q
إسلاميات - المرجع الشيرازي

المبعث النبوي فرصة لإعادة البشرية إلى رشدها

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

تمر بنا هذه الأيام الذكرى العطرة للمبعث النبوي الشريف، فيستذكر فيها المسلمون سيرة الرسول الأكرم (ص)، ويعيشون التفاصيل النادرة والغنية لهذه السيرة العظيمة، وهناك منهم يراجع مناهل السيرة العطرة، فينهل منها ما يغني حياته بالطيبات، ويزيح عنها الخبائث، في حين هناك من لا ينتهز مثل هذه الفرص النادرة...

تمر بنا هذه الأيام الذكرى العطرة للمبعث النبوي الشريف، فيستذكر فيها المسلمون سيرة الرسول الأكرم (ص)، ويعيشون التفاصيل النادرة والغنية لهذه السيرة العظيمة، وهناك منهم يراجع مناهل السيرة العطرة، فينهل منها ما يغني حياته بالطيبات، ويزيح عنها الخبائث، في حين هناك من لا ينتهز مثل هذه الفرص النادرة، فيبقى يدور في فلك التوتر والفتن والتناحر.

العالم الذي نعيشه اليوم ممتلئ بالتعقيد، ويغلي من بؤر التطرف التي تنتشر فيه هنا وهناك، ويغلق عيونه وبصائره عن مصادر الرحمة، وتقليل التفاوت الطبقي، بل يمضي قُدما في سياسات الاحتكار والتجويع، وهذا ما يناقض المنهج النبوي السديد، استرشادا بالسيرة النبوية، وبالمنهج الإنساني الذي استطاع أن يلغي الفوارق ويحارب الطبقية ويحد من العنصرية العرقية وسواها.

عالم اليوم ينوء بثقل التناحر، ويئن من كثرة الحروب، ويصرخ من كثر الجروح التي تُثخن روحه وجسده، الأغلال التي تكبله ثقيلة ومعروفة، لكن لا يريد أولي الأمر من قادة العالم وقادة المسلمين، مكافحة تلك الأغلال والقضاء عليها وعلى مصادرها، أو أنهم لا يمتلكون الشجاعة ولا الإرادة الحرة، كي ينعم العالم والبشرية كلها بالوئام والسلام.

حين بزغت الرسالة النبوية في أرض جرداء، وفي مجتمع مريض يصارع نفسه، أول الأهداف النبوية كان تخليص الناس من العنصرية، والتفاوت الطبقي، ونشر الرحمة في قلوب الناس، ونبذ الشر بكل أشكاله، وحصد الطيبات، ومحاربة الخبائث، وهذا بالضبط ما يحتاجه عالمنا اليوم، حتى تتوحد قلوب الجميع بالرحمة والعفو والسلام والطمأنينة.

سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، يول في إحدى كلماته التوجيهية القيّمة:

(إحدى خصائص مولانا رسول الله صلى الله عليه وآله، تبيين وتعريف كل ما هو حسن في مختلف أنواعه، وكذلك تبيين كل ما هو سيئ، وهذا يمكننا أن نقول بأنّ تعامل ودور رسول الله صلى الله عليه وآله المهمّ، أنّه أتى للإنسان والناس بالطيّبات في الجوانب الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، والاجتماعية).

إذاً يحتاج المسلمون، بل العالم كله، إلى نظام فكري ثقافي سياسي اقتصادي مختلف، ينتهي فيه التطرف، وتُهزَم فيه العنصرية، ويعيش فيه الجميع سواسية من حيث الحقوق والواجبات، طبقا للمؤهلات والمزايا التي يمتلكها الأشخاص، وهذا هو رسّخهُ المنهج النبوي، ومنهج أئمة أهل البيت (ع)، فليس هناك تطرف، ولا تفرقة ولا تفضيل على أساس العرق أو الدين أو الهوية.

لكن مما لوحظ في العالم، لاسيما الأطراف التي تحتكر ثروات البشر، وهناك من الأنظمة السياسية العلمانية، والقوى التي تمايز بين الشعوب والأمم، تشترك في صناعة الأزمات العالمية بتطرفها وعنصريتها، وتسعى لمضاعفة العنصرية والتفاوت الطبقي، ثم يلقون التطرف وتوابعه على المسلمين وحدهم، ويتّهمونهم بالإقصاء، ويبرّئون أنفسهم من العيوب التي يملأون بها الأرض!!

السياسة يجب أن تتجرد من الخبث

أحد المفكرين، سلمان العودة، يقول: (البعض يظن أن التطرف إسلامي بينما ثَمَّ تطرف علماني إقصائي لا بد من تقليم أظفاره!)

إذاً الكل يحتاجون إلى المنهج النبوي الذي يتجسد في قسم كبير منه، بنبذ الشر، والاحتفاء بالخير وتعضيده ونشره، وترويجه، ثقافة وسلوكا وتعاملا، لذلك نلاحظ أن المنهج النبوي قام على مبدأ إجرائي يدعو إلى (نبذ الخبائث ومحاصرة كل ما يؤذي الإنسان)، ولا يقتصر ذلك على مجال محدد.

السياسة يجب أن تتجرد من الخبث، وكذا الحال بالنسبة للاقتصاد، والبنية الاجتماعية لابد أن يتم تنظيفها من الخبث والسوء، بل حتى التعاملات العسكرية بين المتحاربين يجب أن تقوم على مبدأ كبح الخبث وترويج المبادئ التي تضمن تقاليد إنسانية تُراعى فيها حقوق الإنسان، سواء كان فردا، أو جماعة، وهذا ما ركّز عليه النبي محمد (ص).

