q
رغم سوء الوضع في رفح، فإن أكبر مخاوف عزمي الآن هو أن يجبَر هو وأسرته على الخروج من قطاع غزة بشكل كامل. ليس هناك مكان آخر يهربون إليه داخل القطاع. وفي جنوب رفح لا يوجد سوى الحدود مع مصر وصحراء سيناء. وقد أشار بعض السياسيين الإسرائيليين إلى أن هذا...

مع دخول الصراع في قطاع غزة شهره الرابع، يروي الباحث في مجموعة الأزمات عزمي كيشاوي الموجود في قطاع غزة، ويعمل مع الزميلة كلوديا غازيني، صراع أسرته اليومي للنجاة من هذه الحرب المدمرة.

“ما نزال أحياءً“. هذا ما قاله عزمي في رسالة صوتية بعد تحمُّل رعب ليلة أخرى من القصف في قطاع غزة. يقصف الجيش الإسرائيلي قطاع غزة دون هوادة منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، اليوم الذي شنت فيه حماس هجماتها المميتة في جنوب إسرائيل. عزمي وأسرته من بين نحو مليوني فلسطيني أُخرجوا من منازلهم بسبب القصف البري والجوي ليحتشدوا في أجزاء أصغر فأصغر من هذا الشريط الساحلي على البحر المتوسط البالغة مساحته 365 كم2. منذ بدأت الأعمال القتالية، يرسل عزمي رسائل متواترة إلى زملائه في مجموعة الأزمات لإطلاعهم على الوضع على الأرض، فيبدأ الكثير من رسائله بجملة “ما نزال أحياءً“. لكن مع استمرار هذه الحرب الضروس، وتردِّي الأوضاع في هذا الشريط الساحلي أكثر فأكثر، فإن عدداً من رسائله باتت تبدأ بجملة: “كانت هذه أسوأ ليلة على الإطلاق“.

تشكل الرسائل الصوتية عادة الوسيلة الوحيدة التي يوصل عزمي من خلالها ما يكابده إلى العالم الخارجي. قطعت إسرائيل إمدادات الكهرباء عن قطاع غزة قبل شن هجومها، وليس في المولدات العاملة في غزة سوى كمية ضئيلة جداً من الوقود، فيجد الناس صعوبة في شحن هواتفهم المحمولة. إضافة إلى التدمير التدريجي لأبراج تقوية الاتصالات الهاتفية والانقطاع المتكرر للاتصالات، فقد جعل انقطاع الكهرباء الاتصالات الهاتفية المنتظمة في قطاع غزة أكثر صعوبة. في كثير من الأحيان عندما يكون القصف قريباً، يصبح من الخطر أن يغامر عزمي بالخروج إلى الشارع لتأمين اتصال بالإنترنت. حتى أنه في معظم الأحيان يكون مشغولاً بمحاولة العثور على الطعام، أو الماء أو المأوى له ولأسرته إلى درجة تجعل من الصعب عليه التفكير بالتواصل مع أي شخص آخر. لكن من رسائله الصوتية، يمكن تكوين صورة تقريبية لمحنته ولما يحدث من حوله. توفر تسجيلاته هذه لمحة عن كيفية تمكُّن الفلسطينيين في قطاع غزة من البقاء وسط الهجوم الإسرائيلي. حسب رواية عزمي، فإن المسألة في معظم الأحيان مسألة حظ.

حرب لا كالحروب

اسم عزمي الكامل هو عزمي كيشاوي. وهو يعمل باحثاً لدى مجموعة الأزمات في قطاع غزة منذ نحو اثني عشر عاماً. والحرب ليست جديدة عليه، فقد وضع تقارير لمجموعة الأزمات حول الصراعات بين إسرائيل ومقاتلي حماس في القطاع في عام 2012، و2014، و2019 و2021. قبل الانضمام إلى مجموعة الأزمات، شهد الانتفاضتين الأولى والثانية (1987-1993 و2000-2005، على التوالي) والتوغلات العديدة التي قامت بها إسرائيل قبل سحب جنودها ومستوطنيها من قطاع غزة في عام 2005 والعام الذي تلاه. (رغم أن إسرائيل فكت ارتباطها بقطاع غزة في عام 2005، فإنها احتفظت بالسيطرة الكاملة على حدوده، ومجاله الجوي ومياهه الإقليمية، الأمر الذي يجعل الأمم المتحدة تستمر في اعتبار إسرائيل القوة المحتلة في القطاع.) كما نجا عزمي من أول حرب بين إسرائيل وحماس، 2008-2009، بعد نحو عامين من سيطرة الحركة الإسلامية على قطاع غزة. أدت هذه الصراعات مجتمعة إلى مقتل نحو 4,000 فلسطيني في القطاع. دُمر كثير من المباني السكنية والتجارية. لكن حرب اليوم تدور على نطاق مختلف تماماً.

