q
يساعد الاندفاع الصيني في الأعمال الصناعية المستندة إلى قوى السوق، في التمرس بصنع التصاميم، وتحدي الهيمنة الأميركية فيه. وتسود حماسة لدى قيادي الأعمال الصينيين في مجال صنع رقائق التراث بالترافق مع تلقيهم دفع إيجابي من قوى السوق. لا يبقى سوى قليل من الشكوك عن أن الصين منخرطة في إحداث تقدم دراماتيكي...
بقلم: سيهاو هونغ، بيل دريكسل

ثمة ما يتوجب على الولايات المتحدة فعله كي تحتفظ بتقدمها

ليس متوقعاً أن تمضي بسهولة خطة إدارة بايدن في سيطرة الولايات المتحدة على مستقبل الحوسبة، لكن القصد منها واضح بشكل مباشر ويتمثل في وضع استراتيجية تحول دون وصول الصين إلى مجموعة محددة من أشباه الموصلات المتقدمة بالترافق مع رفع مستوى قدرات الرقائق الإلكترونية المصنعة داخل أميركا.

في أغسطس (آب) 2022، وقّع الرئيس جو بايدن "قانون الرقائق والعلوم" CHIPS and Science Act بهدف تعزيز قدرات الولايات المتحدة في الرقائق الإلكترونية المتطورة. بعد شهرين من ذلك، فرض البيت الأبيض مجموعة واسعة من القيود على التصدير وقد صُمّمت بهدف تقييد قدرة الصين في شراء أو تصنيع المعالجات الإلكترونية الأكثر تطوراً. وبالتالي، هدفت الخطوتان كلاهما [قانون الرقائق وقيود التصدير] إلى إعطاء الولايات المتحدة وضعية الأفضلية في الصراع على سرعة الوصول إلى الموقع الأول في الصناعة الأشد تأثيراً في العالم.

على مدار سنوات، وقفت صناعة أشباه الموصلات في القلب من الاقتصاد العالمي، خصوصاً مع الصين بأكثر من أي طرف آخر، إذ فاقت واردات الرقائق الإلكترونية صادرات النفط. تحوز الرقائق الإلكترونية حضوراً شاملاً في كافة الأدوات المستخدمة في الحياة اليومية للبشر، لكن الرقائق الفائقة التطور التي استهدفتها قيود بايدن على التصدير، تتميز بفرادة تأثيرها الذي يفوق النسبة التي تمثلها في مجمل صناعة الرقائق الإلكترونية. إذ يتصل ذلك النوع من الرقائق بأنها محورية في توسيع حدود الحوسبة الخارقة المتقدمة والذكاء الاصطناعي. لو قُدِّر لتلك الرقائق الفائقة التطور أن تصل إلى الصين، لأدى ذلك إلى أدائها دوراً حاسماً في بناء مستقبل كل ما يتعلق بالذكاء الاصطناعي، ولحملت منافع هائلة إلى الاقتصاد الصيني، ونظمها في الأسلحة، ومنظومتها في الرقابة. وبالتالي، انعقد رهان إدارة بايدن على منع وصول الصين كلياً إلى ذلك النوع من الرقائق عبر السيطرة على مسارات إمداداتها، إذ إنها تصدر أساساً من بلدان صديقة للولايات المتحدة، بما يفوق بأشواط هائلة كل الدول الأخرى.

بعد سنة من الإعلان عن تلك القيود، تعمل بكين على عرقلة خطة واشنطن. إذ تُسرِّعْ الحكومة الصينية العمل على المعالجات الإلكترونية الأكثر تطوراً لديها، وتتزايد قدرتها التنافسية في تصنيع الرقائق الإلكترونية الشائعة وهندستها وتصاميمها، ما يهدد بأنها قد تستفيد من اعتماد أميركا على أشباه الموصلات الصينية من الأنواع الموضوعة قيد الاستعمال بالفعل. وإذا أُخِذ رد فعل الصين على القيود الأميركية، يزداد احتمال أن تندفع واشنطن إلى حرب رقائق إلكترونية. وتشمل تلك الحرب جبهتين، أولاهما توسيع القيود على تصدير الرقائق الإلكترونية الفائقة التطور، وتتمحور الثانية حول التعامل مع زيادة قدرات الصين في الاستفادة من صناعة أشباه الموصلات وتصاميم الرقائق الإلكترونية الموجودتين بالفعل [إذ تعتبر متقادمة ويشار إليها بمصطلح "الإرث" Legacy، بمعنى أنها أقل حداثة من الرقائق الفائقة التطور التي تبقى في مختبرات مصانع الشركات الكبرى لفترة قبل نزولها إلى الأسواق].

