q
معظم قوات فاغنر، هم في طريقهم للعودة إلى منازلهم أو هم بصدد التوقيع على عقود عمل (ولكن بمزايا أقل) مع الجيش النظامي الروسي. وهذا من شأنه أن يحل المشكلة التي طرحها تمرد بريغوجين أي إنهاء وجود قوة عسكرية روسية في البلاد وفي المناطق الأوكرانية المحتلة، من غير...
بقلم: ماري ديجيفسكي

مسالة رحيل بريغوجين حسمت بمراسم دفنه لكن السؤال يظل عن احتمالية اغتياله وعلى يد من؟

قبل زمن طويل كان النادي الملكي للسيارات RAC قد حذر السائقين في المملكة المتحدة من القيادة على أنغام موسيقى فاغنر "رايد أوف ذي فالكيري" Ride of the Valkyries [للموسيقار الشهير ريتشارد فاغنر]، لأن عمال الإنقاذ في النادي كانوا قد لاحظوا ــ أحياناً أن تلك القطعة الموسيقية كانت لا تزال تصدح من حطام السيارات ــ وكان ذلك قاسماً مشتركاً في حالات حوادث السير التي تعاملوا معها. ولسبب من الأسباب، كان اسم نادي السيارات هذا يقفز إلى الواجهة في تفكيري كلما جاءت نشرات الأخبار على ذكر مجموعة "فاغنر"، خصوصاً في الأسابيع الأخيرة حيث تم تناول أخبار المجموعة بشكل مستمر.

الأمر يتعلق بالقوة المزدوجة للموسيقى، وتسارع وتيرة العزف، وصولاً إلى الشعور بحس المخاطرة والحماسة المطلقة [التي تخلفها تلك المقطوعة]. فالترابط بين الموسيقى واسم مجموعة المرتزقة كان بالتأكيد متعمداً. وقد تمت تسمية مجموعة "فاغنر"، التي توصف رسمياً بأنها مؤسسة عسكرية خاصة، من قبل مؤسسها ديميتري أوتكين Dmitry Utkin، على اسم الحركة الذي كان اختاره لنفسه تيمناً باسم الموسيقار المفضل لديه عندما كان يخدم في صفوف القوات الخاصة الروسية خلال الحروب الشيشانية. يبدو في اختيار الاسم وجهة نظر، وبشكل مضاعف حالياً، لا سيما بعدما قتل كل من أوتكين، ويفغيني بريغوجين، قائد المجموعة ووجهها المعروف، إثر تحطم الطائرة التي كانا على متنها واحتراقها خلال الرحلة القصيرة بين موسكو وسانت بطرسبورغ.

في هذا الوقت من الأسبوع الماضي، كان السؤال لا يزال مطروحاً عما إذا كانا بالفعل قد قضيا في الحادثة، لكن يبدو أن الإجابة عن ذلك السؤال قد تم حسمها، ومن دون أدنى شك معقول. لقد دفن بريغوجين خلال الأيام الماضية، إلى جانب والده، في حفل جنائزي خاص أقيم من دون ضجة في مقبرة تقع على أطراف مدينة سانت بطرسبورغ. السؤال الثاني، والذي يدور حول ما إذا كانا قد اغتيلا، وعلى يد من ــ فالسؤال يبقى موضع نقاش، وربما لن يكون لذلك السؤال إجابة نهائية أبداً، لكن هناك سؤالاً ثالثاً يبقى معلقاً حالياً في الهواء، وقد تتم الإجابة عنه في يوم من الأيام، وهو: هل مجموعة "فاغنر" مصيرها التحطم والاحتراق مثل قادتها، أم أن مجموعة المرتزقة تلك ستعاود النهوض لتقاتل من جديد؟ وإذا تم ذلك، من سيكون المستفيد؟

هناك خاصية يمكن ملاحظتها على مدى الأسبوع الماضي، وتتمثل بالمسافة التي وضعها الرئيس بوتين بينه وبين الحدث. إن الرجلين كانت تربطهما علاقة تاريخية تعود إلى ماضٍ بعيد، وتحديداً إلى حياتهما في السنوات التي تلت مباشرة انهيار الاتحاد السوفياتي، في مدينة سانت بطرسبورغ ــ حيث كان بوتين موظفاً في إدارة المدينة المحلية، وكان بريغوجين يعمل في مجال المأكولات وله خلفيات جنائية سابقة، وميل نحو عالم المال والأعمال والاستثمار.