بدأت الحرب في 7 تشرين الأول/أكتوبر، عندما اخترق مقاتلون من حماس وفلسطينيون آخرون الحواجز المحيطة بغزة وهاجموا بلدات إسرائيلية مجاورة، وقتلوا أكثر من 1,100 شخص وأخذوا أكثر من 240 رهينة من الإسرائيليين والأجانب.

استيقظ عزمي في السادسة والنصف صباحاً في 7 تشرين الأول/أكتوبر على صوت رشقة صاروخية أُطلقت من قطاع غزة إلى إسرائيل. قال: “كان عدداً غير معتاد، وأرعبني الصوت.” توقع ذلك الصباح أن حرباً جديدة قادمة. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم، عندما كُشف عن تفاصيل هجوم حماس داخل إسرائيل، كان متأكداً من أن رد الفعل الإسرائيلي سيكون شرساً. استذكر في مطلع كانون الأول/ديسمبر قائلاً: “بدأت أفكر في مدى المشقة التي سنواجهها، وكم سنعاني. لكن لم يفكر أحد بأن الأمر سيكون مرعباً إلى هذه الدرجة“.

منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، رد الجيش الإسرائيلي بأكثر من 29,000 ضربة جوية وصاروخية. كما أطلقت عمليات برية دمرت جزءاً كبيراً من قطاع غزة وقتلت أكثر من 23,000 فلسطيني وجرحت نحو 60,000 آخرين، مع وجود أكثر من 7,000 شخص يُعتقد أنهم ما يزالون مفقودين تحت الركام.

كما فرضت إسرائيل حصاراً على قطاع غزة شمل قطع ليس الكهرباء فحسب، بل المياه أيضاً، وكذلك تقييد إيصال الوقود والغذاء بشدة، وهي الأمور التي تقول وكالات الأمم المتحدة إنها بدأت بالتسبب بمجاعة. لقد استمر مقاتلو حماس في قطاع غزة بإطلاق الصواريخ على جنوب ووسط إسرائيل، وإن بتواتر أقل مع استمرار الحرب. هُجِّر أكثر من 100,000 إسرائيلي من المجتمعات المحيطة بقطاع غزة داخلياً منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر، وجرى إخلاؤهم تحت النار، بعد أن قضى بعضهم أكثر من 24 ساعة مختبئين. كثير من المنازل والبنية التحتية في الجنوب دُمرت أو تضررت.

أجزاء كثيرة من قطاع غزة قد لا تتعافى أبداً. في الأيام القليلة الأولى من الحرب، دمرت الغارات الجوية الإسرائيلية منزل أهل زوجة عزمي في شمال مدينة غزة، قرب الحدود الإسرائيلية. وانتقل جميع أفراد أسرة زوجته وأطفالهم إلى شقة عزمي، وهي شقة مريحة في الطابق العلوي من بناء مرتفع في حي الرمال في مدينة غزة. ومن هناك، كان بوسعه هو وأسرته سماع القصف من حولهم. قال لنا إن ذلك “كان مخيفاً، لكن ما دمت تسمع صوت الضربات كنت تعرف أنك ما تزال حياً“. في إحدى الليالي، اخترقت شظايا غرفة معيشتهم. كما سوَّت الضربات الجوية في الأسبوع الأول أيضاً كوخاً بمساحة 40 م2 كان عزمي قد بناه لأحفاده على قطعة من الأرض مزروعة بأشجار الزيتون والحمضيات. “الآن أصبحت مجرد مساحة من الرمل الأصفر“.

أولئك الذين انتقلوا إلى الجنوب

في 13 تشرين الأول/أكتوبر، بدأ الجيش الإسرائيلي بإبلاغ سكان شمال قطاع غزة البالغ عددهم نحو 1.1 مليون نسمة، والذي يشمل مدينة غزة، بالتوجه إلى جنوب وادي غزة في وسط القطاع، قائلاً إن “ذلك الإخلاء من أجل سلامتكم“. تكهن عزمي أن غزواً برياً كان وشيكاً، ولذلك قرر المغادرة في اليوم نفسه، رغم أن القرار كان صعباً إلى درجة الإيلام. إذ إن له ولأسرته الكثير من الذكريات السعيدة في ذلك المنزل، ومنها حفل زفاف ابنته وتخرج ابنيه من الجامعة. كان ذلك هو المنزل الذي كان يفكر بأنه سيتقاعد فيه يوماً ما. وقال: “معرفتك بأنك تغادر بثيابك فحسب، وتترك كل شيء خلفك، كانت لحظة حزينة بالنسبة لنا“. اكتشف عزمي لاحقاً أن دبابة إسرائيلية كانت قد أطلقت قذائف على واجهة المبنى، فأحدثت فجوات كبيرة تحت شقته تماماً. تعرض المبنى لأضرار إنشائية، الأمر الذي يعني على الأرجح أنه وأسرته لن يتمكنوا من العودة. شقة أخرى يملكها عزمي في مدينة غزة، كان من المفترض أن ينتقل إليها أحد أبنائه بعد زواجه، باتت في حالة مماثلة.