مشكلة في الحديقة

أفادت إدارة بايدن بأنها تعمل وفق استراتيجية "حديقة أصغر وسياج أعلى" [يشير تعبير الحديقة إلى المجال المباشر للتحرك الأميركي]، بغية حماية التقنيات الحاسمة والمحورية. في أكتوبر 2022، أوضح مستشار "مجلس الأمن القومي"، جايك سوليفان، أن "نقاط الاختناق والتحكم في التقنيات الأساسية، يجب أن تبقى داخل الحديقة، مع الاحتفاظ بسياج مرتفع حولها". ويتطلّب فهم ما يجري في تلك الحديقة الصغيرة ترجمة معنى ما يقصده صُنّاع الرقائق بمصطلح "آلية العُقَدْ" Process node الإلكترونية الذي يشير إلى آليات من نوع خاص في صنع رقائق إلكترونية تتعلق بتحديد عدد الدارات الكهربائية التي يمكن تكثيفها وضغطها في الرقاقة. [تحدد الدارات الكهربائية قدرة الرقاقة في التعامل مع التيارات الكهربائية التي تمر فيها، وبالتالي، المعلومات التي تحملها تلك التيارات. تصاغ تلك البيانات بما يعرف بإسم "اللغة الثنائية" Binary Language لأنها تعتمد على عددين هما الصفر والواحد. ويعني الصفر وقف تدفق التيار، فيما يعني الواحد مروره. وتتكون الدارة الكهربائية من "خريطة" للتيارات الكهربائية في حالتي المرور والانقطاع. واستطراداً، أحياناً يشار إلى الرقاقة الإلكترونية باسم معالج معلومات مُصغّر Microprocessor أو مُعالِج معلومات/ بيانات].

وبصورة إجمالية، كلما صغرت المساحة المخصصة لآلية العُقَدْ الإلكترونية يعني ذلك أن الرقاقة أكثر قوة في الحوسبة الإلكترونية. [يعني ذلك أن عدد الدارات الكهربائية التي تمر في مساحة محددة، تصبح أكبر، وبالتالي، يزداد عدد عمليات التعامل مع البيانات التي تحملها تلك التيارات].

لقد عملت الضوابط التي فرضتها إدارة بايدن على الصادرات قبل سنة، على إغلاق مبيعات المعدات والمواد اللازمة في إنتاج الرقائق التي تقل مساحتها عن 16 نانومتر في آلية العُقَد الإلكترونية، ما يفترض أنه قيّد قدرات الصين في شراء مستلزمات صنع الرقائق أكثر تقدماً من المستوى الذي كانت عليه في عام 2014. وكذلك منعت الضوابط نفسها الصين من شراء الرقائق الإلكترونية الأشد تقدماً التي تستلزمها بصورة مباشرة عمليات الحوسبة الخارقة والذكاء الاصطناعي. وبلغت تلك الضوابط من الشدة إلى حد أن مقالاً في "نيويورك تايمز" وصفها بأنها توازي "إعلان حرب اقتصادية على الصين".