لكن ما يبقى غامضاً إلى حد كبير، هو ما إذا كانت تربطهما صداقة، كما يعتقد الجميع، أم إنها مجرد علاقة بين زبون وصاحب مؤسسة ــ وبوتين هنا، هو طبعاً صاحب المؤسسة ــ مع مصالح ربطتهما في تلك المرحلة. لم يكن هناك بالتأكيد أي حرارة في إعلان بوتين الرسمي عن تعازيه بموت بريغوجين، حيث أشار إلى بريغوجين بوصفه مستثمراً موهوباً، كان قد قدم "مساهمات معتبرة" للحرب في أوكرانيا، ولكن أيضاً كان "شخصاً لديه خلفية معقدة، وكان قد ارتكب أخطاء مهمة خلال حياته".

وينظر إلى ذلك على أنه حديث بجزء منه مخصص لجريمة عنيفة كان قد ارتكبها بريغوجين في شبابه، والتي عوقب بسببها ودخل السجن لفترة من الزمن، ولكن في الأقل، لقد ارتكب بريغوجين خطأ [جديداً] بالحجم نفسه، وبرأي بوتين، كان ذلك بالتأكيد التمرد المسلح الوجيز الذي قاده بريغوجين في يونيو (حزيران) الماضي. كان بريغوجين قد أصر أن انتفاضته كانت موجهة ضد القيادة العسكرية الروسية والمؤسسة الدفاعية وفشلها كما كان يراه في الحرب في أوكرانيا، وليس ضد بوتين، لكن تلك الانتفاضة جعلت بوتين يبدو وكأنه ضعيف، وكشفت عن الثغرات في جهود الحرب الروسية، إذا لم نقل إنها كشفت عن الثغرات في القيادة السياسية للبلاد، والتي يمكن أن يكون قد تم التغلب عليها أم لا.

كانت مجموعة "فاغنر" قد برزت على مسرح الأحداث بداية، عندما استولت روسيا على شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في عام 2014، وتلا ذلك قيام متمردين في شرق أوكرانيا بالاصطفاف ضد حكومة كييف وطلبوا المساعدة من موسكو. وهكذا، لقد خدم هؤلاء مصالح موسكو بالطريقة نفسها التي كانوا فيها مفيدين لموسكو في مناطق أخرى من العالم.

وهناك أوج شبه هنا يمكن ربطها بالطريقة التي استخدمت فيها الولايات المتحدة الأميركية الشركات الأمنية التجارية مثل شركة "بلاكووتر" Blackwater، في أفغانستان والعراق ــ لزيادة عدد القوات الأميركية النظامية، وكي تتمكن تلك القوات من خرق القوانين المقيدة، وأن تتمكن من القيام بنشاطات كان يجب ألا تكون لها صلة بالدولة، والتي يمكن نفيها. ومن المحتمل أيضاً، أن يكون الرئيس بوتين أو ربما أرفع قادته العسكريين قد تعلموا من الولايات المتحدة كيفية استخدام مثل تلك القوات، كما يمكن أن أوتكين وبريغوجين قد فعلا ذلك أيضاً، وببساطة قاما بنسخ التجربة التي أعتبروا أنها كانت مثالاً ناجحاً.

لطالما كان عمل الشركات الأمنية الخاصة محظوراً على الأراضي الروسية، وللأسباب التي أصبحت جلية للغاية من خلال عصيان بريغوجين المسلح، لكن المؤسسات التي تعتبر شبه حكومية وشبه تجارية، مثل عملاق الطاقة "غازبروم" Gazprom، قد تم السماح لها أخيراً أن تقوم بتأسيس مؤسساتها الأمنية الخاصة. وهذا يمكن أن يكون المصير الذي قد ينتظر مجموعة "فاغنر"، ولكن بشكل مصغر ــ أي إن تتحول [المجموعة] إلى مؤسسة لتوفير الخدمات الأمنية بمعناها التقليدي.

ويبدو أيضاً أن مجموعة "فاغنر" ستواصل تنفيذ عقودها الأمنية التي وقعتها مع حكومات أجنبية، ومن ضمنها حكومة مالي، وحكومة جمهورية أفريقيا الوسطى، على رغم من أن هناك أسئلة مطروحة عن مدى جدوى مثل هذه الترتيبات على المدى البعيد. كان بريغوجين قد قام أخيراً بجولة سريعة على مصالحه الأفريقية، وقواته المنتشرة هناك، قبل وقت قليل من مقتله، فيما يبدو أنها كانت حركة تهدف إلى طمأنة رؤسائه، وتؤشر إلى استمرار نشاطاته، إذا ما أخذنا في الاعتبار الوضع غير المريح الذي نشأ في روسيا، في فترة ما بعد عملية التمرد.