في اليوم الذي غادر فيه عزمي بيته، ملأ سيارته وسيارة زوجته جوجو بالمواد الأساسية. قادا سياراتيهما جنوباً إلى خان يونس مع ابنيهما محمد ويوسف، وكلاهما في العشرينيات من العمر، وابنتهما ماريا، ذات الخمسة عشر عاماً. في خان يونس، ثاني أكبر مدن قطاع غزة، وجدوا ملاذاً في منزل صديق كان أصلاً يستضيف أربع أسر أخرى. نامت جوجو وماريا في الداخل مع نساء الأسرة المضيفة، بينما بات الرجال في أماكن داخل وخارج المنزل. كان الطقس ما يزال دافئاً، ولذلك اختار عزمي ويوسف النوم على الشرفة. وخوفاً من صوت الغارات الجوية، ظل محمد في الداخل مع الضيوف الذكور الآخرين. انضمت ابنة عزمي الكبرى عبير، وزوجها معتصم وطفلاهما عمر وجودي، عامان ونصف وعام ونصف على التوالي، إلى الأسرة في خان يونس. بعد بضعة أيام، انتقل معتصم للسكن مع أقارب له في النصيرات، وهو مخيم للاجئين وسط غزة، وترك عبير وطفليه الرضيعين مع عزمي. ظل أفراد آخرون من عائلة عزمي الممتدة في مدينة غزة، بينما انتقل آخرون إلى أماكن أخرى في القطاع بحثاً عن سلامة نسبية.

أولئك الذين لم يغادروا

يُعدُّ عزمي محظوظاً من العديد من الجوانب. فقد كان لديه وأسرته سيارتان استطاعا استعمالهما لمغادرة حي الرمال قبل أن يصبح الوضع أكثر خطورة من أن يتمكنا من فعل ذلك. لكن مئات آلاف الفلسطينيين ظلوا في الشمال بعد التحذيرات الإسرائيلية بوجوب الإخلاء. كما كان عزمي يتمتع أيضاً بميزة امتلاكه المال نقداً. فهو يتلقى مرتباً من مجموعة الأزمات وتمكن من التوفير. أما 50 بالمئة من مواطني سكان قطاع غزة فكانوا عاطلين عن العمل قبل 7 تشرين الأول/أكتوبر، وهي نسبة ارتفعت منذ ذلك الحين إلى 90 بالمئة، وكان 80 بالمئة منهم يعيشون تحت خط الفقر.

لماذا ظل هذا العدد الكبير من الناس في الشمال بعد أن أبلغتهم إسرائيل بوجوب الانتقال جنوباً؟ ثمة عدة أسباب، كما شرح عزمي، أولها التاريخ. فمعظم سكان قطاع غزة لاجئون (أو أبناء وأحفاد لاجئين) من نكبة عام 1948، عندما هرب نحو 700,000 فلسطيني أو طردوا من أراضيهم على يد المجموعات المسلحة التي أصبحت لاحقاً جيش دولة إسرائيل. وذلك الحدث محفور في ذاكرة أولئك الذين عاشوه وفي الوعي الجمعي للآخرين. قال عزمي: بسبب النكبة، “فإن الناس يكرهون مغادرة بيوتهم وقراهم“.

ثانياً، لم يتخيل أحد أن الحرب ستكون بهذه الوحشية. عندما كان يندلع القتال في الماضي، كان سكان غزة يجدون مأوى لهم في كثير من الأحيان في محيط المستشفيات أو في المدارس والمنشآت الأخرى التي تديرها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين، الأونروا. لكن كثيراً من هذه المنشآت تعرض للقصف في الصراع الحالي، حيث تدَّعي إسرائيل أن حماس تستخدمها. في منتصف كانون الأول/ديسمبر، قال مدير الأونروا، فيليب لازاريني، إن الوكالة كانت قد سجلت “نحو 150 حالة قُصفت فيها منشآتنا مباشرة أو على نحو غير مباشر“.

