول الدكتور أحمد أمين المصري في كتابه (ضحى الإسلام) (ج1ص257): (الحق إن بعض الناس اتخذوا الزندقة ذريعة للإنتقام من خصومهم، سواء في ذلك الشعراء والعلماء والأمراء والخلفاء). وكثرت تهمة الزندقة وأصبحت ملازمة للشيعي حتى قال الطغرائي:

ومتى تولّى آل أحمد مسلمٌ *** قتلوهُ أو وصموهُ بالإلحادِ

وما يدل على كذب الأصفهاني وتلفيقه لهذه الروايات الأموية أو نقلها من مصادر مشبوهة خطتها يد أثيمة إن عبد الله بن معاوية لمّا قتل في السجن أخرِجَ وصُلّيَ عليه وكُفِّنَ ودُفِنَ بأمر أبي مسلم الخراساني، ولو كان زنديقاً كما قال الأصفهاني لأتخذ قاتله هذه التهمة ذريعة في قتله بل لقتله أمام الملأ وأذاع قتله تقرُّباً إلى الله والناس، ولمَا قتله غيلةً في السجن وسَمَح بالصلاة عليه.

والغريب العجيب أن الأصفهاني في كتابه الأغاني يذكر أشعاراً لعبد الله بن معاوية غاية في الإيمان بالله والصبر على بلاء الدنيا والأجر في الآخرة ومنها على سبيل المثال لا الحصر

ألا تزعُ القلبَ عن جهلهِ *** وعمَّا تؤنبُ من أجله !

فأبدلْ بعدَ الصّبا حلمَه وأقصرَ ذو العذلِ عن عذلِهِ

فلا تركبنَّ الصنيعَ الذي تلومُ أخاكَ على مثلهِ

ولا يعجبنّكَ قولَ امرئٍ يخالفُ ما قالَ في فعلِه

ولا تُتْبِعَ الطرفَ ما لا تنالْ ولكن سلِ اللهَ من فضلِه

فكمْ مِنْ مُقلٍ ينالُ الغِنى ويحمدُ في رزقهِ كلِه

وقوله في القناعة واليقين

إذا افتقرتْ نفسي قصرتُ افتقارَهـا عليها فلمْ يظهرْ لها أبـداً فـقـرِي

وإن تلقني في الدهرِ مندوحةُ الغِنى يكنْ لأخلائي التوسُّعُ في الـيُسرِ

فلا العُسرُ يُزري بي إذا هو نالني ولا اليسرَ يوماً إن ظفرتُ به فخري

وشعره كله من هذا القبيل فلا يوجد فيه بيت واحد يدل على ما اتهمه به الأصفهاني من الزندقة وهناك

بل إن هناك ما يدحض تهمة الأصفهاني جملة وتفصيلا إضافة إلى كل هذه الأدلة أن عبد الله بن معاوية كان له قبر يُزار، فقد ذكر الجاحظ في البيان والتبيين (ج2ص67،68)، وابن الأثير في الكامل (ج5 ص151)، في كيفية قتل عبد الله بن معاوية ما نصه: (فأمر ــ أي أبي مسلم الخراساني ــ من وضع فرشاً على وجهه، فمات وأخرج فصلى عليه ودفنه وقبره بهراة معروف يُزار)!! فكيف خفي أمر زندقته على الناس في عصره لكي يأتي أبو الفرج فيكتشف زندقته بعد قرون طِوال!! ما عشت أراك الدهر عجبا

وينقل السيد هاشم معروف الحسني نفس الرواية في كتابه: (الانتفاضات الشيعية عبر التاريخ) (ص507) حيث ينقل عن كتاب (أحزاب المعارضة السياسية في صدر الإسلام) لفلهاوزن ما نصه: (أمر أبو مسلم الخراساني بالقبض على عبد الله بن معاوية ومن معه فأرسل إليهم وهم نيام من وضع على وجوههم غطاء وضغط عليه حتى ماتوا وكان له في هراة قبر تزوره الناس) وكان مقتله سنة (131هـ) في مدينة مرو الروذ

فكل أحداث سيرته وأعماله تنفي عنه الزندقة وتثبت إيمانه بالله، بل تؤكد على طاعته لأهل البيت (عليهم السلام) أيضاً والدعوة لهم، ونقتطف من سيرته هذا الحدث الذي دلل على التزامه بالولاء لأهل البيت، فعندما (خرج عبد الله بن معاوية بالكوفة ... ثم أتى المدائن فلحقه قوم انضموا إليه، فسار إلى حلوان، فغلب عليها وعلى نواح من الجبل، وضرب الدراهم، وكتب عليها: (قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ثم غلب على أصبهان وعامة فارس والأهواز...)

وقد أجمعت الأمة على أن المقصود بالقربى في هذه الآية هم الأئمة المعصومون (عليهم السلام) من ذرية النبي (صلى الله عليه وآله) وهذه الأدلة كافية لإزالة كل التهم التي ألصقها أعداؤه به.

لقد ثار عبد الله للحق ومن أجل إحقاق الحق ومضى شهيداً في سبيل الله وقد رثاه جملة من الشعراء منهم أبو مالك الخزاعي من قصيدة مطلعها:

تنكرت الدنيا خلاف ابن جعفر *** عليّ وولى طيبها وسرورها

اضف تعليق