منذ ذلك الوقت، بيّنت الصين أنها على أهبة الاستعداد للاستمرار في البقاء [أي متابعة تطوير الرقائق الإلكترونية] من دون الوصول إلى ما تنتجه الحديقة الأميركية. في أغسطس (آب) الجاري، أثناء زيارة وزيرة التجارة الأميركية جينا رايموندو للصين، أطلقت شركة "هواوي" الصينية التكنولوجية، هاتفاً خليوياً يضم معالج بيانات إلكترونياً متطوراً بشكل غير متوقع [أي غير متناسب مع ما يفترض أنه جرى تقييده عبر ضوابط التصدير التي فرضتها إدارة بايدن]. وتوضيحاً، إن التحسينات التي أدخلت على آلية العقد الإلكترونية في تلك الرقائق المنتجة محلياً [في الصين] والتطور الملحوظ في قدرات التصميم والهندسة فيها، أوحتْ بأن الصين تتقدم على الأرض بأسرع من المتوقع. وفي ما يتعلق بتصميم تلك الرقاقة، اتضح أن شركة "هواوي" قد تقترب من الوقوف على قدم المساواة مع المنافسين العالميين على غرار شركة "كوالكوم" Qualcomm الأميركية التكنولوجية.

ثمة تحفّظات على ذلك الإنجاز، ويبقى متوجباً متابعة مدى قدرة الصين على إنتاج رقائق إلكترونية متقدمة بصورة تنافسية على مستوى الإنتاج الموسع. إذ لم يكن مفاجئاً أن يحتوي هاتف "هواوي" على رقائق تعمل على مستوى 07 نانومتر في آليات العقد الإلكترونية [كل واحدة بمقياس سبعة نانومتر، أي واحد من البليون من المتر]، وهو مستوى يعتمد على قدرات يفترض أن ضوابط التصدير الأميركية حالت دون وصول الصين إليها. ويرجع السبب في غياب المفاجأة عن ذلك الأمر في أن الشركة المتصدرة لصُنّاع الرقائق الإلكترونية في الصين، الشركة العالمية لصناعة أشباه الموصلات Semiconductor Manufacturing International Company، واختصاراً "أس أم آي سي" SMIC، تنتج بالفعل رقائق على ذلك المستوى منذ عام 2022. أكثر من ذلك، من غير المرجح أن تتمكن الصين لبعض الوقت من تطوير آلات الصناعة بالطباعة التجسيمية التي تستخدم أنواعاً عالية الدقة من الأشعة ما فوق البنفسجية، وهي بالتحديد التقنية المتطورة اللازمة لتركيب رقائق إلكترونية تحتوي آليات للعُقَد الإلكترونية تعمل على مستوى خمسة نانومترات (الوضع الأعلى تقنياً في 2020)، أو أقل من ذلك.

على رغم تلك التحفظات، ثمة أمر يبقى ثابتاً مفاده أن الشركات الصينية ستستمر في محاولة تخطي سياج بايدن المرتفع، بطريقة أو أخرى، وبكل وسيلة ممكنة، بهدف التوصل إلى تقليد التقنيات التي يعمل بايدن على إبقائها داخل الولايات المتحدة. وبالتالي، فسيترجم ذلك بالعمل على تسريع ابتكار سلاسل إمداد محلية يدعمها تمويل حكومي، والتفتيش على طرق بديلة في الوصول إلى تلك التقنيات، وشراء تلك التقنيات بصورة غير شرعية. وبالفعل، لقد تبيّن أن شركة "هواوي" تعمل على تسريب خبرات حيوية حاسمة من شركات تايوانية في صناعة الرقائق، عبر شبكات متكتم عليها تربطها مع تلك الشركات المُسجّلة رسميّاً. وخلال السنة الجارية، من المتوقع أن يُصار إلى الإعلان عن الجيل المقبل من آلاتها في الصناعة بالطباعة المجسمة، الذي يستخدم نوعاً من الطباعة المجسمة لا يتأخر إلا بجيل واحد عن الآلات الفائقة التطور لدى الشركة الهولندية "أي أس أم أل" ASML التي تعتبر الرائدة عالمياً في تلك الصناعة. وبالتالي، سيؤدي الإعلان المتوقع عن ذلك الجيل الصيني إلى إظهار أن الصين باتت تقلص من اعتمادها على الأدوات الأجنبية في صناعة الرقائق الإلكترونية. وعلى نحوٍ مماثل، تحرِزْ شركات صينية تقدماً في صناعة أشباه الموصلات الفائقة التطور بالاعتماد على آلات وأدوات محلية، على غرار التقدم الذي حققته شركة "واي أم تي سي" YMTC، الشركة الصينية الأضخم في صناعة رقائق الذاكرة الإلكترونية. ويترتب على ذلك ضرورة توسيع قائمة الأجزاء والأدوات التي يجب أن تطاولها إجراءات الحظر مِنْ قِبَلْ الولايات المتحدة وشركائها، بهدف إبعاد الصين عن بناء قدراتها المحلية. وكذلك ستؤدي إجراءات الحظر على أنواع متزايدة من التقنيات، إلى ظهور صعوبات في الموازنة بين المصالح الاقتصادية والأمنية.