بعد سلسلة الانقلابات التي شهدتها كل من دولة النيجر، واليوم غابون، إن الوضع الأمني في تلك البقعة من العالم، تبدو أقل استقراراً مما كانت عليه حتى قبل ستة أشهر. على رغم أنه ليست هناك أي أدلة إطلاقاً عن علاقة مباشرة روسية في التحريض على الانقلابات، فإن العلم الروسي قد أصبح في تلك الحواضر، رمزاً للقوى المعارضة للوجود الفرنسي والحكم الاستعماري، والذي قد يعني فرصا جديدة بالنسبة لروسيا، أما بشكل مباشر أو من خلال مجموعة "فاغنر"، أو أي مجموعة قد تملأ فراغ ما بعد "فاغنر".

لكن لابد من طرح السؤال، عن حجم المخزون المتوفر لدى روسيا من أجل مغامراتها الأفريقية، إذا أخذنا في الاعتبار الحرب في أوكرانيا، وإلى أي درجة لا تزال مجموعة "فاغنر" مقنعة كقوة ربما، أو من سيخلفها، من دون شبكة علاقات بريغوجين الخاصة ونشاطه. صحيح أن الكرملين كان قد قال أخيراً إنه المصدر والممول الأساسي لمجموعة "فاغنر"، وهو من خلال ذلك كان يحاول إيضاح إلى أي درجة تعتبر الدولة الروسية قريبة من مجموعة "فاغنر" في الواقع، لكنه ليس واضحاً تماماً إلى أية درجة يمكن اعتبار هذا الكلام دقيقا، وإذا ما كان الغرض من أن الكرملين ادعى ذلك بغرض تحجيم بريغوجين، أوإذا ما كان منطقياً قيام الكرملين بهذا الادعاء، عندما كانت الغاية الأساسية لوجود مجموعة "فاغنر" هي إبعاد الكرملين عن أية شبهة لعلاقة له بما تقوم به "فاغنر".

محلياً على الساحة الروسية، ما يبدو أنه كان صفقة عقدها بوتين مع بريغوجين لإنهاء التمرد، والتي توسط رئيس بيلاروس ألكسندر لوكاشينكو من أجل تحقيقها، لم يعد لها أي تأثير، أو ربما فقط القليل منه (إذا كان لها أي تأثير يذكر أساساً). أما عن الترتيبات التي قضت بأن ينقل بريغوجين في الأقل جزءاً من قواته إلى المنفى الفعلي في بيلاروس، فإنها تبدو وكأنها تتلاشى، هذا إذا كانت تلك الترتيبات قد تم تفعيلها من الأساس.

ومن خلال البحث عن بديل مقبول، يبدو أن معظم قوات "فاغنر"، هم في طريقهم للعودة إلى منازلهم أو هم بصدد التوقيع على عقود عمل (ولكن بمزايا أقل) مع الجيش النظامي الروسي. وهذا من شأنه أن يحل المشكلة التي طرحها تمرد بريغوجين ــ أي [إنهاء] وجود قوة عسكرية روسية في البلاد وفي المناطق الأوكرانية المحتلة، من غير أن تكون لأي سبب عملي تحت إمرة القيادة العسكرية الروسية. في ذلك السياق، يمكن احتساب ذلك بأنه انتصار حققه بوتين، ونجاحه في إغلاق الملف، أو في الأقل هو بمثابة تغطية على الشقوق التي أظهرها التمرد المسلح والتي كانت موجودة في الدولة الروسية.

وإذا كان ذلك يعد مدخلاً لإحلال الاستقرار على المدى البعيد فإنه مسألة أخرى. مجموعة "فاغنر" كانت قد ملأت بعض الفراغات بشكل مفيد ــ من خلال رفع مستوى أداء القوات العسكرية الروسية في الجوار الروسي، وفي مد التأثير الروسي إلى بقاع بعيدة، مع توفر ميزة إمكانية نفي المسؤولية الروسية عن تلك القوات، إذا تطلب الأمر ذلك. ويمكننا القول هنا، إن "فاغنر" بقيادة بريغوجين كانت قد أصبحت قوة ضخمة وفعالة إلى درجة، كي تكتفي بمجرد خدمة مصالح الدولة الروسية، من دون تحولها إلى تهديد لها.

من غير المعروف بعد إذا كان تشكيل قوة مصغرة من "فاغنر" تتبع بشكل واضح أوامر الكرملين، أو أن تشكيل عدد من المجموعات الأمنية الخاصة لتحل مكان "فاغنر"، يمكنها أن تكون مفيدة بالدرجة نفسها للرئيس بوتين، أو الدولة الروسية، مثل ما كانت قد وفرته في يوم من الأيام مجموعة "فاغنر"، هو أمر مشكوك فيه، لكن رحلات "فالكيريز" Valkyries، في أيامنا هذه، وكما كان يقودها يفغيني بريغوجين، وكما كان ديمتري أوتكين قد سماها تيمناً بموسيقاره المفضل، يبدو أنها قد وصلت إلى نهاياتها.

© The Independent

اضف تعليق