السبب الثالث الذي منع معظم سكان الشمال من الهرب مباشرة إلى الجنوب هو أن معظمهم لم يكن يمتلك أي مال. قال عزمي: “أحد أصدقاء ابني محمد المقربين لم يغادر، لأنه لا يستطيع دفع تكلفة النقل“. تبلغ المسافة 15 كم، وكانت أجور نقل شخص يحمل الأساسيات فحسب مثل الفرشات تبلغ 700-1,000 شيكل (200-270 دولار) حينذاك. “وكلما طال أمد الحرب، كلما ارتفعت كلفة الانتقال“. عرض محمد أن يدفع تكاليف انتقال صديقه، لكنه رفض. وعلم محمد لاحقاً أن صديقه، محمد الدوس، قُتل في منزله في مدينة غزة في 5 كانون الأول/ديسمبر مع ثلاثة عشر فرداً آخرين من أسرته المباشرة، بمن فيهم أبوه وأمه الكبيرين في السن. كان 50 فرداً آخر من عائلة الدوس الممتدة قد قتلوا في ضربتين جويتين منفصلتين في وقت سابق من الحرب. وقال عزمي: “قُتل خمسة عشر فرداً في واحدة، وخمسة وثلاثون في الأخرى. هناك عدد كبير من الأسر التي أبيدت بأكملها“.

سبب أخير هو أن الناس وجدوا أن الرحلة جنوباً غير آمنة. ففي اليوم الذي غادر فيه عزمي منزله في مدينة غزة، دمر انفجار قافلة سيارات وشاحنات تنقل مدنيين على طريق صلاح الدين الرئيسي الذي يربط المدينة بالجنوب. ويذكر أن الانفجار قتل 70 شخصاً. (أنكرت إسرائيل مسؤوليتها عن ذلك.) قال عزمي إن أخبار تلك الضربة جعلت الناس يخشون من أنهم هم أيضاً يمكن أن يُقتلوا على الطريق. كما أظهرت التقارير أن 45 بالمئة من أكثر من 5,000 وفاة ذُكرت في الأسبوعين الأولين من الحرب وقعت في جنوب قطاع غزة. شرح عزمي: “قال الناس: ’إذا كنا سنموت على أي حال، فالأفضل أن نموت في بيوتنا’“.

رغم ذلك، فإن مئات الآلاف غادروا الشمال مشياً على الأقدام في الأسابيع التالية. وأظهرت مقاطع فيديو عرضت على التلفزيون أشخاصاً يحملون البطانيات، وأمهات يحملن أطفالهن وكبار سن يُدفعون على كراسٍ متحركة. ما أزعج عزمي على نحو خاص وهو يرى هذه المشاهد هو أن الأعلام أو قطع القماش البيضاء التي كان الناس يلوّحون بها لم تكن تضمن لهم الحماية من النيران الإسرائيلية، وشعر بالقلق لما يمكن أن يحدث له ولأسرته إذا أجبروا على الهرب مرة أخرى. يُذكر أن عدة أشخاص قُتلوا وهم يهربون، حتى أولئك الذين كانوا يحملون أعلاماً بيضاء. إحدى جارات عزمي السابقات، وهي شابة تعيش في المبنى الذي يقطنه، روت له محنتها في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر. رغم أن الجنود الإسرائيليين أمروا أسرتها وجيران آخرين بمغادرة المبنى وهم يحملون أعلاماً بيضاء، لكنهم أطلقوا النار عليهم. وقتلت امرأة عجوز أخرى في مجموعتها اسمها هالة خريس كانت تمشي مع حفيدها البالغ من العمر خمسة أعوام.

من خان يونس إلى دير البلح

رغم التطمينات الإسرائيلية بأن الجنوب سيكون أكثر أماناً من الشمال، فإن الضربات الجوية لحقت بأسرة عزمي أينما ذهبت. ففي مرتين، نجا أفراد الأسرة بصعوبة من الموت. كانت المرة الأولى في خان يونس في 21 تشرين الأول/أكتوبر. إذ أصابت غارة جوية إسرائيلية بناءً خالياً بجوارهم، فحولت مكان معيشتهم إلى ركام. دُفن محمد تحت الأنقاض وأصيب إصابات خطرة. لحسن الحظ، فإن الأسرة، بما فيها عزمي، لم يكونوا هناك حينذاك؛ فقد كان عزمي ويوسف في الخارج يشتريان الطعام؛ وكانت ماريا في الطرف الآخر من المنزل؛ وكانت جوجو، وعبير وأطفالهما قد خرجوا للتو من المنزل للقاء معتصم، الذي كان قادماً لزيارتهم من النصيرات.

