q
إسلاميات - القرآن الكريم

طرق استكشاف بعض بطون القرآن

(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (12)

الآيات الكريمة وهي 6636 آية على المشهور، يمكن إدخالها في مجاميع تحمل خواص مختلفة، بل تدل الروايات الشريفة على كون الآيات الكريمة مندرجة بالفعل ضمن مجاميع مختلفة، ومنها: مجاميع المكي والمدني وما ليس أياً منهما على رأي، مجاميع أين نزلت في مسيرٍ أم مقام أم سهل أم جبل...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة آل عمران: الآية 7).

المنطق الضبابي

سبق: (المحور الثاني: ان المنطق الضبابي أو الغيمي أو منطق الغموض أو منطق الفكر التقريبي أو Fuzzy Loqic الذي اكتشفه العالم الآذري لطفي زاده عام 1965 والذي جهل العالم قيمته حتى 1974 حيث ابتدأوا استثماره في كل الصناعات وأصبح الأساس الذي تتعاطى معه الأجهزة الذكية، يعتمد على دعائم أساسية سبق بعضها، ونشير ههنا إلى دعامتين من أهم دعائمه:

الدعامة الأولى: تحويل الكيفيات إلى كميات.

الدعامة الثانية: إدخال الكميات في مجاميع(1).

أما الدعامة الأولى: فان السبب الأساسي فيها ان الحاسوب وما يسمى بالأجهزة الذكية والبرمجيات لا تفهم الكيفيات ولا يمكنها التعاطي معها إذ كيف يفهم الحاسوب مثلاً معنى الجودة؟ أو الجمال والقبح؟ أو السرعة والبطؤ؟ أو شبه ذلك بل انه لا يتعامل إلا بالكميات والمعطيات الدقيقة 100% وبالضبط بالمعادلات التي تتكون من صفر وواحد بأشكاله المختلفة (مثلاً: 01/ أو 100/ أو 0100) وهكذا..)(2).

إدخال الكميات في مجاميع لتحديد أحكامها أو معانيها

والبحث يدور في هذه الحلقة عن الدعامة الثانية وهي إدخال الكميات في مجاميع يمكن أن تصلح، في الجملة، مدخلاً إلى استكشاف بعض البطون، ويقصد بها أن تلحق كل الحدود الواقعة بين مرتبتين أو رقمين بمجموعة من المجاميع فمثلاً يلحق ما نسبته 45% إلى 55% بالمجموعة الأعلى (الأشرف، الأفضل) أو بالمجموعة الأدنى (الأردأ أو الأسوأ) فإذا بلغت سرعة السيارة مثلاً 50% عُدّت بطيئةً فزاد المنظِّم تدفق الوقود أو خفض ضغط الفرامل، أو بالعكس عدت سريعة فابقىُ المنظم كل شيء على حاله أو زاد ضغط الفرامل أو خفض كمية التدفق.. إلخ وليس الكلام الآن عن تفصيل ذلك وآلياته، بقدر ما نعتبره منطلقاً للبحث.

مجموعتا الأمارات والأصول في دائرة الكمّ

ولنمثل لذلك بواحد من أهم مباحث علم الأصول وهو تحقيق يتكفل بتحليل (الأمارات) و(الأصول) بوجهٍ جديد يبتني على معادلة تحويل الكيفيات إلى كميات أو النظر إليها بهذا المنظار وترجمتها بلغة الأرقام، فإن من المعروف أن (الاستصحاب) عرش الأصول وفرش الأمارات، ويمكننا أن نقوم أولاً بتحويل الكيفيات إلى كميات والذي يعدّ المقابل لقاعدة المنطق الضبابي المعروفة بـ(تحويل الكيفيات إلى كميات) ثم نقوم ثانياً بإدخال الكميات في مجاميع، فتتجلى لنا بذلك المعادلة بشكل أوضح وأعمق فنقول:

حيث ان الدليل الأساس لحجية الأمارات، كخبر الثقة والظواهر ثم لحجية الاستصحاب هو بناء العقلاء، وليس التعبّد، فاننا عند الرجوع إلى بنائهم نجد ان العقلاء يعتبرون وجه حجية خبر الثقة هو أقربية إصابته إلى الواقع ووجه حجية الظواهر أظهرية دلالتها على المراد الجدي، فإذا قمنا بتحليل الأقربية والأظهرية، وارجعناها إلى معادلة كمية، ظهر لنا أن وجه حجيتها في ارتكاز العقلاء هو كون نسبة مطابقتها للواقع بدرجة 80% مثلاً أو فقل: هو دخولها في مجموعة من الدرجات التي تتراوح بين 70% إلى 97% مثلاً؛ نظراً إلى أن ما فوق الـ97% اطمئنان وهو علم عرفي فله أحكامه.

وأما الاستصحاب فوجه حجيته هو كون نسبة مطابقته للواقع درجة 65% مثلاً أو فقل: دخوله في مجموعة تتراوح بين 60% و70% مثلاً(3).

