q
المقارنة الاجتماعية غريزةٌ بشرية أساسية وتلقائية. رغم أن المقارنات الاجتماعية من الممكن أن تعطيَنا طريقة مفيدة لنرى مقدارَ نجاح مساعينا، فمن الممكن أن تولِّد أيضًا مشاعرَ الحقد. فسماع أن الآخرين يعيشون حياةً ممتازة رحلاتٍ رائعة وإنجازات مهنية مبهرة وجدولًا اجتماعيًّا حافلًا يجعلنا أشدَّ استياءً من حياتنا...

من الصعب أن نتخيَّل موقعًا للنشأة أروعَ من بالو ألتو، في ولاية كاليفورنيا، تلك البلدة الهادئة في قلب وادي السيليكون في مواجهة جامعة ستانفورد بالضبط. حيث يترعرع الأطفال في بيوتٍ تفوق قيمتها المليون دولار، ويرتادون مدارسَ عامة رفيعة المستوى، ويبدون وقد تمتعوا بكل ميزة قد يدرُّها المال.

بيْد أنه خلال العَقد الأخير أقدم عدد من المُراهِقِين في هذه البلدة ذات الثقافة الرفيعة والثراء على الانتحار - بأن ألقى العديد منهم بنفسِه أمام القطار. في الواقع، يفوق معدل انتحار المراهقين في بالو ألتو المعدَّل المسجَّل على المستوى الوطني بأربعة أو خمسة أضعاف.

رغم تعدُّد العوامل المؤدية للانتحار، فإنه يكاد الجميع يتَّفقون على أن تجرِبة الدراسة الثانوية البالغة الإجهاد في بالو ألتو لها يدٌ في الأمر. فالمنافسة على القبول في أفضل الجامعات شرسة؛ إذ حصل ٦٤ في المائة من الدفعة التي تخرَّجت عام ٢٠١٥ في إحدى المدرستين الثانويتين المحليتين على معدلٍ تراكمي ٣٫٥١ أو أكثر. يَلتحق أغلب الطلاب بفصولٍ تأهيلية متقدِّمة متعدِّدة، ويقضون وقتًا طويلًا في حل واجباتٍ مدرسية والقيام بأنشطة خارج المنهج، ويتعرَّضون لضغط هائل من الأبوين والمدرسين وأقرانهم حتى يتفوقوا.

لكن تريَّثْ لتتأمَّل ما عساه يعنيه «الضغط النفسي» بحقٍّ في هذه البيئة الراقية. فهؤلاء الصغار غير خائفين ألا يجدوا كفايتهم من الطعام أو مكانًا آمنًا للمبيت، أو من تهديدٍ جسدي في مجتمعٍ تجتاحه الجريمة أو تمزِّقه الحرب. الضغط النفسي، الذي يشعر به هؤلاء الطلاب على الأقل، يكاد يكون نابعًا بالكامل من أفكارهم وربما أفكار آبائهم وأقرانهم ومُدرِّسيهم. وما يجعل هؤلاء الطلاب في المرحلة الثانوية يعانون الضغطَ النفسي تحديدًا أنهم اقتنعوا بطريقةِ التفكير التي تخبرهم بأن ارتيادَ جامعة مرموقة هو سرُّ السعادة.

هكذا تجعلنا العواملُ البيئية - ومنها الحي والبلد ومنشورات وسائل التواصل الاجتماعي - نرى أنفسنا بطرقٍ معينة، وكيف تستطيع هذه المواقف الذهنية أن تكدِّر صفونا، ولو في بعض الأحيان على الأقل. لذلك لابد من التعرف على استراتيجيات مفيدة للحد من تأثير هذه العوامل الخارجية التي تستطيع تثبيط همَّتنا وللانصراف بدلًا من ذلك إلى العثور على السعادة الحقيقية داخل أنفسنا.

مساوئ المقارنة

المقارنة الاجتماعية غريزةٌ بشرية أساسية وتلقائية. فهي تساعدنا على فهمِ موقعنا بين الآخرين، بما في ذلك ما نجيده وما لا نُحسنه. نستخدم هذه المقارنات لتقييم أنفسنا في أي ناحية من النواحي تقريبًا - سواء المظهر أو الدخل أو النجاح أو غير ذلك.