على أرض الواقع، برهنت الصين بالفعل أنها تسعى إلى مركز القيادة العالمية في تكنولوجيا أشباه الموصلات المتقدمة. وفي عامي 2012 و2022، اتخذت بكين خطوات بغية مكافحة الفساد في تمويل صناعة أشباه الموصلات، وعاقبت أفراداً بسبب الكسب غير المشروع والإنفاق التبذيري. ويعتقد مديرون يتولون مسؤوليات فعلية بأن تلك الخطوات اتُّخِذَتْ بدفع من الإحباط بشأن فشلهم في تحقيق الأهداف الاستراتيجية. وفي المقابل، فبدلاً من إيقاف التمويل، أعاد الحزب الشيوعي الصيني تنصيب بعض قادة الأعمال، وتوسّع في "التمويل الكبير" المخصص لـ"صناعة الدارات المتكاملة" [أحد التعبيرات عن الدارات الكهربائية في الرقائق الإلكترونية]. ويتكون "التمويل الكبير" من أموال سائلة ضخمة الحجم تدار بصورة مركزية، تهدف إلى المساعدة في تحقيق الاكتفاء الذاتي للصين في صناعة أشباه الموصلات، عبر رؤية أكثر وضوحاً في التغلب على العوائق التي يفرضها الغرب في تلك الصناعة.

وفي محاولة أولى، جرى رصد تمويل بـ19 بليون دولار، وارتفع إلى 27 بليون دولار في الثانية، ويجري العمل على قدم وساق لمحاولة ثالثة لرفع التمويل إلى 40 بليون دولار، على رغم أن الوضع المتضعضع للاقتصاد الصيني قد يضع عثرات في طريق تحقيق ذلك الطموح. وكذلك أطلقت الصين لجنة جديدة سمّتها "المفوضية المركزية للعلوم والتكنولوجيا" في مارس (آذار) 2023. وتسعى تلك اللجنة إلى تقديم يد المساعدة للشركات الكبرى، على غرار "أس أم آي سي" و"هوا هونغ" و"نورا"، في الوصول المباشر إلى التمويل والبحوث المدعومة من الدولة.

وتوحي تلك الإجراءات بأنه على رغم انخفاض الكفاءة الكبير في المبادرات التي قادتها الدولة، إلا أن بكين باتت تتعلم من التجربة، وتعدّل سياساتها، وتُظهِرْ عزماً متزايداً لتسريع مسار صُنْع الرقائق الإلكترونية.

معركة على جبهتين

الآن، باتت الولايات المتحدة تلاحظ وجود تحديثات متنامية في المساحات الجديدة لصناعة الرقائق الإلكترونية، وقد أُضيفَ ذلك الأمر إلى سعيها للتعامل مع محاولات بكين في الالتحاق بركب التقدم التكنولوجي التي تمثل بحد ذاتها أمراً فائق الصعوبة. إذ يعتبر القادة الصينيون في الصناعة والحكومة أن الصراع مع الولايات المتحدة يشكل حرباً على جبهتين، إذ تشمل السعي إلى امتلاك أشباه الموصلات الفائقة التقدم المستعملة في الهواتف ومختبرات تسريع الذكاء الاصطناعي، إضافة إلى ما يعرف باسم "تراث" الرقائق الإلكترونية التي صُنِّعَتْ باستخدام تقنيات تخطاها الزمان. وعلى عكس حملة تقودها الدولة الصينية في تطوير رقائق إلكترونية فائقة التقدم، فإن سعي بكين إلى التفوق في مجال "تراث" الرقائق الإلكترونية يمتلك أفضلية الاندفاع تحت تأثير قوة أكبر تتمثل في السوق الصينية الاستهلاكية الداخلية العملاقة.