ولذلك كله كانت الأدلة (حاكمة) على الاستصحاب أو (واردة) عليه وكان الاستصحاب حاكماً على البراءة أو وارداً عليها وذلك لأنها تجري فيما لا يعلمون (رفع ما لا يعلمون) فيكون موردها مورد تساوي الوجود والعدم (50% - 50%) أو ما يقارب ذلك مما يعد عرفاً ملحقاً بها كـ(48% - 52%) ولذلك فان الاستصحاب حاكم على البراءة أو وارد (على وجهين)(4).

فلسفة إدخال الآيات في مجاميع مكي مدني، أين، متى.. إلخ

فهذا كله على مستوى الأصول، وأما على مستوى التفسير، فان الآيات الكريمة وهي 6636 آية على المشهور، يمكن إدخالها في مجاميع تحمل خواص مختلفة، بل تدل الروايات الشريفة على كون الآيات الكريمة مندرجة بالفعل ضمن مجاميع مختلفة، ومنها: مجاميع المكي والمدني وما ليس أياً منهما على رأي، مجاميع أين نزلت في مسيرٍ أم مقام أم سهل أم جبل أم غير ذلك، وفيمن نزلت، وفي أية حالة نزلت... إلخ.

وهذه الحالات والمجاميع تصلح تارة أدلة وأخرى مؤيدات وثالثة مشعرات على تأكيد إطلاقٍ أو عدم انعقاده للقرينة المقامية الحافّة بأنواعها أو إيجاب انصرافٍ أو إثبات ناسخيةٍ أو نفيها أو تأكيد حكومة أو عدمها.. إلى غير ذلك.

علوم المجاميع القرآنية مودعة عند باب مدينة علمه (صلى الله عليه وآله)

ولقد كان المحيط بذلك كله، صغرىً وكبرى وتطبيقاً، هو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه وآله)، على ما رواه عنه الشيعة والسنة، فعن الإمام جعفر بن محمد عن أبيه عن آبائه (عليهم السلام) عن علي صلوات الله عليه قال: (سَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللَّهِ فَوَ اللَّهِ مَا نَزَلَتْ آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ وَلَا مَسِيرٍ وَلَا مُقَامٍ إِلَّا وَقَدْ أَقْرَأَنِي إِيَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) وَعَلَّمَنِي تَأْوِيلَهَا فَقَامَ ابْنُ الْكَوَّاءِ فَقَالَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ فَمَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَنْتَ غَائِبٌ عَنْهُ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) مَا كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنَ الْقُرْآنِ وَأَنَا غَائِبٌ عَنْهُ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْهِ فَيُقْرِئُنِيهِ وَيَقُولُ لِي يَا عَلِيُّ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيَّ بَعْدَكَ كَذَا وَكَذَا وَتَأْوِيلُهُ كَذَا وَكَذَا فَيُعَلِّمُنِي تَأْوِيلَهُ وَتَنْزِيلَهُ)(5).

وفي رواية أخرى: عن عبَّاد بن عبد الله قال: قال علي (عليه السلام): (مَا نَزَلَتْ مِنَ الْقُرْآنِ آيَةٌ إِلَّا وَقَدْ عَلِمْتُ أَيْنَ نَزَلَتْ، وَفِيمَنْ نَزَلَتْ، وَفِي أَيِّ شَيْ‏ءٍ نَزَلَتْ، وَفِي سَهْلٍ نَزَلَتْ، أَمْ فِي جَبَلٍ نَزَلَتْ، قِيلَ: فَمَا نَزَلَ فِيكَ؟ فَقَالَ: لَوْ لَا أَنَّكُمْ سَأَلْتُمُونِي مَا أَخْبَرْتُكُمْ، نَزَلَتْ فِيَّ الْآيَةُ (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) فَرَسُولُ اللَّهِ الْمُنْذِرُ، وَأَنَا الْهَادِي إِلَى مَا جَاءَ بِهِ)(6).

وقد وردت الرواية بذلك من طرق العامة أيضاً: أخبرنا عبد الله بن جعفر الرَّقِّيُّ، أخبرنا عبيد الله بن عمرو، عن معمر، عن وهب بن أبي دُبَيِّ، عن أبي الطفيل، قال: قال علي (عليه السلام): (سَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللَّهِ؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ آيَةٍ إِلَّا وَقَدْ عَرَفْتُ بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أَمْ بِنَهَارٍ، فِي سَهْلٍ أَمْ فِي جَبَلٍ)(7).

فهذه، إذاً مشيرة إلى مجاميع الآيات النازلة في ليل والنازلة في نهار، والنازلة في مسير، والنازلة في مقام، والنازلة في سهل والنازلة في جبل.

وقد أضافت الرواية الآتية مجاميع أخرى: (مَا نَزَلَتْ عَلَيْهِ (صلى الله عليه وآله) آيَةٌ فِي لَيْلٍ وَلَا نَهَارٍ، وَلَا سَمَاءٍ وَلَا أَرْضٍ، وَلَا دُنْيَا وَلَا آخِرَةٍ، وَلَا جَنَّةٍ وَلَا نَارٍ، وَلَا سَهْلٍ وَلَا جَبَلٍ، وَلَا ضِيَاءٍ وَلَا ظُلْمَةٍ إِلَّا أَقْرَأَنِيهَا وَأَمْلَاهَا عَلَيَّ فَكَتَبْتُهَا بِيَدِي، وَعَلَّمَنِي تَأْوِيلَهَا وَتَفْسِيرَهَا وناسِخَها ومَنسوخَها وَمُحْكَمَهَا وَمُتَشَابِهَهَا وَخَاصَّهَا وَعَامَّهَا وأينَ نَزلَتْ، وفيمَ نَزلَتْ إلى يومِ القيامةِ)(8) فلقد أضافت هذه الرواية مجاميع: النزول في سماء أو أرض، دنياً أو آخرة، جنة أو نار، ضياء أو ظلمة.