هذا التعامل القائم على مبادئ الرحمة، والتوازن، وعدم الإساءة للآخر، والسعي لجعل كفتيّ الميزان متعادلتين بين الناس، هو ما بشّر به النبي الأكرم (ص)، وسعى إلى نشره بين الجميع، وثقف عليه المسلمين، وطالب الكبير والصغير به، والقوي والضعيف، والفقير والغني، فلا يعلو أحد على أخيه حين يتعلق الأمر بالعدالة.

يقول سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) حول الخبائث: بأنها (هي كل ما هو غير جيّد وسيئ، وكل أمر يؤذي الإنسان ويخرّب حياته، التي نهى عنها النبيّ صلى الله عليه وآله، في الجوانب كافّة، أيضاً، أي الاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية، والعسكرية. بل إنّه صلى الله عليه وآله قد بيّن وأتى بوصايا حتى في زمن الحرب والسلم، وحتى قبل بدء الحرب، بشكل ميسّر وسهل).

منهج الرسول (ص)، واضح ومعروف، وهو ما قوّم وروّض أشرس القلوب والنفوس، وأكثرها شرّا بسبب العصبية والقبلية والتطرف، ولكن في غضون سنوات قليلة من عمر الزمن، تغيّر أولئك القوم، وتنوّرت عقولهم، وتزيّنت قلوبهم بالرحمة والسلام والتسامح.

كل هذا يعود إلى طبيعة المنهج ومضامينه، وقدرته على حلّ المشكلات والأزمات المعقدة، وهو ما يحتاجه عالمنا اليوم، هذا العالم الذي يغص بالأزمات، والأسباب واضحة ومعروفة، حتى سبل الحل معروفة أيضا، ولكن المشكلة تكمن في إرادة التغيير، وتخليص البشرية من أوبئة كثيرة منها وباء التمييز العنصري، والعرقي، والتفاوت الطبقي، والاحتكار، وسوى ذلك مما نبذه أهل النبي محمد (ص).

كيف يمكن تطبيق المنهج النبوي؟

الحل إذاً يكمن في مدى قدرتنا على تطبيق المنهج النبوي، بعد فهم وهضم سيرته، لاسيما أولئك الذين يتربعون على عروش السلطة، سواء العالمية منها أو الإسلامية، هؤلاء بأيديهم مفاتيح التغيير وتخليص العالم من أزماته، شريطة الالتزام الطوعي التام بسياسة وثقافة وإدارة وإنسانية المنهج النبوي.

يتساءل سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله):

(ألم يأمرنا القرآن الكريم بقوله تعالى: «لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ»؟ ولذا علينا أن نقتدي بالنبيّ الكريم صلى الله عليه وآله، فيجب علينا أن نبلّغ كل ما وصلنا من أهل البيت صلوات الله عليهم، سواء من الأمور المستحسنة التي يجب العمل بها، أو الأمور المنبوذة التي نهى عنها).

يجب أن يعود العالم إلى رشده، والإنسان إلى طبيعته، وقد بات التخلص من التطرف حاجة لا مفر منها، لاسيما بعد أن انتشرت على المستوى العالمي، والمشكلة أنها (مشكلة التطرف) تسلّلت حتى إلى الفنون والآداب، بل واقتحمت السياسة أيضا، لدرجة أن النتيجة الحتمية للتطرف أصبحت الموت.

الحروب هي نتيجة للتطرف، والموت نتيجة للحروب، الاحتراب الأهلي الداخلي أو بين الدول، يقف خلفه التطرف ونتيجته الموت، كل هذا يجري تحت أسباب ليس مجهولة، يمكن معالجتها، لكن من المؤسف حتى الآن لا يتحرك من بأيديهم مقاليد الحلول نحو هذا الهدف!! وهو أمر محيّر حقا!!

يقول ميلان كونديرا (إن الشغف بالتطرف سواء في الفن أو في السياسة رغبة مقنعة في الموت)، وهذا ما يحدث في عالم اليوم، والسبب غياب المنهج الإنساني، والنظام العالمي العادل، فعلينا بالبحث عن الجيد والحسن، ونبذ نقيضه، وفق منهج واضح ممكن التطبيق، يناسب الإنسانية كلها، وهو موجود حرفيا في المنهج النبوي الشريف، الذي يدعو الجميع دون استثناء إلى الركون للأفضل دائما.

سماحة المرجع الشيرازي (دام ظله) يقول:

(الجيّد والحسن مطلوب وهو المراد في كل جوانب الحياة، حتى في علاقات الناس بعضهم مع بعض، فعليهم أن يراعوا الأمور الطيّبة والحسنة. أي المرأة مع زوجها، والزوج مع زوجته، والتلميذ والطالب مع معلّمه وأستاذه، والمعلّم والأستاذ مع تلامذته وطلبته، والبائع مع الكاسب، والكاسب مع البائع، والأب والأمّ مع أبنائهما، والأبناء مع آبائهم وأمّهاتهم، وحتى الحاكم مع شعبه، والشعب مع الحاكم).

استثمار المبعث النبوي ليس حاجة المسلمين وحدهم، إنها حاجة بشرية تشمل عالم اليوم كلّه، لكن منهج الرسول (ص)، يجب أن يصل إلى الناس أجمع، في كل ربوع الأرض، لأن فهم هذا المنهج وهضم تفاصيله، سوف يشجع على الأخذ به، وهذا ما يقدّم لقادة البشرية، حلولا لصنع عالم جديد يقوم على القيم النبوية التي حوّلت الظلام والجهل والتطرف، إلى أقوى دولة وأفضل أمة بالعالم في حينها.

اضف تعليق