ويشير مصطلح "تراث" إلى إشباه موصلات صُنِعَتْ عبر عمليات قديمة في آليات العُقَد الإلكترونية، ما يعني أنها تحوز كثافة أدنى في الدارات الكهربائية المتكاملة. وفي المقابل، قد يحمل ذلك التصنيف نوعاً من التضليل.

إذ تستعمل رقائق "التراث" الإلكتروني في الأشياء كلها تقريباً، ولا يستثنى من ذلك سوى مُعالجات المعلومات في الكمبيوترات الفائقة التقدم. وكذلك تشكّل رقائق "التراث" الهيكل الأساسي للبنية الإلكترونية التحتية المحورية، ومنظومات الأسلحة والمعدات الصناعية. وتضم تلك الفئة نفسها من الرقائق كل الدارات المتكاملة الأكثر جدة التي تعمل بموجات الميكروويف، وأشباه الموصلات المعقدة، وتعتبر الأشياء الآنفة الذكر بوصفها الأساس الذي تستند إليه تقنيات تمتد من الجيل الخامس لشبكات الاتصالات الخليوية "جي 5" إلى السيارات الكهربائية.

إذا جاء المستقبل على هيئة زمن تهيمن الصين فيه على رقائق "التراث"، فلسوف تحصل الحكومة الصينية على أداة هيمنة ضخمة. وإضافة إلى المنافع الاقتصادية (لنتذكر الأهمية التي حازتها رقائق "التراث" بالنسبة إلى صناعة السيارات أثناء جائحة كوفيد- 19)، سيتاح للصين التحكم في إمدادات مكوّنات في منظومات أساسية على غرار البنية التحتية للطاقة في الولايات المتحدة، وفتح ثغرات تفيد عمليات التجسس. وبالفعل، لقد شرعت هذه الحقيقة في الاتضاح لمجموعة من صُنّاع السياسة الأميركيين والبريطانيين ممن باتوا يدركون أن الصين تستطيع استعمال الرقائق الموجودة في الأدوات الذكية [كالهواتف الخليوية وكاميرات المراقبة وأجهزة التحكم المروري وغيرها] بهدف التجسس على السيارات الذكية ومنظومات الاستجابة للحالات الطارئة والأجهزة الإلكترونية الاستهلاكية الشائعة، أو حتى السيطرة عليها. في العام الماضي، حصدت الشركات الصينية ما يزيد على ثلاثة أرباع السوق العالمية في قطاع رقائق "التراث" التي تدير الاتصالات بين الأجهزة الذكية.

على رغم اهتمام بعض المحللين الأميركيين بتلك الأخطار، إلا أن الطموحات الصينية تخطت الاهتمامات الأميركية لحد الآن. إذ أدى التمويل الحكومي إلى حصول بكين على إمدادات ضخمة من الرقائق مع ما يرافقها من قدرات. وقد عملت "الشركة العالمية لصناعة أشباه الموصلات"، إحدى أضخم المتلقين للتمويل من الدول الصينية، على تسريع إنتاج رقائق "التراث"، ولديها طلبيات ضخمة مسجلة فعلياً. وكذلك حازت مصانعها الجديدة على مزايا متفردة. إذ تنتج رقائق "تراث" مع آليات عُقَدْ مجمعة في حزم مرصوفة على شرائح سيليكون دائرية يبلغ قطر كل منها 12 إنشاً (30.5 سنتيمتراً)، ما يمكنها من استخدام تقنية الصناعة بالطباعة بغية إنتاج رقائق منخفضة التكلفة بالمقارنة مع نظيراتها التي تستخدم شرائح سيليكون بقطر 08 إنشات (20.5 سنتيمتر) الشائعة في الولايات المتحدة. ويضاف إلى ذلك أن تلك المصانع تنتج رقائقها مع استخدام آلات صينية تتزايد نسبة المكونات المصنعة محلياً فيها، وهي أرخص تكلفةً أيضاً.