ولكن كيف تؤثر هذه المجاميع وهذا التصنيف في دلالات الآيات تنزيلاً أو تأويلاً؟ ظهراً أو بطناً؟ إحكاماً أو تشابهاً؟ إطلاقاً أو تقييداً؟ ناسخية أو منسوخية؟.. إلخ، هذا ما سنخصص له الدرس القادم بإذن الله تعالى ويكفي في هذا البحث أن نشير إلى بعض النماذج بين مبسط ومعمق، ولكن قبل أن نستعرض النموذجين لا بد أن نشير إلى أن علم ذلك كله، قد حرمناه عندما منعوا الوصي (عليه السلام) من أن يأتيهم بالقرآن بأكمله مع شروحه وتوضيحاته وشأن نزوله وتفاصيله الأخرى الماضية (أين نزلت، فيما نزلت، كيف نزلت.. إلخ) وقد قالوا للإمام (عليه السلام) عندما أخرج لهم القرآن الكريم الذي جمعه (لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ) فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام): (فَإِذَا قَامَ الْقَائِمُ (عليه السلام) قَرَأَ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى حَدِّهِ وَأَخْرَجَ الْمُصْحَفَ الَّذِي كَتَبَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام) وَقَالَ أَخْرَجَهُ عَلِيٌّ (عليه السلام) إِلَى النَّاسِ حِينَ فَرَغَ مِنْهُ وَكَتَبَهُ فَقَالَ لَهُمْ هَذَا كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ (صلى الله عليه وآله) وَقَدْ جَمَعْتُهُ مِنَ اللَّوْحَيْنِ فَقَالُوا هُوَ ذَا عِنْدَنَا مُصْحَفٌ جَامِعٌ فِيهِ الْقُرْآنُ لَا حَاجَةَ لَنَا فِيهِ فَقَالَ أَمَا وَاللَّهِ مَا تَرَوْنَهُ بَعْدَ يَوْمِكُمْ هَذَا أَبَداً إِنَّمَا كَانَ عَلَيَّ أَنْ أُخْبِرَكُمْ حِينَ جَمَعْتُهُ لِتَقْرَءُوهُ)(9)

فانذرهم الإمام (عليه السلام) بانهم سوف لا يرونه أبداً لكنهم اصروا على عنادهم فـ(فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذي يُوعَدُونَ) (سورة المعارج: الآية 42) وبذلك فقدنا كنزاً معرفياً لا يقدر بثمن من علوم القرآن الكريم، ولكن ومع ذلك فاننا إذا بذلنا قصارى جهدنا مستندين إلى ما ترشح منهم (عليهم السلام) أو إلى بعض المستقلات العقلية أو القواعد المنطقية والأصولية، فلعلنا نحصل على بعض منها وإن كان قليلاً جداً بالقياس إلى عظيم ما ضاع وخسرناه.

تأثير مكان النزول في تحديد معنى الآية أو التشويش عليه

ومن النماذج الواضحة الدلالة على مدى تأثير مكان النزول في فهم معنى الآية الكريمة أو، في الاتجاه المعاكس، في التشويش على ما يفهم منها مع التلاعب فيه، فهو آية إكمال الدين وهي:

آية الإكمال نزلت في خمّ أم في عرفة؟

قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي‏ وَرَضيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ ديناً) (سورة المائدة: الآية 3) فان الروايات الكثيرة دلّت على نزولها في غدير خم، بعد منصرفه (صلى الله عليه وآله) من حجة الوداع يوم 18 ذي الحجة، ولكن العديد من العامة حاول إجهاض قرينة المكان والزمان بنقل ذلك كله إلى زمن آخر ومكان آخر بالقول ان الآية نزلت يوم عرفة في أرض عرفات، فهي على هذا أجنبية عن قضية نصب الإمام علي (عليه السلام) ولياً وإماماً وخليفة، بل إنها تدل فقط على أن الله تعالى أكمل الدين يوم عرفة في أرض عرفة مما يعني أن الدين كمل بتشييد معالم الحج ومشاعره لا بنصب الإمام وخلافته.

ولكن نقول: أولاً: الحج كان هو القاسم المشترك بين المسلمين والمشركين، وإن اختلفوا في بعض تفاصيله إلا أن عمدة مناسكه كالطواف والسعي وعرفة، مشتركة، فكيف يصح أن يجعل به إكمال الدين للمسلمين وإتمام النعمة عليهم ورضا الإسلام ديناً لهم؟

ثانياً: ان الآية السابقة تصرح بـ(الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ دينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي‏ وَرَضيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ ديناً) ويأس الكفار من ديننا لا يكون بأي وجه من الوجوه بتشريع الحج، وهو الجامع بيننا وبينهم كما سبق، فكيف يكون (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ...) السبب في يأس الكفار من دين المسلمين مع كونه حكماً مشرّعاً من قبل الأديان السابقة كما درج عليه المشركون ومضى عليه المسلمون من قبل؟ كما لا يكون يأسهم بمجرد إكمال شرائع الدين، كما لا يصح أن يكون المراد إكمال الدين بالغلبة على المشركين إذ لا سنخية بين ذلك وبين (وَرَضيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ ديناً) ولا سنخية حتى مع (أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ). فتدبر

بل الوجه الوحيد المعقول هو يأس الكفار من الدين بنصب أمير المؤمنين (عليه السلام) ولياً وخليفة على المسلمين وذلك لأن الكفار حاولوا إجهاض بالدين باستهداف رسول رب العالمين مراراً كثيرة جدا ومنها: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرينَ) (سورة الأنفال: الآية 30) ولكنهم فشلوا في ذلك كله ومن البديهي أن خطط الانقلاب على القائد الأعلى إذا فشلت فان الملجأ الوحيد لأعداء الدين سوف يكون استهداف الخليفة والنائب والقائد اللاحق ولذلك قال تعالى: (الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذينَ كَفَرُوا مِنْ دينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْن‏) (سورة المائدة: الآية 3) ولا يعقل يأسهم بمجرد تشريع الحج أو تطوير بعض شروطه مهما كانت.

وذلك كله مما يكشف لنا بوضوح عن تأثير مكان نزول الآية وزمان نزولها في تقريب معنى والاستدلال عليه أو في التشكيك في معنى أو حتى رفضه، جهلاً أو عناداً.

مجاميع أنواع الدلالات المنطقية

إضافة إلى ذلك، أي إلى تأثير إدخال الآيات الكريمة ضمن مجاميعها الزمكانية، فإن إدخال الآيات الشريفة ضمن مجاميع أنواع الدلالات المنطقية الشهيرة، كثيراً ما يفصح لنا عن بطنٍ أو وجهٍ أو دليل أو نقض أو ردٍّ كما قد يرفع تشابهاً أو إجمالاً وذلك كدلالة الاقتضاء، ودلالة الإشارة، ودلالة التنبيه والإيماء. وفي المثال السابق استعنّا في الجواب الثاني بدلالة التنبيه على تفنيد دعوى أن المراد من الآية إكمال الدين بتشريع الحج أو بما يلحقه.

وعلى ذلك فمن المهم أن نقوم بتعريف دقيق لدلالة التنبيه ثم نضرب لها بعض الأمثلة:

ودلالة التنبيه هي كما ذكرناه في كتاب المعاريض والتورية:

(النوع الخامس(10): دلالة التنبيه، وقد تسمى بدلالة الإيماء ـ هي من أقسام معاريض الكلام.

وقد عرف بعضهم دلالة التنبيه بـ"أن يفيد اقترانُ شيءٍ بشيء عِلّيته له".

أقول: هذا التعريف غير مطرد ولا منعكس، والأصح أن تعرف دلالة التنبيه بـ"أن يفيد اقتران شيء بشيء عِلّيته له، أو أصل حدوثه أو وجهَهُ أو مطلباً آخر جديداً، على أن تكون الدلالة مقصودة للمتكلم بحسب المتفاهم عرفاً من اللفظ"(11))(12).

من أمثلة دلالة التنبيه

وقد يمثل لها بقوله تعالى: (قال تعالى: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (سورة الأعراف، الآية 55) وقد قال بعضهم: "في قوله: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) عقب قوله: (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً)، دليل على أن من لم يَدْعُه تضرعًا وخُفْيَة، فهو من المُعتدين الذين لايُحبهم، فقسمت الآية الناس إلى قسمين: داعٍ لله تضرعًا وخُفية، ومُعْتَدٍ بترك ذلك"(13).)(14).

وبعبارة أخرى: المستظهر عرفاً انّ (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدينَ) (سورة الأعراف: الآية 55) كبرى وان (ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً) صغرى.

بعبارة ثالثة: الظاهر عرفاً انه تعليل والمعلل له صغرى لكبرى تنطبق عليها العلة.

وقد مثّل بعضهم لدلالة التنبيه بقوله (صلى الله عليه وآله) (3- قال (صلى الله عليه وآله): (فِي الْغَنَمِ السَّائِمَةِ زَكَاةٌ)((15.

في هذا الحديث دلالة تنبه على: أن السوم - وصف مفهم - هو علة وجوب الزكاة في الغنم - علة دلالة.

وتومئ إلى: أنه يجب على الدولة توفير المراعي بشكل كافٍ لتخفيف العبء المالي على الناس في تربية ماشيتهم دون علفها، وبالتالي تشجيعهم على أداء الزكاة وزيادة واردات الزكاة في بيت المال، لأن الغنم السائمة تزكى والمعلوفة لا تزكى، فتوفير المراعي يشجع على تربية الماشية على الرعي وبالتالي الزكاة).

وفيه: ان الحكم لا يتكفل بموضوعه، وان إيجاد الموضوع يحتاج إلى دليل آخر، إلا إذا كان الوجوب مطلقاً غير مشروط، وهو غير تام وإلا لوجب إيجاد الغنم أيضاً، لا إيجاد السوم ولا إيجاد الأرضية لتحققه!

وتوضيحه: ان الزكاة واجبة على من امتلك النصاب من الأنعام الثلاثة الإبل والبقر والغنم، ولكن بشروط منها: أن لا يكنّ عوامل ومنها: أن لا يكنّ معلوفات بل سوائم، فإن كنّ عوامل ولو بعض السنة سقطت عنها الزكاة وكذا لو كنّ معلوفات سقطت عنها الزكاة، والحكمة في ذلك ان العاملة يحتاجها مالكها والمعلوفة تكلَّف مالكها فخفف الله تعالى عنهما بعدم إيجابه الزكاة عليهما أما السائمة فرزقها مجاني وحيث لم يكنّ عوامل دلّ ذلك على غنى صاحبها فوجبت عليه الزكاة.

(لَكُمْ دِينُكُمْ) على ضوء دلالة التنبيه

ومن نماذج دلالة التنبيه بحث مبتكر وهام في سورة الكافرون وهي: (بسم الله الرحمن الرحيم

قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (سورة الكافرون: الآيات 1-6) ولنمهد للبحث باستعراض الروايات الواردة في شأن النزول:

شأن نزول سورة الكافرون

ففي تفسير البرهان: (علي بن إبراهيم، قال: حدثني أبي، عن محمد بن أبي عُمير، قال: سأل أبو شاكر أبا جعفر الأحول، عن قول الله عز وجل: (قُلْ يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ * لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ * وَلاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ * وَلاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ * وَلاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ)، فهل يتكلم الحكيم بمثل هذا القول ويُكرّره مرّة بعد مرّة؟ فلم يكن عند أبي جعفر الأحول في ذلك جواب، فدخل المدينة، فسال أبا عبد الله (عليه السلام) عن ذلك، فقال: (كَانَ سَبَبُ نُزُولِهَا وَتَكْرَارِهَا أَنَّ قُرَيْشاً قَالَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً، وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، وَتَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً، وَنَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً، فَأَجَابَهُمُ اللَّهُ بِمِثْلِ مَا قَالُوا، فَقَالَ فِيمَا قَالُوا: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً: (قُلْ يٰا أَيُّهَا الْكٰافِرُونَ* لاٰ أَعْبُدُ مٰا تَعْبُدُونَ)، وَفِيمَا قَالُوا: نَعْبُدُ إِلَهَكَ سَنَةً: (وَلاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ) وَفِيمَا قَالُوا: تَعْبُدُ آلِهَتَنَا سَنَةً: (وَلاٰ أَنٰا عٰابِدٌ مٰا عَبَدْتُّمْ) وَفِيمَا قَالُوا: نَعْبُد إِلَهَكَ سَنَةً: (وَلاٰ أَنْتُمْ عٰابِدُونَ مٰا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ). قَالَ: فَرَجَعَ أَبُو جَعْفَرٍ الْأَحْوَلُ إِلَى أَبِي شَاكِرٍ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، فَقَالَ أَبُو شَاكِرٍ: هَذَا حَمَلَتْهُ الْإِبِلُ مِنَ الْحِجَازِ، وَكَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) إِذَا فَرَغَ مِنْ قِرَاءَتِهَا يَقُولُ: (دِينِيَ الْإِسْلاَمُ) ثَلاَثاً)(16).

وفي تفسير الصافي: (في الأمالي: إنّ نفراً من قريش اعترضوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله) منهم عتبة بن ربيعة، وأمية بن خلف، والوليد بن المغيرة، والعاص بن سعد، فقالوا: يا محمد هلمّ فلنعبد ما تعبد وتعبد ما نعبد، فنشرك نحن وأنت في الأمر، فإن يكن الذي نحن عليه الحق فقد أخذت بحظك منه، وإن يكن الذي أنت عليه الحق فقد أخذنا بحظنا منه، فأنزل الله تبارك وتعالى السورة(17).

قيل في سبب التكرير: أن الأول فيما يستقبل، فإن (لا) لا تدخل إلا على مضارع بمعنى الاستقبال، والثاني في الحال أو فيما سلف)(18).

الوجه في التكرار في آيات السورة؟

وقد اختار الشيخ الطوسي أن المراد الماضي قال: (فليس في الحقيقة تكريراً أصلاً، ولا تكرير في اللفظ إلا في موضع واحد سنبينه بعد بيان المعنى إن شاء الله، وذلك إن قوماً من المشركين سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله) مناقلة العبادة سنة يعبدون فيها ما يعبده (صلى الله عليه وآله) وسنة يعبد هو ما يعبدون لزوال العادة بوقوع العبادة على هذه الجهلة، فجاء الكلام على طريق الجواب لإنكار ما سألوا، فقيل (لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) وهذا نفي منه لما يعبدون في الاستقبال ثم قال (وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ) على نفي العبادة لما عبدوا في الماضي، وهذا واضح في أنه لا تكرير في لفظه ولا معناه. وقوله (وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ) فعلى التكرير في اللفظ دون المعنى من قبل أن التقابل يوجب أن معناه ولا أنتم عابدون ما عبدت إلا انه عدل بلفظه إلى أعبد للإشعار أن ما عبدت هو ما أعبد، واستغني بما يوجبه التقابل من معنى عبدت عن الافصاح به،. وعدل عن لفظه لتضمين معنى آخر فيه، وكان ذلك أكثر في الفائدة وأولى بالحكمة، لأنه دل على (عبدت) دلالة التصريح باللفظ.

فان قيل فهلا قال: ما عبدت ليتقابل اللفظ، كما تقابل المعنى؟ قيل: هو في حكم التقابل في اللفظ من حيث هو دال عليه إلا انه عدل عن الافصاح به للإشعار بأن معبوده واحد كيف تصرفت الحال، وكان هذا أبعد في الايهام أن معبوده فيما مضى غير معبوده فيما يستقبل. وقد يجوز في الماضي والمستقبل ان يقع أحدهما موقع الاخر إذا كان في الكلام ما يدل عليه، كما قال (وَنادى‏ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ) (سورة الأعراف: الآية 44) على معنى ينادون، ومنه قولهم: يدعوهم ابن رسول الله فلا يجيبونه، ويدعوهم ابن زياد إلى الباطل فيسرعون اليه.

فان قيل: فهلا دل على اختلاف المعنى باختلاف اللفظ إذ هو الاصل في حسن البيان؟ قيل: إن التقابل في ذلك قد صيّر اللفظ في حكم المختلف، لأنه مقيد به، ودلالة المقيد خلاف دلالة المطلق نحو: زيد قائم بالتدبير على خلاف معنى زيد قائم)(19).

أقول: الأظهر والأسلس أن يراد المستقبل من الآية 2-3 والحال من الآية 4-5 واعتبار الحال مرآة للاستقبال فكأنه برهن على حال المستقبل من الوضع في الحال، وهو أولى من تفسير الآيتين 4-5 بالماضي لما فيه تكلف ومؤونة زائدة، عكس تفسيره بالحال فانه عرفي تماماً والمعنى سليم من غير أن نضطر إلى تجوّز أو تقدير. فتدبر.

إذا عرفت ذلك فلنتوقف عند فقه الآية الشريفة مستعينين في ذلك بدلالة التنبيه والإيماء وغيرها، فنقول:

المحتملات الست في (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)

ان المحتملات في قوله تعالى: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ستة بل وأكثر:

1- أن تكون الآية مشيرة إلى كون حكمهم الواقعي الأولي كذلك.

2- أن تكون مشيرة إلى كون حكمهم الواقعي الثانوي كذلك.

3- أن تكون مشيرة إلى كون حكمهم الظاهري، ذلك.

1- الحكم حكم واقعي

أما الاحتمال الأول فتنفيه دلالة التنبيه بالصراحة، إذ يكون، بحسب الاحتمال الأول، كلٌّ من ديننا ودينهم حقاً، أي تكون الصراطات المتعددة كلها مستقيمة، وهو محال ثبوتاً، مخالف لقوله تعالى: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) (سورة الفاتحة: الآية 6-7) (وَأَنَّ هذا صِراطي‏ مُسْتَقيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبيلِهِ) (سورة الأنعام: الآية 153) كما هو مخالف لسورة الكافرون كلها حيث ان دينهم لو كان على الحق ودينه (صلى الله عليه وآله) على الحق لوجب أن يستجيب إلى اقتراحهم بعبادة آلهتهم سنة وعبارة إلهه سنة ولَمَا كان معنى للانكار والرفض، بناء على هذا المعنى المحال، إلا العناد لو كانت الصراطات كلها مستقيمة وكان الرفض خلاف الإنصاف.

2- الحكم حكم واقعي ثانوي

وأما الاحتمال الثاني فمفاده هو مفاد قاعدتي الإمضاء والإلزام، وقد كنا رجّحنا في بحث قديم في كتاب (بحوث في العقيدة والسلوك) ذلك، لكن الأمر بحاجة إلى تأمل.

قاعدة الإلزام في (لَكُمْ دِينُكُمْ)

ومما جاء في ذلك الكتاب: (قاعدة (الإلزام) تستنبط من (لَكُمْ دِينُكُمْ) لأنها ترسم الإطار العريض العام للعلاقة بين الأديان وبين الحضارات فإن (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) ربما يستظهر كونها مشيرة إلى القاعدة المعروفة في الفقه المسماة بـ(قاعدة الإلزام)، التي يستند الفقهاء فيها عادة إلى حديث: (ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم..)((20)(21).

(والخلاصة: إن الآية الشريفة: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) تحدد لنا المعادلة التي ينبغي أن تتحكم في العلاقة بين الإسلام والأديان الأخرى، ونفهم منها أن العلاقة ليست علاقة الاندماج، أو الذوبان، ولا علاقة تنازل، أو تسامح ومهادنة وتهاون، ولا هي من جهة ثانية إذا بقينا في إطار هذه الآيات الشريفة علاقة صراع عشوائي كلا.. وإنما المعادلة: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)..

ونؤكد مرة أخرى: إن الآيات القرآنية الشريفة ترسم (حدوداً) بين هذه الحضارات، فلا صراع، ولا اندماج، ولا ذوبان، ولا ينبغي أن يكون هنالك تنازل ولو حتى قدر قُلامة ظفر، بل يجب (الجهر) أيضاً بتلك الحدود كما أعلن سبحانه وتعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ)..

فيجب أن تُعلن ذلك، ليعرف الطرف الآخر أنك ميئوس منك أن تتراجع، أو تستسلم، أو تتنازل عن أي مبدأ، أو أي تشريع، أو قضية أصلية كانت أم فرعية، عامة أم خاصة (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ))(22).

وقاعدة الإمضاء

(وهنالك قاعدتان تسمى الأولى، بـ"قاعدة الإمضاء" والثانية بـ"قاعدة الإلزام"، وكلتاهما يمكن أن تستفاد من قوله سبحانه وتعالى؛ (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) حيث أن الحديث كان حول العلاقة التي ينبغي أن تتحكم وتحكم الأديان، والمذاهب، والحضارات، وما هو الإطار العريض الذي يهندس العلاقة بين هذه الأديان، والحضارات والملل المختلفة؟ هل هي علاقة الاندماج والذوبان، أو الصراع، أو علاقة الحوار والتعايش أو غير ذلك من العلائق والأطر والروابط؟

إن مما يوضح ويلقي الضوء على جانب من العلاقة التي ينبغي أن تتحكم في / تحكم الأديان، والحضارات والمذاهب، هما قاعدتا الإمضاء والإلزام..

ذلك أن قاعدة (الإمضاء) وقاعدة (الإلزام) كلتهيما تجريان بالنسبة إلى (الكفار) في علاقة المسلمين بهم، كما تجريان حسبما نرى بالنسبة إلى إطار علاقة العامة بأتباع أهل البيت (عليهم الصلاة وأزكى السلام).

وهما قاعدتان تنظِّمان الروابط، والوشائج، والعلائق بين الطرفين، وتوضيح ذلك يتم ببيان الفارق بين القاعدتين وموردهما؛ فإن قاعدة الإمضاء تختلف عن قاعدة الإلزام؛ بأن قاعدة الإمضاء نتيجتها لصالح الدِّين الآخر، أو لصالح المذهب الآخر.

وأما مقتضى قاعدة الإلزام والناتج عنها على ضوء تشريعهم فهو لصالحنا، ففي كلتا الحالتين تشريعهم ممضى، من قبل الشارع المقدس من الناحية القانونية، والظاهرية، والشكلية، لكن قد يكون إمضاء قانونهم لصالحهم، وقد يكون عليهم، كما أن كل تشريع قد يكون ضاغطاً على الإنسان، وقد يكون مما يفسح له آفاقاً ويفتح له مجالات جديدة)(23).

3- الحكم حكم ظاهري

وأما الاحتمال الثالث: فهو ان (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) في مقام تحديد الحكم الظاهري.

والفرق بين الحكم الواقعي الثانوي وبين الظاهري: أنّ الواقعي الثانوي حقيقي، فمثلاً المجوسي يرى صحة زواجه من أمه، فلو تزوجها، فماتت، فانه يرث منها إرثين: إرثاً لأنه أبنها وإرثاً لأنه زوجها، فمع أن الزواج بالأم باطل بل ان يعدّ من أشد المنكرات وأقبحها واسوأها لدينا، لكنه لأنه يعتقد بصحته في دينه لذا يكون حكماً واقعياً ثانوياً في حقه أي تكون زوجةً له حقيقةً كما تكون أمّا لأولاده، كما يرث منها ويكون الإرث ملكه حقيقة.

وفي مثال آخر: لو طلّق العامي زوجته دون إشهاد ودون استجماع سائر الشروط المعتبرة عندنا، كأن لا يكون في طهر المواقعة، فانه رغم بطلانه لدينا لكن يحكم بصحته واقعاً فتَبِين منه زوجته ويجوز حينئذٍ الزواج بها بعد العدة.

أما الحكم الظاهري، كأصالة الطهارة والإباحة، فانه لا يغيّر من الواقع شيئاً لذا فانّ من لا يعلم بنجاسة بدنه يُجرِي أصالة الطهارة، أما غيره العالم بنجاسته فانه لو لمسه بيد مرطوبة تنجس، وكذا لو أجرى أصالة البراءة عن الدَّين الذي نسيه رغم كونه في ذمته فمات وكان ابنه يعلم بان والده مديون فانه يجب عليه سداد دينه وهكذا.

والحاصل: هل (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) تفيد الحكم الواقعي الثانوي أو الظاهري والذي يعني المعذورية لدى الجهل القصوري؟.

4- المراد التكنية عن نفي الإكراه

الاحتمال الرابع: خلافاً للاحتمالات الثلاثة الأولى: ان المراد بالآية ليس إثبات الحكم واقعياً ولا ظاهرياً، بل المصبّ هو أمر آخر وهو ان المراد بها الكناية عن انه (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) (سورة البقرة: الآية 256) فمفادها نفس مفاد هذه الآية فالمعنى، على هذا (لَكُمْ دِينُكُمْ) فلا نكرهكم على تركه و(وَلِيَ دِينِ) فليس لكم أن تكرهونا على تركه.

5- انها إخبار

الاحتمال الخامس: انها إخبار وليست إنشاء خلافاً للاحتمالات الأربع الأول، ولهذا تفصيل سيأتي.

6- انّ فيها حذفاً

الاحتمال السادس: ما نقله الشيخ الطوسي (قدس سره) من تقدير محذوف أي (لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني). قال: (فان قيل: ما معنى (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ)؟ قيل: معناه لكم جزاء دينكم ولي جزاء ديني، وحسبك بجزاء دينهم وبالا وعقابا كما حسبك بجزاء دينه نعيما وثواباً)(24).

وسيأتي الكلام عن تقييم الاحتمالات الست السابقة، على ضوء دلالة التنبيه والإيماء وغيرها كما سيأتي الكلام عن احتمالات أخرى في الآية الكريمة..

وبذلك كله يتضح مدخل من مداخل البطون.. وان بعض البطون يمكن أن نستكشفها عبر (دلالة التنبيه) كما يمكن استكشاف بعضها عبر (دلالة الإشارة) وبعضها الآخر عبر (دلالة الاقتضاء) كما يمكن رفض الكثير من أنواع التفسير بالباطن عبر تلك الدلالات الثلاث وغيرها.. فللبحث تتمة بل تتمات مهمة فانتظر.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

.................................
(1) سيأتي الحديث عن هذه الدعامة في الدرس القادم بإذن الله تعالى.
(2) الدرس (362).
(3) التأكيد على تكرار مثلاً لبيان أن هذا الحد تقريبي فقط، وأنه يمكن أن يزيد عليه أو ينقص إلى حد ما، بحسب مرتكز العقلاء.
(4) ذكرنا في بعض البحوث وجوهاً تسعة لمحتملات تفسير بعض صحاح زرارة في الاستصحاب، وعليها تختلف النتيجة من ورود وحكومة وغيرها.
(5) أبو منصور أحمد بن علي الطبرسي، الاحتجاج، نشر المرتضى ـ مشهد، ج1 ص261. والأمالي للطوسي، ص523.
(6) الشيخ الصدوق، الأمالي، المكتبة الإسلامية ـ قم، ص276. وبحار الأنوار للمجلسي، ج35 ص395.
(7) ابن سعد، الطبقات الكبرى، دار صادر ـ بيروت، ج2 ص٣٣٨، التاريخ الكبير: ٨ / ١٦٥ / ٢٥٧٠ أنساب الأشراف، للبلاذري، : ٢ / ٣٥١ ،الصواعق المحرقة: ١٢٨، تاريخ دمشق لابن عساكر، طبعة دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ج٤٢ / ص٣٩٨، المناقب للخوارزمى: ٩٤ / ٩٢ ،علل الشرائع: ٤٠ / ١ والأمالى للصدوق: ٣٥٠ / ٤٢٣ والاُصول الستّة عشر: ٦٤.
(8) الحسن بن شعبة الحراني، تحف العقول، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم، ص193.
(9) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران، ج2 ص633.
(10) من أنواع المعاريض، وقد تقدمت أربعة أنواع، فلاحظ.
(11) ولا يخفى أن مسلكنا العام ـ كما بينّاه مكرراً ـ أن الأعم الأغلب من العلل المذكورة في لسان الشارع هي حِكَم، وعبَّرنا ههنا بالعلية جرياً على تعريف القوم، والأصح: أن يفيد الاقترانُ وجه الحكمة أو محتمل العلية... الخ.
(12) السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، المعاريض والتورية، دليل ما ـ تهران، ص104-105.
(13) ابن القيم، بدائع الفوائد: ٣/ ١٤.
(14) د. خالد بن عثمان السبت، كتاب القواعد والأصول وتطبيقات التدبر ، الناشر دار الحضارة للنشر والتوزيع، ص45.
(15) ابن أبي جمهور الأحسائي، عوالي اللآلئ، دار سيد الشهداء (عليه السلام) ـ قم، ج1 ص399.
(16) السيد هاشم البحراني، البرهان في تفسير القرآن، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت، ج8 ص409.
(17) الأمالي للشيخ الطوسي: ص 19 - 20، ح 22 / 22، المجلس الأول.
(18) الفيض الكاشاني، تفسير الصافي، منشورات مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ـ بيروت، ج3 ص586.
(19) الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، الأمير للطباعة والنشر والتوزيع ـ بيروت، ج10 ص353.
(20) الوسائل للحر العاملي: ج17 ص598.
(21) السيد مرتضى الحسيني الشيرازي، بحوث في العقيدة والسلوك، دار العلوم للطباعة والنشر ـ بيروت، ص289-290.
(22) المصدر: ص301-302.
(23) المصدر: ص304-305.
(24) الشيخ الطوسي، التبيان في تفسير القرآن، إحياء التراث العربي ـ بيروت، ج10 ص422.

اضف تعليق