يعبِّر دابليو. برنارد كارلسون عن إعجابه بسيرة مهندِس عَلَّم نفسه بنفسه، وأحدثَ ثورة في عالَم الاتصالات السلكية واللاسلكية، تدين تكنولوجيا الإلكترونيات اليوم - بكل ما تتضمنه مما يتعلق بالاتصالات العالمية وثروات الشركات - بالكثير لأعمال هيفيسايد البارعة. ويذكِّرنا ماهون بأن مثل تلك العبقرية غالبًا ما تكون نتيجة للعزلة، والتضحية، والمثابرة العنيدة المحضة...
بقلم: دابليو. برنارد كارلسون

تَعْرِفُ أنك في قسم الهندسة الكهربائية، حين ترى طلابًا يرتدون قمصانًا عليها صور لأربع معادلات تفاضلية. سوف يخبرونك أن تلك المعادلات قد سُميت على اسم عالِم الفيزياء جيمس كلارك ماكسويل، الذي عاش في القرن التاسع عشر، والذي استخدمها لصياغة نظرية موحدة للضوء، والكهرباء، والمغناطيسية.

تُستخدم معادلات ماكسويل اليوم لحل المشكلات العملية في مجال الإلكترونيات، والاتصالات السلكية واللاسلكية، ولكنْ لماذا تبدو على ما هي عليه الآن؟ في أطروحته التي ناقشها في عام 1865، بعنوان "نظرية ديناميكية للمجال الكهرومغناطيسي"، (A dynamical theory of the electromagnetic field)، وضع ماكسويل عشرين معادلة، باستخدام تعبيرات رياضية معقدة، تُسمى رباعيات، أو "كواتيرنيونات" quaternions، ولكن كيف صارت المعادلات العشرون أربعًا فقط، يُعَبَّر عنها الآن بمصطلحات أكثر بساطةً باستخدام المتجَهات؟ فمن ذا الذي حوَّل نظرية ماكسويل إلى معادلات عملية؟ في كتاب "عبقرية أوليفر هيفيسايد المنسية " The Forgotten Genius of Oliver Heaviside، يقدِّم لنا المهندس الكهربائي بازل ماهون الإجابة.

يوضِّح ماهون أنّ هيفيسايد (الذي عاش من عام 1850 إلى عام 1925) كان شخصًا انعزاليًّا، عَلَّم نفسه بنفسه، وهو مَن اخترع مصطلحاته الرياضية الخاصة. عمل هيفيسايد في نقطة تلاقي مجالات الممارَسة الهندسية، والفيزياء الأكاديمية، والرياضيات التجريدية، كما نشر أوراقًا بحثيةً حَيَّرت جمهور المجالات الثلاثة. وعلى امتداد حياته بأكملها، رفض هيفيسايد الانضمام إلى المجتمع العلمي، لكنْ بحلول العقد الثاني من القرن العشرين، كان المهندسون يطبِّقون نهجه لحل المشكلات المعقدة في مجال الاتصالات. ومن ثم، صارت أفكار هيفيسايد مِن المَحاور الأساسية لمجال الهندسة الكهربائية الحديثة.

وُلد هيفيسايد في كامدن تاون بلندن. ومِثل المخترع الأمريكي توماس إديسون، الذي كان معاصرًا له، أُصيب هيفيسايد بالحمى القرمزية وهو طفل، ونتج عن المرض إصابته بصمم جزئي. سعى والده - الذي كان يعمل في مجال الحفر - جاهدًا للحفاظ على مستوى معيشي يليق بالطبقة الوسطى، في وقت كانت تكنولوجيا الطباعة تتطور فيه بخطى سريعة. لذلك، تحتم على هيفيسايد - رغم أنه كان تلميذًا ممتازًا - أن يترك المدرسة الثانوية البريطانية، ويتجه إلى العمل وهو في سن السادسة عشرة.