يتذكر عزمي أن تلك الضربة كانت إحدى أكثر اللحظات رعباً في حياته – حتى ذلك الوقت. ففي البداية، لم يعرف ما كان قد حدث لمحمد. أخرج طاقم الدفاع المدني الذي وصل إلى الموقع ابنه من تحت الركام واندفع به إلى المنشأة الطبية الرئيسية في خان يونس. وجده عزمي هناك يجرى له تصوير رنين مغناطيسي. “عندها فقط أدركت أنه ما يزال حياً“. تعرض محمد لكسر في الجمجمة ورض في الكبد. أوصله الأطباء إلى حالة من الاستقرار، لكن بعد 24 ساعة طلبوا من عزمي نقله إلى المنزل، لأنهم كانوا بحاجة إلى سريره للحالات الأكثر إلحاحاً.

بعد أن دُمر مكان إقامتهم في خان يونس، تعيَّن على عزمي وأسرته الانتقال مرة أخرى. قرروا الذهاب إلى مخيم اللاجئين في دير البلح في وسط قطاع غزة. كان أبناء عمه قد عرضوا استضافته في شقة من غرفتي نوم، حيث كان قريبان لجوجو وأسرتاهما قد وجدوا ملاذاً. انضمت عبير وأطفالها إلى عائلة زوجها في النصيرات. وتوجب على عزمي أن يحمل محمد، الذي لم يكن يستطيع التحرك بمفرده. ويتذكر عزمي الخوف المرعب من أنه قد يتعين عليه أن يترك ابنه ويغادر إذا أُنذروا باحتمال وقوع غارة جوية على مكان إقامتهم الجديد. “لو تعيَّن علينا الإخلاء بسرعة، ما كنا لنتمكن من أخذ محمد معنا، لأننا ما كنا سنستطيع تحريكه“. تمكنوا من البقاء في مكانهم في دير البلح لنحو شهر من الزمن، الأمر الذي سمح لمحمد بالتعافي بما يكفي ليتمكن من المشي. تذكر عزمي أن الشقة كانت “مؤثثة بشكل جيد لكن كان علينا أن ننام في الممر أو في غرفة المعيشة“. توجب عليهم جميعاً أن يستعملوا حماماً واحداً، لكن لم يكن هناك ماء.

حادث ثانٍ كاد يودي بحياة عبير ابنة عزمي وزوجها معتصم وطفليهما في النصيرات في 30 تشرين الأول/أكتوبر. كان الحادث نسخة طبق الأصل لما كان قد حدث قبل أسبوع في خان يونس: ضربة جوية أصابت المنزل المجاور، فهدمت الجدار الخارجي للمنزل الذي كانت عبير وأسرتها يقيمون فيه. مرة أخرى، أنقذتهم الصدفة: كانت عبير وطفليها يجلسون في الطرف الآخر من المنزل، ولذلك كان هناك ثلاثة جدران داخلية تحميهم. في اليوم التالي، ذهب عزمي إلى النصيرات وأحضر ابنته، وصهره وأحفاده إلى دير البلح. أصبحت الشقة ذات غرفتي النوم أكثر ازدحاماً مما كانت أصلاً. في هذه الأثناء، استمر أقارب معتصم في النصيرات في العيش في مسكنهم المتضرر، حيث غطوا الجدران والنوافذ برقائق البلاستيك.

في تلك الأيام، كان ضحايا الغارات الجوية يصلون إلى مستشفيات قطاع غزة في تدفق لا ينقطع. بعد إصابة محمد ببضعة أيام، زار عزمي مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح. كانت سيارات الإسعاف لا تتوقف عن الوصول حاملة الجرحى، والموتى، وفي بعض الأحيان مجرد أشلاء في حقائب بلاستيكية. قال: “كان ذلك مشهداً لا يمكن محوه من الذاكرة“. في ذلك اليوم رأى أطباء، بمن فيهم صهره، يجرون العمليات الجراحية دون تخدير، وفي بعض الأحيان يخيطون جراح الجرحى على الأرض.