بات التوسع الصيني في إنتاج أشباه الموصلات في وضعية تتيح له التهديد بإلحاق الضرر بجانب آخر من المنظومة الأميركية في أشباه الموصلات، يتمثل في تصاميم الرقائق وهندستها. لطالما شكل تصميم الرقائق مساحة تتمدد فيها قوة الولايات المتحدة، مع وضعية قيادية مُسلَّمٌ بها لواشنطن إلى حدّ أن "قانون الرقائق" لم يولِ مسألة التصاميم سوى أقل قدر من الاهتمام.

على رغم ذلك، تحوز الصين في ذلك المجال أيضاً أفضلية نسبية متصاعدة. ويرجع ذلك إلى أن الصين تجسد المستهلك الأضخم في أدوات أشباه الموصلات في العالم، وبالتالي باتت شركاتها العاملة في مجال تصاميم الرقائق في وضعية تتيح لها نسج علاقات زبائنية [مع جهات إنتاج التصاميم] تستند إلى ضخامة السوق المحلية. ومع ظهور حالة من عدم اليقين بشأن العقوبات الغربية، انجذب الشُراة الصينيون إلى صُنّاع الرقائق المحليين بدلاً من الاعتماد على شركات ناشئة قد لا تنتظم إمداداتها. وبفضل انخفاض تكاليف العمل والتوسع السريع في تدفق المواهب، صارت الصين على أهبة الاستعداد لسلوك مسار متصاعد لصنع تصاميم عن رقائق إلكترونية متزايدة التطور.

وفعلياً، تستفيد مجموعات كبيرة من الشركات الصينية الناشئة من المواهب الرخيصة التكلفة في هندسة الرقائق، إضافة إلى توسعها في تصنيع رقائق "التراث" للاستفادة منها في وضع مجموعة واسعة من التصاميم عن المُعالجات الإلكترونية والنماذج والمجسات. في خضم تلك العملية، تزحف تلك الشركات نفسها ببطء صوب تملّك القدرة على صنع منتجات أكثر تطوراً بما يمكنها من التنافس مع نظيراتها التي تصنعها الشركات الأميركية. مرّة أخرى، لم يحمل هاتف "هواوي" الذي أطلق في أغسطس الماضي، بشارة جيدة لأميركا. إذ برهن على أن "هواوي" تمكنت من تقليد تصاميم رقائق متطورة على مستوى يوازي تصاميم الشركات الأميركية الرائدة في صناعة الرقائق المتقدمة، على رغم استمرار اعتماد الشركة الصينية على برمجيات غربية وملكيات فكرية غربية أيضاً.

إن هذا المسار من التطور الصناعي الميّال إلى الإكثار من الاعتماد على قوى السوق، يعتبر ملمحاً متمايزاً عن مسار القفزات المفاجئة التي تحاول تحقيقها الشركات الصينية المدعومة من الدولة في قطاع إنتاج الرقائق الأكثر تطوراً. ويتشابه المسار نفسه [الذي سلكته هواوي] مع الصعود الناجح للصين في معدات الاتصالات والألواح الشمسية والسيارات الكهربائية. وعلى غرار ما حدث في تلك القطاعات، قد يساعد الاندفاع الصيني في الأعمال الصناعية المستندة إلى قوى السوق، في التمرس بصنع التصاميم، وبالتالي، تحدي الهيمنة الأميركية فيه. وتسود حماسة لدى قيادي الأعمال الصينيين في مجال صنع رقائق "التراث" بالترافق مع تلقيهم دفع إيجابي من قوى السوق. وبالتالي، لا يبقى سوى قليل من الشكوك عن أن الصين منخرطة في إحداث تقدم دراماتيكي في توسيع حصتها ضمن سوقي تصنيع رقائق "التراث" وصنع التصاميم.