شاء القدر أن تتزوج خالة هيفيسايد من تشارلز ويتستون، وهو خبير في الكهرومغناطيسية، وشارك في اختراع نظام ناجح لخدمة التلغراف. جلب ويتستون لابن أخت زوجته وظيفة بشركة التلغراف الدنماركية النرويجية الإنجليزية في عام 1868. وكانت الشركة في تلك الأثناء تمد كبلًا يربط بين بريطانيا والدنمارك، وتعلَّم هيفيسايد عمليًّا التحديات المصاحِبة لعملية إنشاء خط جديد، وتشغيله. أصابت هيفيسايد الحيرة من فكرة أن الكبل المذكور كان يرسل الرسائل في أحد الاتجاهين بصورة أكفأ من الاتجاه الآخر؛ ومن ثم، استخدَم الرياضيات لفَهْم كيف تنتقل الإشارات.

من أجل تكوين نظرية كاملة لخطوط الإرسال، ترك هيفيسايد وظيفته، وانتقل للعيش في بيت عائلة أخيه. وسرعان ما أثبت أنه عن طريق توزيع محاثة الخط بشكل متجانس، صار من الممكن تقليل كل من خفوت الإشارة، وتشوهها. ولجذب الانتباه إلى عمله، تجرأ هيفيسايد وأرسل أحد أعماله المنشورة سابقًا إلى عالِم الفيزياء الرائد ويليام طومسون، الذي أثنى عليه، إلا أن هذا العمل ذاته قد أثار غضب المهندسين من أصحاب النفوذ، مثل ويليام بريس، الذي قام بالتصويت ضد هيفيسايد، وحاول أن يحرمه من عضوية "جمعية مهندسي خدمة التلغراف".

ورغم أن هيفيسايد كان خارج الأوساط المهنية تمامًا، فإنه ثابر ونشر سلسلة من الأوراق البحثية في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر، كان أكثرها في الدورية الحرفية المتخصصة "ذي إليكتريشان" The Electrician، التي كانت تدفع له 40 جنيهًا إسترلينيًّا كل عام. (كما نشر بعض أبحاثه أيضًا في دورية Nature). ورغم هذا الدخل الزهيد، تمكَّن هيفيسايد من إعادة صياغة معادلات ماكسويل، حيث أدخل المتجهات؛ لتمثيل مقدار المجالين الكهربائي والمغناطيسي، واتجاههما. ومن أجل حل المعادلات التفاضلية ذات الصلة بالمتجهات، باستخدام عِلم الجبر، قام أيضًا باستخدام حساب التفاضل والتكامل. ورغم دسامة أوراقه البحثية وتعقيدها، فإنها حظيت بتقدير علماء بارزين، مثل أوليفر لودج، وجورج فيتزجيرالد، وهاينريش هيرتز، الذين تبادلوا جميعًا المراسلات مع هيفيسايد.

وفي أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر، في الوقت الذي كان جولييلمو ماركوني ونيكولا تيسلا يبحثان في تقنية التلغراف اللاسلكي، أصابت المُنَظِّرين الحيرة بشأن انتشار الموجات الراديوية. أما ماكسويل، فمن جهته كان يرى أن الموجات الراديوية هي نفسها الموجات الضوئية، وأنهما تنتقلان في خطوط مستقيمة، إلا أن الموجات الراديوية لم تواصِل طريقها عبر الفضاء، وإنما تتبَّعَت - بدلًا من ذلك، على ما يبدو - انحناء الأرض، ولكنْ لماذا؟ في عام 1902، وضع هيفيسايد نظريته - في التوقيت نفسه الذي وضع فيه المهندس الأمريكي آرثر كينيلي نظريته أيضًا - التي تفيد أن الموجات الراديوية انتشرت حول العالم بسبب أنها ترتد من طبقة من جسيمات الغاز المشحونة في طبقة الغلاف الأيوني، الأيونوسفير. وإذ أكدت التجارب في عشرينيات القرن الماضي على وجود ذلك الجزء الانعكاسي، فهو يُعرف الآن باسم "طبقة كينيلي وهيفيسايد".