تفاقم نقص المواد

في دير البلح، لم تكن الضربات الجوية بالكثافة التي كانت عليها في شمال قطاع غزة أو في خان يونس. كان التحدي الرئيسي الذي يواجه عزمي هناك العثور على الطعام. كان يتعين عليه قيادة سيارته إلى خان يونس لشراء مواد أساسية مثل الباستا، والأرز، ورُب البندورة وحليب البودرة لحفيديه، لكن المحلات بدأت تفرغ من هذه المواد الأساسية في الأسابيع التالية. ارتفع سعر الطحين ارتفاعاً كبيراً. قال عزمي في 17 تشرين الثاني/نوفمبر: “كان سعر كيس الطحين الذي يحتوي 25 كغ، 45 شيكل (12 دولار)؛ أما الآن فأصبح سعره 200 شيكل (55 دولار)“. والملح “الذي كان أرخص شيء على سطح الأرض” وسعره 25 سنت للكيلو غرام، أصبح سعره خمسة دولارات، هذا إذا تمكن المرء من العثور عليه. انقطع السكر بشكل كامل. كانت الخضار الطازجة التي تزرع في قطاع غزة، مثل البندورة والخيار، ما تزال متوفرة، وكذلك الفاصولياء اليابسة.

لكن كان هناك نقص في غاز الطبخ؛ ولذلك، فحتى بالنسبة لأولئك الذين يمتلكون المكوِّنات، كانت الوجبات الساخنة ترفاً. شرح عزمي قائلاً: “كنا نتناول وجبات ساخنة مرة أو مرتين فقط في الأسبوع“. وأضاف أنه في تلك الحالات كانوا “يطبخون بعض المواد الأساسية، الأرز أو المعكرونة، التي لا تستهلك الكثير من الغاز. ... كنا نرشّد استهلاكه، بحيث يبقى ما يكفي لغلي الحليب للأطفال أو للشاي والقهوة فقط“.

كان العثور على الخبز صعباً على نحو خاص. في مطلع تشرين الثاني/نوفمبر، كان يُضطر الناس إلى الوقوف في الطابور لخمس ساعات أمام المخابز القليلة التي ما تزال تعمل لشراء بضعة أرغفة. بعد أسبوعين، وبعد وصول عشرات الآلاف الإضافية من الشمال، بات الانتظار على طوابير الخبز في جنوب قطاع غزة يدوم عشر ساعات. إضافة إلى تدفق المهجَّرين، فإن ما تسبب في نقص الغذاء كان حقيقة أن أعداداً قليلة جداً من شاحنات الإمداد كانت تصل إلى قطاع غزة من مصر. كانت إسرائيل قد أوقفت شحنات الوقود، الأمر الذي كان يعني عدم تمكن المخابز من تشغيل أفرانها؛ ونتيجة لذلك، اضطر معظمها للإغلاق. وكانت إسرائيل قد أغلقت أيضاً معابرها مع قطاع غزة. وكان المعبر الوحيد الذي ما يزال يعمل هو معبر رفح، على الحدود المصرية، لكن كان بضع عشرات من الشاحنات التي تحمل المساعدات الإنسانية فقط يدخل كل يوم. (حالياً، كل من معبر رفح وكرم أبو سالم مع إسرائيل يعملان، لكن لا يدخل أكثر من 200 شاحنة تحمل المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة يومياً.) قبل الحرب، كانت تدخل 500 شاحنة على الأقل يومياً، بينما تضاعفت الاحتياجات عدة مرات منذ ذلك الحين.

كان العثور على الماء صعوبة أخرى واجهها عزمي في خان يونس ودير البلح على حد سواء. لم يكن هناك مياه جارية في أي مكان من قطاع غزة، بالنظر إلى أن إسرائيل كانت قد قطعت التيار الكهربائي، الأمر الذي يعني أن معظم محطات ضخ المياه وتحليتها لم يعد يعمل. وعندما كان يتمكن من العثور على المياه، كان يملأ صفيحتين من المياه المحلاة للطبخ، والغسيل والشرب. في دير البلح تمكن من تأمين ما يسميه السكان المحليون مياهاً “حلوة” (من المياه الجوفية في غزة) من بائع يحمل خزانات بلاستيكية على عربة يجرها حمار. يبلغ ثمن خزان حجمه مترين مكعبين من المياه 100 شيكل (20 دولار)، وهو سعر مرتفع جداً. لكن عملة التبادل الحقيقية، التي كانت تضمن ذهاب صاحب العربة إلى البيت الذي تقيم فيه أسرة عزمي كل بضعة أيام كان البنزين. إذ كان عزمي يتمكن من شراء البنزين من صديق ليبادله بالمزيد من المياه الحلوة. وقال: “نعد أنفسنا محظوظين“.