الاحتماء بالسياج

ثمة نقاش عارم بشأن ما يتوجب على الولايات المتحدة فعله إزاء تلك التطورات. وما زال من غير الواضح مدى التأثيرات الكاملة لـ"قانون الرقائق" وضوابط التصدير اللتين وضعتهما إدارة بايدن، ما دفع ببعض المحللين إلى إثارة أسئلة عن فاعلية استراتيجية العقوبات التجارية من أساسها. في المقابل، ثمة ميل مغاير بالكامل، يميل إلى توسيع سياج العقوبات والحظر إلى أبعد من الرقائق الفائقة التطور وصولاً إلى محاولة التعامل مع السيطرة الصينية المتنامية في مجال تصنيع رقائق "التراث". في ذلك المنحى، تبرز التعقيدات الواسعة في سوق رقائق "التراث" وافتقاده إلى نقاط سيطرة واضحة من شأنها أن تجعل المقاربة المستندة إلى إعلاء سياج الحظر، غير مناسبة عملياً. إذ قد تؤدي تلك الخطة إلى تصعيد عدم الثقة في الأسواق العالمية، وخسارة الولايات المتحدة المزيد من تفوقها التكنولوجي على الصين بصورة تدريجية، وتعزيز الحوافز لدى الأطراف الفاعلة الصينية في التقدم لاحتلال مكانة طليعية.

بدلاً من ذلك كله، تتمثل السياسة الأفضل في الإقرار بأن الاحتفاظ بالصدارة في تصنيع الرقائق الفائقة التطور، وصناعة رقائق "التراث" ومجال تصاميم الرقائق؛ تمثل ثلاثة حقول منفصلة يتطلب كل منها مقاربة متمايزة. إذ تملك الولايات المتحدة أسباباً وجيهة لحرمان الصين من الوصول إلى مجموعة محددة من المُعالجات الإلكترونية الفائقة التطور. في المقابل، يجب أن تضمن واشنطن أنها لن تصبح معتمدة على المنتجات الصينية، وتحافظ على استمرارية تنافسيتها في قطاع تصاميم الرقائق.

بالنسبة إلى التقنيات الفائقة التطور، تحتفظ استراتيجية "الحديقة الصغيرة والسياج العالي"، صالحة لفترة مقبلة من الزمن، طالما بقي السياج مصوناً باستمرار. بالتأكيد، أظهر التقدم المُحرَزْ في هاتف "هواوي" [الذي أطلقته في أغسطس الماضي] الأهمية الحاسمة للإبقاء على ضوابط التصدير، بل إنها باتت ضرورية أكثر من أي وقت مضى. ويتوجب على وزارة التجارة الأميركية أن تستمر في فرض رقابة لصيقة على جهود الصين في مجال تصنيع الرقائق الفائقة التقدم، مع تقصي الثغرات ونقاط الالتفاف في نظام العقوبات عليها. وحريٌّ بها أيضاً تشديد الرقابة على جهود الصين في تطوير وسائل الصناعة بالطباعة المجسمة، بما في ذلك تقنية الأشعة العالية الدقة ما فوق البنفسجية والمجسمات المصنوعة بحزم الذرات المشحونة بالكهرباء.

واستكمالاً، تستوجب تلك الرقابة فرض حماية على المكوّنات المتطورة التي تُمِدُّ الولايات المتحدة شركاءها بها. ومع ملاحظة سرعة التأقلم لدى الشركات الصينية، يغدو من الأفضل الشكوى من التشدد في القيود ضمن مجالات معينة، بدل من المخاطرة باعتماد إجراءات غير كافية. وإضافة إلى خنق قدرات الصين في إنتاج الرقائق المتطورة، يتوجب على الولايات المتحدة خفض حاجة الصين إلى صنعها أصلاً. ومن المستطاع تحقيق ذلك عبر تطوير طرق في تقليص استخدام الرقائق المتطورة في التطبيقات الخطيرة للذكاء الاصطناعي على غرار إدخال آليات ضمن الأدوات [التي تستعمل في صناعة الرقائق المتطورة] تحول دون استعمال تلك الرقائق في تحقيق غايات ممنوعة. وبالتالي، سيتيح ذلك للولايات المتحدة بيع رقائق فائقة التقدم إلى الصين لا يمكن للأخيرة استخدامها إلا في استعمالات مشروعة، ما يضمن أيضاً الاحتفاظ بهيمنة الولايات المتحدة على صناعة أشباه الموصلات الفائقة التقدم، بما في ذلك إمداداتها أيضاً.

