هذه ليست المقايضة المألوفة والقاسية الوحيدة بين الرفاهية الاقتصادية والصحة الشخصية التي يواجهها العديد من الفقراء. كما أنها مقايضة بين جانبين للصحة: المرض بسبب الفيروس من ناحية، والجوع وسوء التغذية الناتج عن العزلة الاقتصادية وتعطيل الأسواق والمؤسسات، بما في ذلك الحماية الاجتماعية الخاصة، من ناحية أخرى...
بقلم: مارتن رافاليون

واشنطن – بدأت تصل الأزمة الصحية والاقتصادية الضخمة التي أحدثها فيروس كورونا المُستجد في البلدان الغنية إلى العالم النامي بشكل خطير. ومع ذلك، لا ينبغي لنا أن نفترض أن الاستجابات السياسية للدول الغنية لمكافحة الجائحة هي الأفضل بالنسبة للبلدان النامية، أو حتى مُجدية. بل على العكس، يجب أن نتوقع مقايضات أكثر حدة وقيودا أشد صرامة في المناطق الأكثر فقراً.

صحيح أن البقاء في المنازل سيساعد على الأرجح في إبطاء انتشار الفيروس في البلدان النامية، تمامًا كما هو الحال في الدول الغنية. لكن قد يكون التباعد الاجتماعي مكلفاً للغاية، وخاصة بالنسبة للفقراء الذين لديهم مدخرات قليلة ومخزون غذائي منخفض ويعتمدون بشكل كبير على العمل المؤقت (غالبًا بشكل يومي). قد ينجو القليل من الناس من خلال العمل من المنزل.

هذه ليست المقايضة المألوفة والقاسية الوحيدة بين الرفاهية الاقتصادية والصحة الشخصية التي يواجهها العديد من الفقراء. كما أنها مقايضة بين جانبين للصحة: المرض بسبب الفيروس من ناحية، والجوع وسوء التغذية الناتج عن العزلة الاقتصادية وتعطيل الأسواق والمؤسسات، بما في ذلك الحماية الاجتماعية الخاصة، من ناحية أخرى.

في حين هناك أسباب قوية وفوائد معقولة للتباعد الاجتماعي لمكافحة فيروس كوفيد 19 في البلدان النامية، فإن الوضع بالنسبة لعمليات الإغلاق مختلف تمامًا. يُشكل فرض الحجر الصحي تهديدات جديدة، بل يمكن أن يُحول الاستجابة الوبائية إلى مجاعة في بعض المناطق الفقيرة. أنا لا أقول هذا باستخفاف؛ أعتقد أنه تهديد وشيك. تُظهر الأبحاث والخبرة العلمية كيف يمكن أن تنجم المجاعات عن نوع من الانهيار المؤسسي والسوقي المُرتبط بالإغلاق الصارم. شهدنا ذلك مؤخرًا في أعقاب تفشي فيروس إيبولا عام 2014 في سيراليون، حيث سرعان ما أصبحت المجاعة تُشكل تهديداً جديداً.

يمكن أن تَنجُم المجاعة بين الفئات الفقيرة والضعيفة عن أسباب متعددة، كما أوضح أمارتيا سين في كتابه الذي يحمل عنوان "الفقر والمجاعات". واستشهد سين بأمثلة حيث لم يكن هناك انخفاض في إجمالي كمية المواد الغذائية المُتاحة. كانت المشكلة الرئيسية تتمثل في توزيعها بين الناس وعلى مر الزمن. تلعب الأسواق والمؤسسات الأخرى دورًا حاسمًا في هذا المجال. يمكن أن تؤدي عمليات الإغلاق إلى تعطيل إنتاج وتوزيع الغذاء، إلى جانب انهيار دخل الفقراء وارتفاع أسعار المواد الغذائية. نحن نُدرك أن سلاسل الإمداد الغذائية اليوم غير كافية، حتى في البلدان الغنية. وحتى إذا تم تجنب المجاعة، يمكن أن يكون لفترات التغذية السيئة عواقب دائمة، بما في ذلك زيادة التعرض للإصابة بأمراض أخرى.

هناك أسباب إضافية تدعو للقلق من أن دعم الإغلاق لمكافحة انتشار فيروس كوفيد 19 يمكن أن يأتي بنتائج عكسية في البلدان الفقيرة. على المدى القصير، ينتج عن فرض هذه التدابير تدفقات هجرة كبيرة تهدد بانتشار الفيروس بشكل أسرع، خاصة بين السكان الفقراء والضعفاء في المناطق الريفية. ويُثير تطبيق تدابير الاحتواء من قبل الشرطة والجيش المزيد من المخاوف بشأن رفاه الفقراء، الذين سيكونون في الغالب في حاجة ماسة إلى مغادرة منازلهم لتوفير الطعام لأسرهم.