تلك المقارنات تؤدِّي غرضًا مهمًّا بما أننا لا نجد مقياسًا موضوعيًّا واضحًا للعديد من عوامل الحياة. فلنقل مثلًا إن شخصًا ما يتقاضى راتبًا قدره ١٠٠ ألف دولار في السنة. فما بالكم بذلك الراتب؟ في حالة مدرس في ريف أركنساس من الممكن القول بأن هذا الراتب ممتاز بحق، لكن في حالة محامٍ في مانهاتن فمن الممكن اعتباره ضئيلًا. من ثَم فإن المقارنات التي نعقدها مع الآخرين في بيئتنا تمنحنا طريقةً بسيطة لتقييم ظروفنا.

رغم أن المقارنات الاجتماعية من الممكن أن تعطيَنا طريقة مفيدة لنرى مقدارَ نجاح مساعينا، فمن الممكن أن تولِّد أيضًا مشاعرَ الحقد. في واحدة من الرسوم الهزلية المفضَّلة لديَّ يتحدث رجلان معًا، فيقول أحدهما للآخر: «إنني أعد النعم التي حظيت بها، لكنني عندئذٍ أعُد التي حظي بها الآخرون الأوفر حظًّا مني، فيتملَّكني الغيظ.» تصوِّر تلك الرسالة بدقة كيف يمكن للمقارنات أن تجعلنا ناقمين على حياتنا.

في دراسةٍ أخبر الباحثون موظَّفين حكوميين في ولاية كاليفورنيا أن ثمَّة موقعًا على الإنترنت يحتوي على معلوماتٍ دقيقة عن رواتب كل العاملين في الأجهزة الحكومية، مدرجَة بالأسماء. وكما قد تتوقَّعون، اختار العديدُ منهم زيارة الموقع لمعرفةِ ما يجنيه زملاؤهم؛ أدَّى هذا البريد الإلكتروني الذي أُرسل إلى آلاف الموظفين إلى ارتفاعٍ واضح في عدد زوار الموقع.

وبعد بضعة أيام، أرسل الباحثون لنفس الموظفين رسالةً إلكترونية للمتابعة. سألتهم هذه الرسالة عن درجةِ رضاهم عن وظائفهم وبخاصَّة مُرتباتهم. وكما تنبَّأ الباحثون، فإن الأشخاص الذين عرفوا لتوِّهم أنهم يتقاضون رواتبَ أقل من زملائهم في نفس الوظيفة كانوا مُنزعجين. كانوا أقلَّ سعادة بوظيفتهم الحالية وأكثر رغبةً في البحث عن عمل جديد، مقارنةً بمن لم يتلقَّوا الرسالة الإلكترونية. فقد أدركوا على كل حال أن رواتبهم لا تُكافئ رواتبَ زملائهم، وهذه المقارنة لم تجعلهم سعداء بالطبع.

إليكم تجربةً افتراضية لاختبارِ مخاطر المقارنة: هل سبق أن تلقيتم واحدًا من خطابات موسم العطلات الحافلة بالتفاخر؟ تعلمون ماذا أقصد - الخطاب الذي يبدو فيه كل أفراد الأسرة في حالٍ من الازدهار، من مواسم رياضية أحرزوا فيها جوائز، لأداء أكاديمي باهر، لترابط أسري رائع خلال رحلات إلى أماكن مبهرة وباهظة التكاليف؟

بماذا تشعرون بعد قراءة خطابٍ على هذه الشاكلة؟ من وجهة نظر أغلب الناس، تفرض هذه الخطابات نوعًا معيَّنًا من المقارنة الاجتماعية التي تجعلنا أشدَّ نقمة على حياتنا المتواضعة. فسماع أن الآخرين يعيشون حياةً ممتازة - رحلاتٍ رائعة وإنجازات مهنية مبهرة وجدولًا اجتماعيًّا حافلًا - يجعلنا أشدَّ استياءً من حياتنا. يُزعم أن تيدي روزفلت قال: «المقارنة سارقة البهجة».

* مقتبس بتصرف من كتاب التحول الإيجابي: تحكم في طريقة تفكيرك وانعم بالسعادة والصحة والعمر المديد، للمؤلفة: كاثرين إيه ساندرسون، أستاذة علم النفس في أمهرست كوليدج بولاية ماساتشوستس الأمريكية

اضف تعليق