بالنسبة إلى قطاع صناعة رقائق "التراث"، ثمة حاجة إلى مقاربة مختلفة، إذ يفترض بالولايات المتحدة الاكتفاء بضمان وصول إمداداتها في المجالات الحساسة، من مصادر غير الصين. وبخلاف الصين، ليست الولايات المتحدة بمرغمة على السير وحدها. ويتوجب عليها تنويع سلاسل إمداداتها الآتية من بلدان أكثر وداً حيالها من الصين، على غرار الهند والمكسيك اللتين تتمتعان كلاهما بأفضلية نسبية متزايدة في عمليات الإنتاج والتوضيب. وكذلك يجب على حكومة الولايات المتحدة تخويل صلاحيات إضافة إلى "اللجنة الفيدرالية للاتصالات" كي تغدو قادرة على التدقيق المعمق بالمكونات الأجنبية بحثاً عن "أبواب خلفية" تُمكّن صنّاع تلك المكونات من التجسس [على أميركا]، وكذلك إنشاء مجموعة عمل في "وزارة الأمن الوطني" للولايات المتحدة تتولى تقييم حقول الاعتماد على رقائق "التراث".

أخيراً، في مجال تصاميم الرقائق الإلكترونية، وهو حقل لم يتطرق إليه بشكل عام "قانون الرقائق"، يتوجب على حكومة الولايات المتحدة العمل على تعزيز المنافع التي تتمتع أميركا فيها بأفضلية نسبية. ويظهر مثل على ذلك في "مبادرة تجديد صعود الإلكترونيات" التي تجسّد برنامجاً أطلقته في العام 2018 وكالة "داربا" DARPA، اختصاراً لعبارة "وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة" Defense Advanced Research Projects Agency، التابعة للبنتاغون. ويهدف ذلك البرنامج إلى تجديد الاكتشافات في مجال تصاميم أشباه الموصلات عبر استخدام وسائل مؤتمتة. ويعتبر ذلك مثلاً على الكيفية التي قد تُمكِّنْ الحكومة من الاستثمار في الابتكار الطموح، بما يعطي القطاع الخاص الأميركي وضعية متقدمة على المنافسين.

أبعد من ذلك، تستطيع الشركات الأميركية أن تتعاون مع بعضها البعض بهدف رفع مستوى البرمجيات ومعايير الصناعة في تصاميم الرقائق الإلكترونية الأميركية، إضافة إلى استثمارها معاً في آليات التشغيل المشترك والتشارك في المنصات الرقمية بغية تقوية تأثيرات تلك الشبكة من الشركات، وبالتالي رفع مستوى المنظومة الكاملة لصناعة الرقائق الأميركية. [تعني آليات التشغيل المشترك إمكانية أن تعمل أجهزة الشركات المختلفة بمكونات مشتركة بينها. إذا حصل عطل في جهاز تنتجه إحدى الشركات يكون ممكناً إصلاحه باستعمال مكوّنات تصنعها شركة أخرى متعاونة معها].

واستكمالاً، من شأن ذلك أن يؤدي إلى تقليص المسافة مع التقدم الصيني المتحقق، وضمان أن تحتفظ الولايات المتحدة بقيادتها في تصميم البينة التحتية الرقمية التي سيستند إليها الاقتصاد في المستقبل.

على عكس التضخيم الذي رافق اكتشاف القدرات الجديدة لدى شركة "هواوي"، مع ما رافق ذلك من اهتمام، لم يَعفُ الزمان على مقاربة "حديقة صغيرة وسياج مرتفع" في مواجهة أشباه الموصلات الصينية. في المقابل، إن الاستجابة بمواجهة التحركات الصينية الحديثة، تفرض على الولايات المتحدة إغلاق الثغرات في السياج، مع العمل في الوقت نفسه على ابتكار وسائل جديدة للتفوق على بكين، وبسرعة.

* سيهاو هونغ، باحثة تعمل مع "مارشال سكولار" وتعد أطروحة دكتوراه في الفلسفة بجامعة أكسفورد
** بيل دريكسل، زميل مساعد في "مركز الأمن الأميركي الجديد"
المقال مترجم عن فورين أفيرز سبتمبر (أيلول)/ أكتوبر (تشرين الأول)
https://www.independentarabia.com/

اضف تعليق