قبل كل شيء، يجب على صناع السياسات إدراك أن عمليات الإغلاق الصارمة في البلدان النامية تفرض أيضًا إغلاق المؤسسات التي تساعد على حماية الفقراء في الأوقات العادية، وبالتالي تمكنهم من تجنب الوقوع في مصائد الفقر الخفية. قد يعاني العديد من الناس من الفقر على المدى الطويل جراء عمليات الإغلاق، والذي قد يكون من الصعب الهروب منه بعد انتهاء التهديد الحالي للفيروس إلى حد كبير. قد يكون تأثير هذه التدابير على الأطفال مقلقاً بشكل خاص.

على المدى القريب، هناك حاجة إلى استجابة حاسمة وجريئة. لتكون فعالة، يجب أن تجمع بين جهود الرعاية الصحية ودعم الاستهلاك.

سيفرض الفيروس تحديات هائلة على الأنظمة الصحية في البلدان النامية، والتي حتى في الظروف العادية غالبًا ما تكون غير كافية بشكل مؤسف، خاصة بالنسبة للمواطنين الأكثر فقرًا. والواقع أن النقص في الإمدادات والمعدات الطبية والعاملين الذي نشهده اليوم في الدول الغنية مألوف بالفعل لدى الأشخاص في البلدان ذات الدخل المنخفض.

ونظرا إلى أنه لا يمكن القيام بالكثير لتعزيز أنظمة الرعاية الصحية على المدى القصير، فإن البلدان النامية بحاجة إلى قناة اتصال مستقلة وموثوقة بشأن الصحة العامة أثناء الوباء. يجب أن تكون الرسائل الإعلامية حول أهمية التباعد الاجتماعي والنظافة واضحة ومتكررة. تُعد الرسائل النصية القصيرة وسيلة واعدة لنشر المعلومات والتعليمات، كما يجب أن تكون المصادر موثوقة.

ومع ذلك، تزعم بعض الحكومات في البلدان النامية أن الوباء تحت السيطرة أو أن التهديد ضئيل. هذه أوهام خطيرة.

تلعب المؤسسات الديمقراطية دورًا حاسمًا في ضمان توفير معلومات عامة ذات مصداقية، وبالتالي المساعدة على تجنب أخطاء السياسة وتمكين الاستجابة السريعة. من هذا المنظور، لا يمكن للأزمة الحالية أن تبرر التحول نحو حكم استبدادي، مما قد يؤدي إلى تفاقم أزمة الصحة العامة.

ستكون هناك حاجة أيضًا إلى دعم الاستهلاك من خلال التحويلات - نقدًا إذا كانت أسواق المواد الغذائية تعمل، وعينًا إذا لم تكن كذلك. من غير المرجح أن تحظى عمليات الإغلاق بدون دعم بتأييد واسع النطاق؛ يمكن أن يكلف فرض هذه التدابير الفقراء ثمناً باهظاً. إن عناصر الصحة والدعم هي عناصر مكملة ويعزز بعضها البعض: يجب أن تكون توصيلات الأغذية مصحوبة بالصابون.

إن البلدان التي استثمرت في الحماية الاجتماعية ستكون في وضع أفضل من تلك التي لم تفعل ذلك. يستغرق إنشاء برامج جديدة لمكافحة الفقر بعض الوقت، لذلك على حكومات البلدان النامية البدء بالتوسع السريع في البرامج الحالية. قد يستلزم ذلك بعض التغييرات المؤقتة مثل إزالة متطلبات العمل وشروط الالتحاق بالمدارس، والتي تتعارض مع الحاجة إلى إبطاء انتشار الفيروس.

من ناحية أخرى، ستؤدي القدرة المحدودة للدولة إلى تفاقم التحديات التي تواجه العديد من البلدان النامية في مكافحة الوباء. بما أن الإدارة العامة أحانا ما تكون أضعف في البلدان الفقيرة، فإن بعض التدابير التي اتخذتها الدول الغنية ببساطة ليست مجدية. يُعد التكيف مع القدرات الإدارية المحلية أمرًا ضروريًا.

وبالمثل، تواجه البلدان الفقيرة قيوداً مالية أكثر قساوة. لذلك، أخلاقيا ينبغي على الدول الغنية تقديم المساعدة نظرا للوضع الاقتصادي القاهر، لاسيما من خلال تخفيف عبء الديون. يمكنها المساعدة الآن أو تكبد تكلفة أكبر بكثير لاحقًا.

* مارتن رافاليون، أستاذ علوم الاقتصاد بجامعة جورجتاون والمدير السابق لقسم البحوث بالبنك الدولي
https://www.project-syndicate.org

...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

اضف تعليق