حظيت أهمية أعمال هيفيسايد بالتقدير، إلا أنه لم يتلقّ أي مقابل من التطبيقات العملية. وخير مثال على ذلك، شبكة الهاتف الخاصة بمكالمات المسافات البعيدة، التي بَنَتْها شركة الهاتف والتلغراف الأمريكية (AT&T). طلبت الشركة من المهندسين جورج كامبل، ومايكل بيوبِن دراسة أبحاث هيفيسايد عن خطوط الإرسال. وباستخدام أفكار هيفيسايد في مجال الرياضيات، قام المهندسان بتصميم ملفات تحميل حثية؛ ما مكن من إجراء مكالمات هاتفية من نيويورك إلى سان فرانسيسكو بولاية كاليفورنيا بحلول عام 1915. حقق المهندسان ثروة طائلة من وراء براءات الاختراع الخاصة بهما. وعرضت شركة AT&T أن تدفع لهيفيسايد مقابل إسهامه الأول، ولكنه أصر على أن تَنسِب الشركة الفضلَ كله في استخدام ملفات الحث في خطوط الإرسال إليه هو شخصيًّا. وعندما ظهر أن الشركة غير راغبة في القيام بذلك، رفض هيفيسايد أن يأخذ المال.

وفي نهاية الأمر، أقرّ أقران هيفيسايد في المجال العلمي بتقديرهم لإسهامه، وجعلوه زميلًا للجمعية المَلَكية، كما منحه "معهد المهندسين الكهربائيين" وسام فاراداي. ونظرًا إلى أنه كان لا يزال يشعر بالمرارة، بسبب تجربته مع "جمعية مهندسي التلغراف"، اعتزل هيفيسايد كل هذا، وقضى السنوات الأخيرة من حياته في مستوى معيشي متواضع في ديفونشاير، وتوفي في عام 1925.

وقياسًا على أعمال ماهون السابقة، مثل سيرة حياة ماكسويل، التي نُشرت تحت عنوان "الرجل الذي غيَّر كل شيء" The Man Who Changed Everything (وايلي، 2003)، فهو يقدم في هذا الكتاب شرحًا رائعًا لأفكار هيفيسايد، وكيف أسهمت في تعريف مجال الهندسة الكهربائية. وببراعة فائقة قام ماهون من خلال الخطابات والمذكرات بتجميع التفاصيل القليلة المتاحة لدينا عن حياة هيفيسايد الخاصة. تحوَّلت القصة بين يدي ماهون، لتشبه إحدى مسرحيات هنريك إبسن، حيث تصور شخصية محورية غاضبة ومركّبة، تُفْنِي حياتها في إطار علاقات أسرية معقدة. وفي النهاية، سعى ماهون جاهدًا إلى إبراز الجوانب الداخلية لشخصية هيفيسايد. وقد وجدتُ نفسي أتساءل بعد قراءة الكتاب: ما الذي دفع ذلك المهندس البارع إلى السعي وراء تمثيل الكهرباء في إطار رياضي بمثل ذلك الحماس؟ وما الذي دفع عامِل التلغراف الشاب إلى التنقيب في أغوار عالَم النظريات والرياضيات المعقد والمُبهَم، وعزل نفسه عن الناس؟

تدين تكنولوجيا الإلكترونيات اليوم - بكل ما تتضمنه مما يتعلق بالاتصالات العالمية وثروات الشركات - بالكثير لأعمال هيفيسايد البارعة. ويذكِّرنا ماهون بأن مثل تلك العبقرية غالبًا ما تكون نتيجة للعزلة، والتضحية، والمثابرة العنيدة المحضة.

دابليو. برنارد كارلسون أستاذ في الإنسانيات بجامعة فرجينيا، تشارلوتسفيل، ومؤلف كتاب "تيسلا: مؤسِّس عصر الكهرباء" Tesla: Inventor of the Electrical Age.

البريد الإلكتروني:[email protected] ­

اضف تعليق