كما كان عزمي وأسرته يتمكنون من تناول الطعام مرة على الأقل يومياً. كانت الوجبات بسيطة – بعض الخبز مع التونة أو الزعتر، وربما بعض المعكرونة مع رُب البندورة. رغم ذلك، فإنه وأسرته كانوا يأكلون أفضل من معظم الفلسطينيين في قطاع غزة، الذين لا يستطيعون شراء الغذاء بأسعار زمن الحرب. كما كانوا أفضل حالاً بكثير من أولئك الذين ظلوا في الشمال، حيث كان السكان يتعرضون لخطر إطلاق النار إذا خرجوا من منازلهم بحثاً عن الطعام.

العودة من دير البلح إلى خان يونس

بحلول منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، بدأت الغارات الجوية بالتصاعد في دير البلح، وهي منطقة حضرية كانت أهدأ من الأجزاء الأخرى من القطاع حتى ذلك الحين. في 14 تشرين الثاني/نوفمبر، أصابت أربع ضربات جوية مركز مخيم اللاجئين، غير بعيد عن المكان الذي يقيم فيه عزمي وأسرته. ذُكر في ذلك اليوم أن “بضعة أشخاص قُتلوا في كل غارة. وكانت الأخيرة قبل 10 دقائق، وكانت على بعد 200 متر. كانت شقة أقاربهم في “بناء قديم جداً، وكنا نخشى أن ينهار أيضاً“. مرة أخرى، تملَّك عزمي شعور عميق بانعدام الأمان.

وكان انقطاع الاتصالات لمدة تصل إلى 36 ساعة يجعل الأمور أسوأ. قال عزمي في إحدى ليالي تشرين الثاني/نوفمبر إن عدم التمكن من الاتصال عبر الهاتف أو الإنترنت كان “مرعباً جداً، أكثر ترويعاً من القصف نفسه.” “[فدون خطوط هاتف] لا تعرف إذا كان أفراد أسرتك آمنين أو بحاجة للمساعدة“. وإذا كانوا في مثل تلك الحالة، فما من سبيل للاتصال بسيارة إسعاف أو بعمال الدفاع المدني. توفي أحد أبناء عم عزمي في وقت لاحق من ذلك الشهر بعد أن أصيب بقصف في شمال قطاع غزة. لم تتمكن أسرة ابن العم من التواصل مع أحد طلباً للمساعدة. لكن من الممكن أيضاً أنه حتى لو توفرت خطوط الهاتف، كان ابن عمه سيتوفى. فسيارات الإسعاف في الشمال لم يكن بوسعها دخول المناطق المحاصرة لإخلاء الجرحى.

انتهت إقامة عزمي في دير البلح فجأة في 19 تشرين الثاني/نوفمبر. إذ طلب منه صاحب المنزل الذي كان قد لجأ إليه المغادرة لأنه بحاجة للمكان لأقاربه الذين سيصلون من الشمال. أُخذ عزمي على حين غرة. وقال: “غادرنا في الساعة الثامنة صباحاً. كان يوماً بارداً وماطراً. لم يكن لدينا أي فكرة إلى أين سنذهب“. كانت تلك المرة الثالثة التي ينتقلون فيها. ترك عزمي جوجو والأطفال ينتظرون في إحدى سيارتيهما بينما قاد السيارة الأخرى جنوباً للبحث عن مكانٍ يذهبون إليه في رفح أو خان يونس. لكنه لم يعثر على شيء. قال: “كانت لحظة يأس“. وقال: “كان الملاذ الأخير أحد مراكز إيواء الأونروا، لكن تلك المراكز كانت مكتظة أصلاً، وظروف العيش فيها أسوأ بكثير مما كان قد عاشه عزمي في المنازل المشتركة. بل كان على الناس أن يصطفوا في الطابور لساعات من أجل استخدام دورات المياه. وقال إن حالة الأمراض كانت تزداد سوءاً.

في النهاية، حالفه الحظ مرة أخرى؛ إذ وافق أحد أصدقائه في خان يونس على استضافته وأسرته في منزله. كان الجيش الإسرائيلي، الذي ادّعى أن قادة حماس كانوا يختبئون في (أو تحت) خان يونس، يقصف المنطقة باستمرار. قال عزمي: “كنت أعرف أنني أنتقل من منطقة آمنة نسبياً إلى مكان أقل أماناً. لكن كان ذلك أفضل من البقاء في سيارة في منتصف الطريق. كان ذلك مرعباً“.

هدنة لمدة أسبوع

بعد وصول عزمي إلى خان يونس بوقت قصير، دخل وقف لإطلاق النار تم التفاوض عليه بين إسرائيل وحماس لمدة أسبوع حيز التنفيذ. توقف القصف الإسرائيلي ومناورات الجيش في قطاع غزة بشكل كامل، وكذلك توقفت نيران صواريخ حماس، بداية من 24 تشرين الثاني/نوفمبر.

