الاخبار الكاذبة لها سوق رائجة، لارتباطها بعنصر الاثارة، فامبراطور الاعلام نورثكليف يعرف الخبر على انه الاثارة والخروج عن المألوف، والكذب اسهل طريقة للخروج عن المألوف، لا سيما اذا كانت المنظومة الإعلامية كاملة لا تحاسب على نشر المعلومات دون التحقق منها، ومع غياب المعايير المهنية...

في منتصف مايو ايار من عام 2017 وقبيل نهاية الحرب على داعش، انتشر خبر في وسائل الاعلام العراقية والعربية مفاده، ان جندياً عراقياً قاتل ضد داعش وأصيب بالمعارك، فجاء الى مستشفى الكاظمية للعلاج، فقام الأطباء بسرقة احدى كليتيه، وانتشرت عناوين إخبارية فضائحية، من بينها على سبيل الذكر "فضيحة بجلاجل.. جندي عراقي جريح جراء قتال داعش سرقوا له كليته واعادوه للمعركة" وعنوان اخر في صحيفة القدس العربي "سرقة كلية جندي عراقي دخل المستشفى للعلاج"، اما موقع ارم نيوز الخليجي فعنون بالاتي: "للمرة الأولى بتاريخ الجيش العراقي.. سرقة كلية جندي ووزير الدفاع يأمر بالتحقيق"، وفي موقع قناة العربية السعودية كتبت العنوان الاتي: " فضيحة غير مسبوقة سرقة كلية جندي عراقي بالمستشفى".

بدأت القصة في قناة هنا بغداد، بعد اتصال المقاتل رائد عاصي شكير في برنامج يقدمه ماجد سليم (المشهور بتعليقاته غير المهنية)، وسرد المقاتل قصته للمقدم الذي اخذ يكيل الكلام الجارح لمن قام بالسرقة المزعومة، وبعدها انتشر الخبر تقريبا في جميع وسائل الاعلام العراقية ومواقع التواصل الاجتماعي، وكانت عبارات الشتائم والسباب تطال وزارة الدفاع ومستشفى الكاظمية لكونهم يسرقون الأعضاء البشرية، فيما نشرت بعض المواقع العربية تقارير عن حالات الاتجار بالاعضاء البشرية في العراق، لكن الحقيقة كانت اكثر صدمة، فالجندي لم تسرق كليته، والخبر جاء من اتصال هاتفي ودون معرفة تعليق الطرف المتهم وهو مستشفى الكاظمية.

الخبر الكاذب روت تفاصيله إدارة مستشفى الكاظمية على لسان مديرها عبد الرحمن اسماعيل الذي قال ان المقاتل رائد عاصي شكير راجع مستشفى الكاظمية يوم الـ31 من تموز 2014، ولم يمكث فيها سوى أربعة أيام لاجراء علاجات طارئة، اما مدير عام صحة جانب الكرخ في بغداد جاسب لطيف علي الحجامي، فقد أعلن ، إن المقاتل شكير كان قد تبرع بكليته منذ العام 2012، استنادا إلى سجلات رسمية، وان المدعو تبرع بكليته للمريض احمد عبد الله احمد في مستشفى الكرامة التعليمي عام 2012، مؤكدا أن هذه المعلومات موثقة في سجلات المستشفى.

لماذا انتشر خبر كاذب بهذه السرعة؟

الاخبار الكاذبة لها سوق رائجة، لارتباطها بعنصر الاثارة، فامبراطور الاعلام نورثكليف يعرف الخبر على انه "الاثارة والخروج عن المألوف"، والكذب اسهل طريقة للخروج عن المألوف، لا سيما اذا كانت المنظومة الإعلامية كاملة لا تحاسب على نشر المعلومات دون التحقق منها، ومع غياب المعايير المهنية التي اختصرت لتتحول الى عملية نسخ ونشر المعلومات دون التحقق منها، فاشهر المواقع الإخبارية العراقية نشر عشرات وربما مئات الاخبار الكاذبة، دون ان تقدم اعتذارا واحدا.

هناك مسببات جوهرية لانتشار الاخبار الكاذبة ابرزها:

اولاً: ضعف او انعدام ثقافة التقصي لدى الصحفيين، فهم اما غير مختصين في مجال الاعلام، او انهم لم يتلقوا التدريب الكافي للتعامل مع غزارة المعلومات يوميا، وخبر مثل سرقة كلية جندي لا يمكن نشره الا بعد القيام بعدة خطوات، ابرزها الاتصال بالطرف الثاني "المتهم" وهو المستشفى لاخذ تعليقه، فربما يكون الجندي كاذباً، ويستغل عواطف الصحفيين من اجل الظهور الإعلامي، وفعلا هذا ما حدث، واذا ما امتنعت إدارة المستشفى عن الرد يمكن سرد ذلك في سياق الخبر.

ثانياً: الخبر القصير هو المشكلة، ففي الاعلام العراقي تنشر اخبار التصريحات والبيانات بدون سياق كامل، بمعنى ان كل تصريح ينشر على انه خبر متكامل، فحديث الجندي يصبح خبراً منفرداً، وهذا خطأ فادح، لان الخبر لا بد وان يجيب على الاستفهامات الستة وهي: ماذا حدث؟ ومتى حدث؟ وأين حدث؟ ومن هم اطراف الحدث؟ وكيف حدث؟ ولماذا حدث؟

المشكلة ان اغلب وسائل الاعلام العراقية لا توجد فيها إجابة لسؤال من هم اطراف الحدث؟ لان اخبارها تقوم على تصريح واحد.

ثالثاً: الدعاية السياسية ضد الخصوم، اذ تقوم وسائل الدعاية بالتقاط أي معلومة ضد خصومها من اجل تسقيطهم وإبراز جوانب القصور والخلل لديهم، وهذا ما حدث بالضبط مع قصة "الكلية المسروقة للجندي رائد عاصي شكير".

رابعاً: وجود بيئة سياسية فاسدة يسهل عملية تصديق المعجزات، فصفقات الفساد التي تقوم بها الأحزاب حولت البلد الى وطن هوليودي.

خامساً: الجمهور الذي يحب تناول وجبات "الفلفل الحارق"، لا نحب تناول العسل يومياً، نحب التغيير ونريد تجربة شيء جديد، فنشر الاف الاخبار الصادقة يعد وجبة مملة، ولا يجلب تفاعلا لوسائل الاعلام، بينما يسهم خبر كاذب واحد برفع زيارات الموقع الى الملايين، ربما يمثل هذا صيدا سهلا في ظل غياب الرقابة، والتذرع دائما بحرية الصحافة.

سرقة كلية الجندي المزعومة ليست الا مثالاً لعشرات آلاف الاخبار الكاذبة التي تنتشر يومياً في العراق، وهذه علامة داء سرطاني علينا معالجتها قبل ان تصبح مقولة "كلام جرايد" حقيقة مطلقة، لان انعدام الثقة بالاعلام يحوله الى اضحوكة ومثال للاحداث المزورة، وفي عصر الحروب المعلوماتية فان خسارة سمعة وسائل الاعلام المحلية يعني اعلان الهزيمة قبل بدء الحرب، وعند رفع راية الخسارة الإعلامية لا ينفع "طبق الفلفلٌ الحارق" ولا الخبر الصادق، المركب سيغرق بالجميع.

.....................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق