إسلاميات - القرآن الكريم

التفسير الاجتماعي النهضوي للقرآن.. هل المؤمنون إخوة حقاً؟

(هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) (23)

هذا النوع من التفسير أعم فائدة لأنه يشمل جميع الناس، بآثاره وبركاته لأن القضايا الاجتماعية، التربوية والنهضوية تعمّ بآثارها الإيجابية إن كانت على ما ينبغي أو السلبية إن كانت على العكس كافة شرائح الأمة، فان الأمة إذا تمسكت بكل تلك المبادئ ونهضت في كل تلك الحقول سَعَد الجميع...

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة على سيدنا محمد وأهل بيته الطاهرين، سيما خليفة الله في الأرضين، واللعنة على أعدائهم أجمعين، ولا حول ولاقوه إلا بالله العلي العظيم.

قال الله العظيم في كتابه الكريم: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذينَ في‏ قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْويلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْويلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ) (سورة آل عمران: الآية 7).

وقال جل اسمه: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (سورة الحجرات: الآية 10).

الكلام يدور بإذن الله تعالى ضمن فصول ثلاثة:

ما هو الأصل من المناهج والاتجاهات التفسيرية؟

الفصل الأول: البحث عن الأصل في المناهج والاتجاهات؛ فقد سبق أن المناهج التفسيرية تتنوع إلى الأنواع التالية: المنهج العقلي والمنهج الاجتهادي، المنهج النقلي أو الروائي أو منهج التفسير بالمأثور، منهج تفسير القرآن بالقرآن، المنهج العرفاني أو الصوفي أو الذوقي أو الباطني وغير ذلك.

كما سبق ان الاتجاهات التفسيرية تتوزع بين الاتجاه الكلامي، الاتجاه الفقهي، الاتجاه الأدبي البلاغي أو النحوي الصرفي، والاتجاه الاجتماعي – النهضوي...

ولكنْ ما هو الأصل من هذه المناهج ومن تلك الاتجاهات؟

الجواب: يختلف الأصل في المناهج التفسيرية عن الأصل في الاتجاهات التفسيرية:

الأصل في المناهج التفسيرية

أما الأصل في المناهج التفسيرية، فالمستظهر هو ان التفسير بمحكمات القرآن الكريم مع التفسير بمعتبرات الروايات الشريفة.

أما أولاً، فلقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) (سورة النحل: الآية 44) و(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا في‏ أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليماً) (سورة النساء: الآية 65) فهما إذاً مجموعاً المرجع والمعتمد في التفسير وغيره.

وأما ثانياً، فلأن المجموع منها يشكّل (الثقلين) اللّذين ورد عنه (صلى الله عليه وآله) في المتواتر لدى الفريقين: (إِنِّي تَارِك فِيكمْ أَمْرَينِ إِنْ أَخَذْتُمْ بِهِمَا لَنْ تَضِلُّوا - كتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَهْلَ بَيتِي عِتْرَتِي أَيهَا النَّاسُ اسْمَعُوا وَقَدْ بَلَّغْتُ إِنَّكمْ سَتَرِدُونَ عَلَيّ الْحَوْضَ فَأَسْأَلُكمْ عَمَّا فَعَلْتُمْ فِي الثَّقَلَينِ، وَالثَّقَلَانِ كتَابُ اللَّهِ جَلَّ ذِكرُهُ وَأَهْلُ بَيتِي‏... )(1) وقد قال تعالى من قبل: (هُوَ الَّذي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) وقد سبق بيان المحتملات في (أُمُّ الْكِتابِ) وان منها انه المرجع في الكتاب: في تفسيره وغيره فان )الأُمّ) يراد به الأصل من كل شيء والمرجع والمعتمد. قال في مجمع البحرين: (أمم. قوله تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِ الْكِتابِ) [٤٣ / ٤] الآية. يعني في أصل الكتاب، يريد اللوح المحفوظ. وأُمُ الكتاب أيضاً: فاتحة الكتاب، وسميت أُمّاً لأنها أوله وأصله ولأن السورة تضاف إليها ولا تضاف هي إلى شيء، وقيل سميت أُمّاً لأنها جامعة لأصل مقاصده ومحتوية على رؤوس مطالبه، والعرب يسمون ما يجمع أشياء متعددة: أُمّاً، كما يسمون الجلدة الجامعة للدماغ وحواسه أُمَ الرأس، ولأنها كالفذلكة لما فصل في القرآن المجيد، لاشتمالها على المعاني في القرآن من الثناء على الله بما هو أهله، ومن التعبد بالأمر والنهي والوعد والوعيد فكأنه نشأ وتولد منها بالتفصيل بعد الإجمال، كما سميت مكة أُمَ القرى لأن الأرض دحيت منها)(2).

وقال الراغب (أمّ. الأُمُّ بإزاء الأب، وهي الوالدة القريبة التي ولدته، والبعيدة التي ولدت من ولدته. ولهذا قيل لحوّاء: هي أمنا، وإن كان بيننا وبينها وسائط. ويقال لكل ما كان أصلاً لوجود شيء أو تربيته أو إصلاحه أو مبدئه أمّ، قال الخليل: كلّ شيء ضمّ إليه سائر ما يليه يسمّى أمّا(3)، قال تعالى: (وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ) [الزخرف/ 4] أي: اللوح المحفوظ وذلك لكون العلوم كلها منسوبة إليه ومتولّدة منه.

وقيل لمكة أم القرى، وذلك لما روي: (أنّ الدنيا دحيت من تحتها) ، وقال تعالى: (لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها) [الأنعام/ 92]، وأمّ النجوم: المجرّة. قال: 23- بحيث اهتدت أمّ النجوم الشوابك(4) وقيل: أم الأضياف وأم المساكين(5)، كقولهم: أبو الأضياف(6)، ويقال للرئيس: أمّ الجيش كقول الشاعر:

24- وأمّ عيال قد شهدت نفوسهم(7)

وقيل لفاتحة الكتاب: أمّ الكتاب لكونها مبدأ الكتاب، وقوله تعالى: فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ

[القارعة/ 9] أي: مثواه النار فجعلها أمّا له، قال: وهو نحو مَأْواكُمُ النَّارُ [الحديد/ 15)(8).

وأما التفسير العقلي، فقد سبق انه إن أريد منه التفسير بالمستقلات العقلية وما كان في دائرة قاعدة الملازمة، فإنه وإن صحّ لكن دائرته محدودة جداً ضيّقة حقاً، وأما إن أريد به التفسير الاجتهادي فانه لا يكون حجة إلا إذا اعتمد على مجموعة من الضوابط ومنها أن يعتمد على الكتاب والسنة المعتبرة، دون القياس والاستحسان والذوق والمسبقات الفكرية والنفسية وإلا كان من التفسير بالرأي، إضافة إلى شروط أخرى تطرق لها الأصولي – الفقيه الفحل صاحب القوانين في كتابه المعمق (القوانين المحكمة) كما تطرق إليها الفقيه المتبحر السيد مهدي القزويني في كتابه القيّم (الاستعداد لتحصيل ملكة الاجتهاد).

وأما التفسير العلمي فانه محدود النطاق جداً، كما سبق بيانه، والمتوسِّع فيه متورط، كثيراً ما، في أنواع من التفسير بالرأي فراجع ما سبق.

وأما التفسير العرفاني، الباطني... إلخ فلا حجية له له أبداً، والضابط العام أن يعرض كل شيء على الكتاب والسنة (فَمَا وَافَقَ كِتَابَ اللَّهِ فَخُذُوهُ وَمَا خَالَفَهُ فَاطْرَحُوهُ)(9) (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ) (سورة الحشر: الآية 7).

وعلى ضوء ما سبق فان سيرة كاتب هذه الأسطر جرت عند محاولة تناول آيات القرآن الكريم بالتدبر والتفسير، على مراجعة تفسير الصافي مع تبيين القرآن ثم تفسيري البرهان والتبيان، ثم سائر التفاسير إن رغبت في التوسع في البحث أو دعت إلى ذلك ضرورة، والسبب في ذلك هو انّ الصافي جرى في تفسيره على منهج الثقلين، حيث لم يتخطّ، عادة، التفسير بالروايات والمحكمات، إلى جوار انه لا هو بالطويل المملّ ولا بالموجز المخلّ، نعم يستثنى من ذلك القليل جداً من الاجتهاد العرفاني الذي أقحمه في تفسير بعض الآيات أو تأويلها والذي لا حجية له، وقد أشرنا إلى بعضها في بعض البحوث السابقة.

الأصل في الاتجاهات التفسيرية: التربوي - النهضوي

وأما الأصل في الاتجاهات التفسيرية، فهو التفسير الاجتهادي – التربوي – النهضوي، وذلك إذا فسّرنا الأصل بمعنى الأكثر نفعاً والأعم فائدة:

أ- فان هذا النوع من التفسير أعم فائدة لأنه يشمل جميع الناس، بآثاره وبركاته: العالم منهم والجاهل، الرجل والمرأة، البدوي والحضري والقروي، الكبير والصغير؛ وذلك لأن القضايا الاجتماعية، التربوية والنهضوية تعمّ بآثارها الإيجابية إن كانت على ما ينبغي أو السلبية إن كانت على العكس كافة شرائح الأمة، وعلى سبيل المثال فان الإخوة الإيمانية، وهي محور الفصل الثالث الآتي، والشورى، والأمة الواحدة، والحريات الإسلامية، والعدل والإحسان والتعددية الإيجابية، وكذلك السلم والسلام والنظم والنظام والتوازن والتعاون والتواصل والتكامل والحكمة في التعامل ونظائرها، تعمّ الجميع، فان الأمة إذا تمسكت بكل تلك المبادئ ونهضت في كل تلك الحقول سَعَد الجميع وتمتعوا بالسلم والأمن والإيمان، بل بلغوا الدرجات العليا من الكمال والرقي ونالوا أقصى درجات الرفاه والازدهار، والعكس بالعكس(10).

ب- كما ان هذا النوع من التفسير أكثر نفعاً لشموله كافة مناحي الحياة، كما ظهر مما مضى إذ يشمل الحياة السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية، العائلية، الشخصية وغيرها أيضاً، وذلك على العكس من التفسير الكلامي مثلاً فانه خاص بشريحة خاصة من المتخصصين في علم الكلام كما ويترشح إلى من يحمل اهتمامات كلامية، إضافة إلى كونه محدوداً بهذا الحقل، وكذلك التفسير الفقهي أو البلاغي أو غيرهما من أنواع الاتجاهات التفسيرية فإنها خاصة بشريحة خاصة وإن تموّجت على سائر الشرائح ولكن أين أمثال هذا من البحث عن الآيات الحيوية في القرآن الكريم حيث يقول تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اسْتَجيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْييكُمْ) (سورة الأنفال: الآية 24).

الأشهر الاجتماعية – الشعائرية: ذو القعدة - صفر

الفصل الثاني: ان هذه الأشهر التي نطوي مراحل الزمن عبرها الآن، وهي أشهر ذو القعدة – ذو الحجة – محرم وصفر، يمكن أن نسميها بالأشهر الاجتماعية – الشعائرية والنهضوية؛ وذلك لأنها تحتضن أعظم المواسم وأجلى المظاهر وأقوى الشعائر وأهم المشاعر، فهي أشهر حج بيت الله الحرام، وهي موسم اجتماعي – شعائري مميّز على مرّ التاريخ، كما تحتضن هذه الأشهر عيد الغدير الأغرّ، بما يحمل من زخم إسلامي – إنساني - ديني – تربوي – شعائري مِفصلي، كما هي أشهر زيارة سبط الرسول (صلى الله عليه وآله) والشعائر الحسينية المتنوعة المميزة والتي شملت فيما شملت زيارة الأربعين التي أذهلت العالم كله بما تألقت به معها جموع الزائرين والزائرات من إخلاص ومحبة وكرم وشهامة، فهي، إذاً، محطات اجتماعية يندر أن نجد لها في العالم مثيلاً، كما انها منصات شعائرية، لا نجد لها، كمجموع، نظيراً أبداً.

والذي نراه أكثر من ضرورة هو تشبيك هذه المحطات الاجتماعية – الشعائرية، بالقرآن الكريم، كي لا يتحدد بحدود شهر رمضان الكريم فقط، بل ليتحول إلى ينبوع فكر وعطاء وتثقيف وتربية وتزكية ونهضة في هذه الأشهر المميزة أيضاً، ثم على امتداد السنة كذلك.

وقد نقل عن بعض كبار العلماء انه في طريق المشاية من النجف إلى كربلاء، من صبح الخميس حتى ليلة الجمعة، كان يقضي جزءاً من الوقت وهو في حالة المشي بحفظ الفية ابن مالك، كي يستثمر وقته طوال الطريق بشكل أفضل.

وذلك أمر حسن من دون ريب، ولكنّ الأحسن منه أن يشغل الإنسان وقته في الطريق بحفظ القرآن الكريم ثم نهج البلاغة والصحيفة السجادية ومنتخبات من أدعية مفاتيح الجنان كدعاء كميل، الصباح، الندبة، عالية المضامين وغير ذلك.

إضافة إلى ذلك فان من الضروري استثمار هذه الأشهر الاجتماعية – الشعائرية في بناء المجتمع الإيماني وتقوية أواصر المحبة بين الزوار وعامة المؤمنين، باعتبار ان المنطلق هو (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) وذلك عبر تفعيل مختلف تجليات الاخوة بين شتى المؤمنين، وذلك هو ما سيكون بإذن الله تعالى محور الفصل الثالث الآتي:

منهج التفسير واتجاهه في (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)

الفصل الثالث: ان النظام الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي والحقوقي في الإسلام وحسب محكمات الآيات القرآنية يبتني على تلك الآية القرآنية الكريمة التي افتتحنا بها مطلع البحث وهي قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) إلى جوار سائر الآيات الحيوية في القرآن الكريم.

ومن هنا ننطلق إلى بحث تطبيقي لاتجاهات التفسير ومناهجه، على ضوء هذه الآية الكريمة وذلك ضمن البصائر التالية:

الإيمان عِلّة لتحقق علاقة الأخوّة

البصيرة الأولى: ان تعليق الحكم على الوصف مُشعِرٌ بالعلّية، فإذا قال مثلاً (أهِن الظالم) دلّ على ان علّة الأمر بإهانته هو كونه ظالماً، أو قال: (أكرم العالم العادل) دلّ على أن علّة الأمر بإكرامه كونه عالماً عادلاً، والحكم في الآية الشريفة وهو (إِخْوَةٌ) عُلِّق على (الْمُؤْمِنُونَ) فيدل على أن إيمانهم هو علّة اخوّتهم أي ان كونهم مؤمنين هو سبب كونهم إخوة، فإذا كان ذلك كذلك اقتضى أن يدفعنا إيماننا لكي نستشعر حقيقة الإخوة بيننا وبين كافة المؤمنين، من مختلف الطبقات والفئات والتيارات والعشائر والبلاد والمستويات، سواء الفقراء منهم والأغنياء وسواء من شاركنا في التيار والمرجعية أو الحزب أو العشيرة أم لا، ووجب أن يبني العراقي والكويتي والمصري والتركي والإيراني حياته بمختلف مستوياتها على الإخوة بشتى تجلياتها مع الباكستاني والهندي والأفغاني والصيني واليمني و... وبالعكس..

ولكن هل نحن كذلك؟، أم ان الحدود الجغرافية والحواجز القومية والعرقية واللونية واللغوية والخطّية وشبهها فرّقتنا إلى أشلاء وأجزاء حتى أصبحنا ننظر إلى الآخرين نظر شزراء وربما، حتى، بازدراء من دون أن تتملكنا أية عاطفة اخوية أو مشاعر إيمانية؟.

والعجيب في هذه القاعدة (تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية) انها تمنحنا القاعدة المعاكسة لها، عبر استنطاق البرهان الأنّي، فإن تعليق الحكم (إِخْوَةٌ) على الوصف (الْمُؤْمِنُونَ) إن أفاد عِلّية الإيمان لتوفّر الاخوة؛ دلّ عدم توفر الاخوة، أي الإيمان بها واستشعارها وترتيب الآثار عليها، في أي شخص من الأشخاص على عدم كونه مؤمناً! وذلك مما يدق ناقوس الخطر لكل مؤمن ليذكّره بأن يهندس أفكاره ومشاعره وعواطفه تجاه كل مؤمن في أية بقعة كان من بقاع الأرض، أو يعيد هندستها، لكي يلمس في أعماق جوانحه وفي طيات قلبه وثنايا فؤاده رابطة الاخوة الإيمانية ولكي يشهدها وهي تشده برباط وثيق مع عشرات الملايين من الناس المؤمنين: القريب والغريب، القوي والضعيف، الميسور والمسكين والفقير، سواء أكانوا من هل محلته أم لا؟ من أهل بلدته أم لا؟ من أهل عشيرته، قبيلته، حزبه، تياره، مرجعيته، طبقته أم لا؟

الآية تفيد تشريع الاخوة بين المؤمنين

البصيرة الثانية: ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الآية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) تفيد تشريع الاخوة بين المؤمنين، فكما ان الله تعالى شرّع الاخوة بين المتولدين من أبوين أو من أب أو من أم واحدة، فكذلك شرّع الاخوة بين كل مؤمن وبين سائر المؤمنين اينما كانوا من مشارق الأرض ومغاربها، في الماضي والحاضر والمستقبل.

بل هي إخبار يستبطن إنشاءً

أقول: الآية ظاهرها الإخبار، فتكون، على حسب هذا القول، من الاخبار في مقام الإنشاء، ولكن لو أبقينا الآية الكريمة على ظاهرها، كما هو الأصل وكما هو المستظهر أيضاً، لكانت أبلغ في الدلالة على الإنشاء، إذ انها حينئذٍ تفيد أحد أمرين:

أ- فانه إن قلنا بان الاخوة حقيقة اعتبارية مجعولة، دلّ هذا الاخبار على تحقق إنشاء سابق من المولى جل وعلا، إذ ما لم يكن جعلٌ تشريعيٌّ سابقٌ فكيف يخبر عن كونهم اخوة؟ فهي حينئذٍ إخبار وإنشاء معاً أو إخبار استبطن إنشاءً، فتكون أقوى في الدلالة.

ب- وإن قلنا بان الاخوة حقيقة انتزاعية، أو قلنا، بشكل عام، بانها من الحقائق التكوينية انتزاعيةً كانت أم لا، فان الآية تكون مخبرة عن تحقق هذه الحقيقة التكوينية، والتي لا يمكن لأي شخص نفيها أو إزالتها أو إنكارها مهما بلغ شأنه، فان ذلك يعني انّ كل مؤمن، فقير ومستضعف ومشرّد من أي بلد ناء أو قرية مهملة أو صحراء قاحلة كان، فانه اخ لكل مؤمن قوي، عزيز، عالم، حضري، ولكل أستاذ جامعة أو حوزة، ولكل مسؤول في الحكومة، شاء أم أبى، وذلك ككون أخيك من أبيك وأمك أخاً لك تكويناً شئت أم أبيت فإن أكرمته أكرمت نفسك وإن اهنته أهنت نفسك وإن اطعت الله تعالى فيه كنت مقرباً لديه وإن عصيته اسخطته وابعدت عنه.

حقوق الاخوة الإيمانية وأحكامها

البصيرة الثالثة: ان هذه الآية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) تفيد أن المؤمنين بما هم مؤمنون متساوون في الحقوق بأجمعها، أي تلك الحقوق الثابتة للمؤمن بما هو مؤمن.

البصيرة الرابعة: وتفيد الآية الشريفة، تبعاً لذلك ترتيب كافة آثار الاخوة وأحكامها، على كل مؤمن مؤمن من أية قومية أو عِرق أو مرجعية أو تيار أو عشيرة كان... ولكن ما هي آثار الاخوة وأحكامها؟

يجيبنا على ذلك حشد من الروايات الشريفة:

المؤمن عين المؤمن ودليله، مستشاره ومساعده

فمنها: محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن ابن فضَّال، عن علي بن عقبة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: (الْمُؤْمِنُ أَخُو الْمُؤْمِنِ عَيْنُهُ وَدَلِيلُهُ لَا يَخُونُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَغُشُّهُ وَلَا يَعِدُهُ عِدَةً فَيُخْلِفَهُ)(11)

و(عَيْنُهُ) تحمل من الدلالات ما يزيد على ما يحمله مفهوم المستشار فإن المستشار عين لك لمعرفة حقائق الأمور، لكنه لا يبتدأك عادة ببذل المشورة بل ان استشرته أشار إليك، إلا إذا وظّفته لذلك تمام الوقت ولكل الجهات، وهو نادر، لكنه يساوي المقصود من العين حينئذٍ، فان (العين) مهمتها أن تنقل إليك أولاً بأولاً مستجدات الأمور وطوارئ الأحداث، وما مضى وما هو آت، لا يألوا في ذلك جهداً، فالمؤمن عين المؤمن يكشف له عيوبه ونواقصه، كما يكشف له الأخطار المحدقة به، وأيضاً: الفرص المتاحة أمامه.

و(وَدَلِيلُهُ) يحمل من المفهوم ما يقارب مفهوم المساعد أو فقل: انه يستبطن المعنى الثاني للهداية وهو الإيصال إلى المطلوب. فتأمل

و(وَلَا يَعِدُهُ عِدَةً فَيُخْلِفَهُ) وقد يستدل بهذه الرواية، إذا فرغنا عن سندها، على وجوب الوفاء بالوعد مع المؤمن وإن قلنا بان كليّ الوفاء بالوعد ليس بواجب بل هو مجرد مستحب وفضيلة تتحرك في دائرة مكارم الأخلاق.

(سِرْ مِيلًا عُدْ مَرِيضاً... سِرْ سِتَّةَ أَمْيَالٍ...)

ومنها: ما ورد في وصية الرسول الكريم محمد المصطفى (صلى الله عليه وآاله) لوصيه العظيم علي المرتضى (عليه السلام): رَوَى حَمَّادُ بْنُ عَمْرٍو وَأَنَسُ بْنُ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ جَمِيعاً عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (عليه السلام) عَنِ النَّبِيِّ (صلى الله عليه وآله) أَنَّهُ قَالَ لَه‏: (سِرْ مِيلًا عُدْ مَرِيضاً

سِرْ مِيلَيْنِ شَيِّعْ جَنَازَةً

سِرْ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ أَجِبْ دَعْوَةً

سِرْ أَرْبَعَةَ أَمْيَالٍ زُرْ أَخاً فِي اللَّهِ

سِرْ خَمْسَةَ أَمْيَالٍ أَجِبِ الْمَلْهُوفَ

سِرْ سِتَّةَ أَمْيَالٍ انْصُرِ الْمَظْلُومَ...)(12).

وهنا، علينا أن نلقي نظرة ولو سريعة على أحوالنا، فهل نحن كذلك حقاً؟ هل نحن مؤمنون حقاً؟ هل نزور الأخ المؤمن المريض وإن كان فقيراً مستضعفاً وهل نعوده إذا مرض وهل نغيثه أو ننصره؟

(يَحِقُّ عَلَيْكَ أَنْ تُحِبَّ مَنْ يُحِبُّ اللَّهُ)!!

ومنها: وهي من أروع الروايات في هذا الحقل: عدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد بن خالد، عن عثمان بن عيسى، عن حسين بن نعيم الصَّحَّاف، قال: قال لي أبو عبد الله (عليه السلام): (أَتُحِبُّ إِخْوَانَكَ يَا حُسَيْنُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ،

قَالَ: تَنْفَعُ فُقَرَاءَهُمْ؟ قُلْتُ: نَعَمْ،

قَالَ: أَمَا إِنَّهُ يَحِقُّ عَلَيْكَ أَنْ تُحِبَّ مَنْ يُحِبُّ اللَّهُ، أَمَا وَاللَّهِ لَا تَنْفَعُ مِنْهُمْ أَحَداً حَتَّى تُحِبَّهُ، أَتَدْعُوهُمْ إِلَى مَنْزِلِكَ؟

قُلْتُ: نَعَمْ، مَا آكُلُ إِلَّا وَمَعِيَ مِنْهُمُ الرَّجُلَانِ وَالثَّلَاثَةُ وَالْأَقَلُّ وَالْأَكْثَرُ،

فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام): أَمَا إِنَّ فَضْلَهُمْ عَلَيْكَ أَعْظَمُ مِنْ فَضْلِكَ عَلَيْهِمْ،

فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أُطْعِمُهُمْ طَعَامِي وَأُوطِئُهُمْ رَحْلِي وَيَكُونُ فَضْلُهُمْ عَلَيَّ أَعْظَمَ؟

قَالَ: نَعَمْ إِنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا مَنْزِلَكَ دَخَلُوا بِمَغْفِرَتِكَ وَمَغْفِرَةِ عِيَالِكَ، وَإِذَا خَرَجُوا مِنْ مَنْزِلِكَ خَرَجُوا بِذُنُوبِكَ وَذُنُوبِ عِيَالِكَ)(13) وهي رواية عظيمة حقاً إذ تفيدنا:

أ- ان على كل مؤمن أن (يحبّ) سائر المؤمنين، سواء أكانوا من بلده أو مرجعيته أو عشيرته أو... أم كانوا من جهة منافسة، كما يحب من هم من أهل بلده وحزبه ومرجعيته وعشيرته، تماماً فهل نحن كذلك؟

ب- ان الحب بمجرده غير كافٍ بل لا بد أن يتسرب من الجوانح ليتجلى على الجوارح، وان من أبرز مظاهر ذلك أن يتصدى لإيصال المنافع إلى فقراءهم.

ج- ان حب سائر المؤمنين حق من حقوق الله تعالى علينا وذلك لأنهم يحبون الله تعالى: ( أَمَا إِنَّهُ يَحِقُّ عَلَيْكَ أَنْ تُحِبَّ مَنْ يُحِبُّ اللَّهَ) بالفتح، فكونه محباً لله تعالى علّة لثبوت حقه عليك بأن تحبه، ويمكن أن تقرأ (يحبّ اللهُ) بالرفع أي يحبه الله فإن الله يحب المؤمن، ولذا فانه يحق عليك أن تحبه مادام الله يحبه!.

د- وانّ لإيصال النفع لسائر المؤمنين مظاهر وتجليات، ومن أبرزها، التي نفتقدها عادة بالنسبة لغير من هم في طبقتنا وبالنسبة للفقراء والمساكين، دعوتهم على مائدة الطعام في منزلك لا كاستثناء بل كأصل، ومن منّا يفعل ذلك؟.

هـ - وانّ علينا أن نعرف انّ إحساننا لهم وقبولهم ذلك الإحسان، الإطعام مثلاً، تفضّل منهم علينا قبل أن يكون تفضّلاً منّا عليهم؟ ففي مثال الإطعام يقول (عليه السلام): ( فَضْلَهُمْ عَلَيْكَ أَعْظَمُ مِنْ فَضْلِكَ عَلَيْهِمْ!!، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِدَاكَ أُطْعِمُهُمْ طَعَامِي وَأُوطِئُهُمْ رَحْلِي وَيَكُونُ فَضْلُهُمْ عَلَيَّ أَعْظَمَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنَّهُمْ إِذَا دَخَلُوا مَنْزِلَكَ دَخَلُوا بِمَغْفِرَتِكَ وَمَغْفِرَةِ عِيَالِكَ، وَإِذَا خَرَجُوا مِنْ مَنْزِلِكَ خَرَجُوا بِذُنُوبِكَ وَذُنُوبِ عِيَالِكَ).

العلاقة الثلاثية بين أطراف الصراع والإصلاح

البصيرة الخامسة: ان قوله تعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) يستبطن إشارة لطيفة إلى مثلّث العلاقة بين أحد طرفي النزاع والطرف الآخر، وأنت، الثالث، المأمور بالإصلاح! فلو قال تعالى: (إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بينهم) لما دلّ على هذا التحريض اللطيف والحث المستفز للضمير والوجدان، لكنه قال: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) فهما إخوان تنازعا وأنت الثالث لهما أخ فعليك بالإصلاح بين أخويك، وإلا (كما يفهم من قاعدة تعليق الحكم على الوصف مشعر بالعلّية والبرهان الإنّي كما سبق) فلست بأخ وليست بمؤمن!

لماذا (وَاتَّقُوا اللَّهَ)؟

البصيرة السادسة: ان موقع (وَاتَّقُوا اللَّهَ) دقيق، وذلك لأن الدخول في العملية الإصلاحية، بشأنه وبطبعه، يدفع المصلح إلى الميل، ولو من حيث لا يدري، إلى من يهواه ويحبه أو يخافه ويحذره أو إلى من يعتقد به ويواليه أو إلى من هو من عشيرته وحزبه وجماعته ومواليه، ولذلك اقتضى ذلك التنبيه على (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ)، فلا تَتقِّ إلا الله ولا تَخَفْ أحداً سواه.

معنى (لَعَلَّكُمْ)

البصيرة السابعة: ان لعل في (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ليست للترديد من القائل، بل للإبهام على السامع والسائل، فإن الإبهام في مثل هذا الموطن هو مقتضى الحكمة حيث انه يحمل المرء على الاحتياط والحذر كي ينال رضا الله تعالى ببذل مزيد الجهد والتحوط بأشد أنواعه، وإلا فانه من دون ذلك، إذا اطمأن، فقد يتكاسل أو يركن إلى خصوص هذا العمل أو قد يصاب بالعجب والكبرياء فيحبط عمله فيكون (كَسَرابٍ بِقيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ) (سورة النور: الآية 39)، وهناك احتمالات أخرى في وجه التعبير بـ(لعل) وقد مضى بعض الكلام عنها فراجع.

إضمامة عطرة من فضائل زيارة الإمام الحسين (عليه السلام)

ملحق: حيث اننا على أبواب عرفة وزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) الخاصة، ثم على مشارف شهري محرم وصفر، فإن من المناسب أن نستعرض بعض الروايات الواردة في فضائل زيارته صلوات الله عليه لارتباطها بنحو من الربط الجوهري بمحور البحث (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ):

وإتيانه مفترض على كل مؤمن

1- فقد ورد في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) انه قال: (مُرُوا شِيعَتَنَا بِزِيَارَةِ قَبْرِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) فَإِنَّ إِتْيَانَهُ يَزِيدُ فِي الرِّزْقِ وَيَمُدُّ فِي الْعُمُرِ وَيَدْفَعُ مَدَافِعَ السُّوءِ وَإِتْيَانَهُ مُفْتَرَضٌ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ يُقِرُّ لِلْحُسَينِ (عليه السلام) بِالْإِمَامَةِ مِنَ اللَّهِ)(14).

2- كما ورد في موثقة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: (مُرُوا شِيعَتَنَا بِزِيارَهِ قَبْرِ الْحُسَينِ (عليه السلام)، فَإنَّ إتْيانَهُ مُفْتَرَضٌ عَلَي کُلِّ مُؤْمِنٍ يقِرُّ لِلْحُسَينِ (عليه السلام) بِالْإمَامَهِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)(15)

وزيارة الإمام الحسين (عليه السلام) تتميز بما شاء الله من الخصائص:

وتكتب له ألف حجة وعمرة

ومنها ما ورد في الرواية الصحيحة الآتية من انه يكتب له ألف حجة وألف عمرة مبرورة وفوق ذلك انه إن كان شقياً كتب سعيداً!!:

فقد روى محمد بن الحسن بن الوليد عن محمد بن الحسن الصفار عن أحمد بن محمد بن عيسى عن أبيه عن عبد الله بن المغيرة، عن عبد الله بن ميمون القداح، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قَالَ: (قُلْتُ لَهُ مَا لِمَنْ أَتَى قَبْرَ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) زَائِراً عَارِفاً بِحَقِّهِ غَيْرَ مُسْتَكْبِرٍ وَلَا مُسْتَنْكِفٍ؟ قَالَ: يُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حِجَّةٍ وَ أَلْفُ عُمْرَةٍ مَبْرُورَةٍ وَإِنْ كَانَ شَقِيّاً كُتِبَ سَعِيداً وَلَمْ يَزَلْ يَخُوضُ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)(16).

ماذا يعني (وَإِنْ كَانَ شَقِيّاً كُتِبَ سَعِيداً)؟

ولعل الوجه في قوله (عليه السلام): (وَإِنْ كَانَ شَقِيّاً كُتِبَ سَعِيداً) أحد الأمور التالية:

أ- انه كان قد كتب بسوء أعماله، من الأشقياء، لكنه حيث أتى بهذا العمل الصالح العظيم، وهو زيارة سبط الرسول الشهيد وأبي الأحرار، كتب من جديد، بحسن عمله، من السعداء. إذ (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (سورة الفرقان: الآية 70)

ب- انه حيث سقط في الامتحان في العوالم السابقة، كعالم الذر مثلاً، لذلك كتب من الأشقياء، ولكنّ عالم الدنيا، وكما لعله المستظهر من الروايات، هو فرصة جديدة تمنح للفاشلين في العوالم السابقة، فهو كالدور الثاني في امتحانات المدارس، وذلك من عميم فضل الله ولطفه، فيمكن لمن سقط أن ينهض من جديد، لذلك تمنح له فرصة أخرى، فإن أحسن غُفِر له، فانه وإن كان راسباً في الامتحان السابق، إلا انه بزيارته للحسين صلوات الله عليه، اندرج في سلك الناجحين فاستحق الثواب العظيم والنعيم المقيم.

وعلى هذين الوجهين، فان كونه شقياً وكتابته شقياً كان في مرحلة الاقتضاء لا العِلّية التامة، وبعبارة أخرى: كان مكتوباً في لوح المحو والإثبات لا اللوح المحفوظ، ولذا دخله البداء الذي يعني الإبداء من الله تعالى، والتغيير من العبد (يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ)(17).

ج- وقد استنبط بعض العلماء من هذه الفقرة (وَإِنْ كَانَ شَقِيّاً كُتِبَ سَعِيداً) ومن نظائرها نكتة أخرى لطيفة وهي ان إطلاق الرواية يشمل من انعقدت نطفته من الحرام، وانّ من انعقدت نطفته من الحرام يكتب شقياً، حسب الكثير من الروايات الواردة عن ابن الزنا، لكنه، ليس شقاء يلزمه بحيث يفقد فرصة النجاة تماماً، كي يقال بانه ما ذنبه؟ وكيف خلّد في النار بذنب غيره من دون أن يعطى أية فرصة؟ بل لقد فتح الله تعالى أمامه أهم بوابات فرص الطهارة والزكاة والنجاة، وهي زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) فانه إذا زاره كانت زيارته مطهِّرةً له فاستحق على الله تعالى الجنة.

د- بينما استنبط أحد العلماء نكتة أخرى أسبق رتبة من النكتة السابقة وهي: الانقلاب الجوهري أو الماهوي، بمعنى انه بعد أن كان شقياً يكتب سعيداً، لا تنزيلاً فقط ولا من باب التطهير اللاحق بقاءً بعد الـخُبث الحاصل حدوثاً، بل حقيقةً، بمعنى أن نطفته في حينها تكون قد انعقدت من الحلال ولم تكن نطفة حرام ولا زناً أصلاً!

وحيث أُعترض على ذلك بان الماضي لا ينقلب عما وقع عليه، وان التنزيل ممكن والتطهير اللاحق ممكن لقوله تعالى: (فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) (سورة الفرقان: الآية 70) لكنّ تغيير الماضي، بسبب أمر حاصل في المستقبل غير معقول، أجيب: بأن مآل ذلك إلى أن الله تعالى حيث علم بعلمه الأزلي بأن هذا الطفل المتولد من حرام على الفرض، سيتقرب إليه بزيارة سبط نبيه (صلى الله عليه وآله)، لذا فانه جل اسمه، أباح تلك المرأة لذلك الرجل في نفس ذلك الحين فانعقدت نطفته من حلال، حدوثاً، إذاً، لا انها انعقدت من حرام ثم قلبها ما يحدث في المستقبل إلى حلال!

وبوجه آخر: النكاح والسِفاح أمران اعتباريان أمرهما بيد الشارع فان الشخص إذا باشر امرأة من غير إجراء عقد النكاح كان حراماً سِفاحاً وأما إذا باشرها مع إجرائه كان حلالاً جائزاً إذ (إِنَّمَا يُحَلِّلُ الْكَلَامُ وَيُحَرِّمُ الْكَلَامُ)(18) وجاعلُ الإنشاء (إنشاء صيغة النكاح) مبيحاً للرجل لأن يقارب المرأة، هو الشارع الأقدس (أو هو بحسب آخرين، هو السلطة الحاكمة أو شيخ العشيرة، أو العرف أو شبه ذلك) فكما أنّ أمر التحليل والتحريم عبر إنشاء النكاح بيد الله تعالى فكذلك له أن يحلل بطرق أخرى كما في الإباحة بالملك أو بتحليل المالك على المشهور بين علماء الفريقين، فكذلك للرب أن يحلها له بما شاء حيث علم بما سيصدر منه في مستقبل الأيام.

وبوجه آخر: يمكن، عقلاً، والكلام في الإمكان دفعاً لإشكال الاستحالة لا الوقوع فانه بحاجة إلى دليل، أن يكون الله تعالى قد أوكل إلى ولي من أوليائه أو ملك من ملائكته، إجراء صيغة العقد له عند مباشرتها، فيكون متجرياً حينئذٍ فقط، أي انه توهم انها أجنبية وان مباشرتها محرم، ولكنّ صيغة العقد أو غيرها من أسباب التحليل، كانت قد أجريت له من دون أن يعلم، فكانت حلالاً له ثبوتاً، حدوثاً، أي حينذاك.

ويوضحه المثال التالي: فلو أن رجلاً وكّل ثقة بأن يعقد له على امرأة بحسب ما يراه من المصلحة فعقد على امرأة محددة ولكنه مات قبل أن يخبره بذلك، فان هذا الرجل لو التقى بتلك المرأة، صدفة، فباشرها متوهماً انها أجنبية، فانه متجرٍّ فقط أي ليس فعله بزنا لأن الفرض انها كانت معقودة له، فكان فعله واقعاً نكاحاً لا سِفاحاً، لكنه حيث تصورها أجنبية كان عليه الامتناع فحيث لم يمتنع كان متجرياً والمتجري إما انه لا يستحق العقاب، على رأيه، أو يستحق عقاباً مخففاً آخر، بمعنى انه لا يستحق عقاب الفعل الحرام لكنه يستحق عقاب التجري، ألا ترى ان من هجم على سائل بتوهم انه خمر فشربه لكنه كان ماء واقعاً فانه لا يجلد ثمانين جلدة فانها حد شارب الخمر وليس هذا شارباً لها، لكنه غاية الأمر يعزّر لارتكابه ما توهم كونه حراماً...

ولكنّ مجرد إثبات الإمكان لا يتكفل بالوقوع، والرواية السابقة غير ظاهرة في ذلك المدعى بل لعلّ هذا التحليل خلاف ظاهر (وَإِنْ كَانَ شَقِيّاً). فتأمل وتدبر والله العالم.

ما هو أحب الأعمال وما هو أفضل الأعمال؟

ختاماً: ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قوله: (مِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى زِيَارَةُ قَبْرِ الْحُسَيْنِ (عليه السلام) وَأَفْضَلُ الْأَعْمَالِ عِنْدَ اللَّهِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ، وَأَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ سَاجِدٌ بَاكٍ)(19).

والتشبيك بين زيارة الإمام الحسين (عليه السلام) وبين القيام بحقوق الإخوة، مما تتكفل باحدى أسمى تجلياته هذه الرواية الشريفة وذلك بأن يتعهد الزائر لقبر الحسين صلوات الله عليه بأن يدخل السرور على قلوب المؤمنين من الزوار وغيرهم: باستضافتهم، وإيوائهم في داره أو حسينيته أو مضيفه، مع تقديم أفضل الخدمات وتذليل شتى العقبات وأيضاً: بالدفاع عنهم ونصرتهم إذا ظلموا، وبتطبيب مرضاهم، والصدقة على فقرائهم ومساكينهم، وتزويج عزابهم، وإقراض من يحتاج منهم إلى القرض الحسن (مَنْ ذَا الَّذي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ) (سورة البقرة: الآية 245) وأيضاً: بإرشادهم وتعليمهم معالم دينهم؛ فانه بذلك يدخل السرور على قلب رسول الله وقلب فاطمة الزهراء وقلوب الأئمة الأطهار بأجمعهم، إضافة إلى انه يدخل بذلك السرور على قلب ذلك المؤمن أو الزائر خاصة. وبذلك يجمع الخير من طرفيه ويفوز بالحسنيين جميعاً فـ(طُوبى‏ لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ) (سورة الرعد: الآية 29).

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد واله الطيبين الطاهرين

* سلسلة محاضرات في تفسير القرآن الكريم
http://m-alshirazi.com

..........................................
(1) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص294.
وقد ورد حديث الثقلين في كتب العامة في صحيح مسلم ومسند أحمد وسنن الترمذي وغيرها ونكتفي هنا بالنص الذي رواه النسائي فقد روى الحافظ النسائي في سننه الكبرى سنن عن محمد بن المثنى قال ثنا يحيى بن حماد قال ثنا أبو عوانة عن سليمان قال ثنا حبيب بن أبي ثابت عن أبي الطفيل عن [الصحابي] زيد بن أرقم قال لما رجع رسول الله صلى الله عليه وآله عن حجة الوداع ونزل غدير خم أمر بدوحات فقممن ثم قال: “كأني قد دعيت فأجبت إني قد تركت فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب الله وعترتي أهل بيتي فانظروا كيف تخلفوني فيهما فإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض ثم قال إن الله مولاي وأنا ولي كل مؤمن ثم أخذ بيد علي فقال من كنت وليه فهذا وليه اللهم وال من والاه وعاد من عاداه”. [السنن الكبرى للنسائي /ج 5 / ص 45 /ح 8148.
وقال الطحاوي: (فهذا الحديث صحيح الإسناد، لا طعن لأحد في أحد من رواته) . [مشكل الآثار للطحاوي /ج 4 / ص 310 / ح 1765].
كما صححه الالباني، وصرح الترمذي بانه حديث حسن غريب. (راجع بعض المصادر الأخرى في درس التفسير رقم (368/17) بتاريخ 8 شعبان 1444هـ من نفس هذه السلسلة).
(2) فخر الدين الطريحي، مجمع البحرين، مؤسسة التاريخ العربي ـ بيروت: ج6 ص323.
(3) من أول الباب إلى هاهنا نقله الفيروزآبادي حرفيا في البصائر 2/ 111، وانظر العين 8/ 433.
(4) هذا عجز بيت لتأبّط شرّا، وصدره: يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي
وهو في ديوانه ص 156، والجمهرة 1/ 11، وشرح الحماسة للتبريزي 1/ 49، والمخصص 13/ 181.
(5) وأمّ المساكين كنية زينب بنت خزيمة أمّ المؤمنين، سميت بذلك لكثرة معروفها. راجع سير أعلام النبلاء 2/ 218.
(6) أبو الأضياف هو إبراهيم الخليل عليه السلام، فهو أول من أضاف الضيف.
(7) الشطر للشنفرى، وعجزه: إذا أطعمتهم أو تحت وأقلّت
وهو في الجمهرة 1/ 21، والمفضليات ص 110، واللسان (أمم) .
(8) الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، دار القلم ـ بيروت، دار الشامية ـ دمشق: ص85.
(9) الشيخ الطوسي، الاستبصار، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص190.
(10) يراجع كتاب (الصياغة الجديدة لعالم الإيمان والحرية والرفاه والسلام) لآية الله السيد محمد الحسيني الشيرازي.
(11) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص166.
(12) الشيخ الصدوق، من لا يحضره الفقيه، مؤسسة النشر الإسلامي ـ قم: ج4 ص358.
(13) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج2 ص201.
(14) ابن قولويه القمي، كامل الزيارات، دار المرتضوية ـ النجف الأشرف: ص150.
(15) المصدر: ص121.
(16) ابن قولويه القمي، كامل الزيارات، دار المرتضوية ـ النجف الأشرف: ص164.
(17) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج1 ص368.
(18) ثقة الإسلام الكليني، الكافي، دار الكتب الإسلامية ـ طهران: ج5 ص201.
(19) ابن قولويه القمي، كامل الزيارات، دار المرتضوية ـ النجف الأشرف: ص146.

اضف تعليق