كان وقف إطلاق النار، أو ما سمي بـ “الهدنة الإنسانية المؤقتة” للتأكيد على طبيعتها المؤقتة وهدفها المحدود، نتيجة أسبوعين من وساطة دبلوماسيين مصريين، وقطريين وأميركيين. وخلال الهدنة، كان بوسع سكان قطاع غزة أن يخرجوا بأمان إلى الشوارع. كثيرون، بمن فيهم جوجو، لم يكونوا قد غادروا أماكن لجوئهم منذ أيام. كان اليوم الأول يوم جمعة، بداية عطلة نهاية الأسبوع. ذكر عزمي أن أيام الجمعة تكون عادة هادئة “لكن لأن هذه هدنة من القتال، فإن الشوارع كانت مليئة بالناس“. كان الطقس دافئاً، والسماء صافية. رأى عزمي شرطة السير على الطرقات والمفتشين الحكوميين يتفقدون التلاعب بالأسعار في السوق.

أخذ الأهل أطفالهم ليلعبوا قرب البحر. آخرون زاروا العائلات والأصدقاء الذين وصلوا إلى الجنوب. زار عزمي أقارب له في رفح ودير البلح. وأعيد تشغيل خدمات الهاتف في جميع أنحاء الجنوب أيضاً، وبالتالي فإن أولئك الذين كانوا يفتقرون إلى وسائل نقل بات بإمكانهم الاتصال هاتفياً على الأقل. وتبادل الجميع قصصاً عما مروا به، وسمعوا أخبار العائلات التي تركوها.

قال عزمي إنه صادف أشخاصاً لم يكن قد رآهم منذ 20 عاماً. وقال: “الجميع يأتون ويحتضنوك أو يصافحونك. إنهم سعداء برؤية أشخاص يعرفونهم“. الجميع فقدوا أفراد أسرة وأصدقاء، وبالتالي، “فإن كل من يعرفك يبدأ باعتبارك فرداً جديداً في أسرته أو صديقاً جديداً“.

لكن لم يكن باستطاعة أحد أن يعود إلى الشمال ليروا ما بقي من منازلهم. قال عزمي إن كثيرين أرادوا العودة، لكن الأخبار انتشرت بأن الجيش الإسرائيلي، الذي كان قد أحاط بمدينة غزة، لم يكن يسمح بمرور الناس. العدد القليل من الرجال الذين حاولوا عبور نقطة التفتيش الرئيسية جنوب المدينة تعرضوا لإطلاق النار.

إن الأخبار من شمال قطاع غزة مرعبة. في أواخر تشرين الثاني/نوفمبر، قال عزمي: “لقد دُمر كل مكان نعرفه، كل مكان شهير“. دمرت القوات الإسرائيلية المجلس التشريعي في غزة المتوقف منذ وقت طويل في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر، وبعد السيطرة على قصر العدل، المحكمة الرئيسية في القطاع، فجّروه. ولم توفر قذائف الهاون مراكز التسوق الكبرى مثل ميترو وكارفور. استغل الناس أيام الهدوء هذه لتخزين الغذاء، لكن لم يكن يتوفر منه الكثير في الأسواق، كما قال عزمي. كان طابور الحصول على غاز الطبخ بطول 3 كم، رغم العدد الأكبر من الشاحنات الداخلة عبر رفح خلال وقف إطلاق النار. طبقاً للمعلومات التي تمكن عزمي من التأكد منها، فإن تفسير ذلك كان أن نصف الحمولة كان يذهب إلى الشمال، في حين أن معظم ما تبقى في الجنوب كان مياه الشرب المعبأة. بدأ عزمي بصناعة الخبز على مدفأة تعمل بالغاز.

أما أحوال أولئك الذين اختبؤوا في مراكز إيواء الأمم المتحدة – دون أن يكون لديهم أي مال على الإطلاق – فكانت أوضاعهم أسوأ بكثير. بعض الناس أخبروا عزمي أن كميات الغذاء التي كانوا يحصلون عليها كانت أقل مما كان متوفراً قبل وقف إطلاق النار. أخبره أحدهم: “كانت الأونروا تعطينا وجبة يومياً، لكن خلال الهدنة توقفوا عن إعطائنا حتى تلك الوجبة“. جميع الذين تحدث عزمي إليهم تقريباً قالوا إن وقف إطلاق النار لم يُرِحهم من الجوع. كان هناك عدد أكبر من المتسولين في الشوارع.

كان الجميع يأملون بالطبع أن تنتهي الحرب، بحيث “يستطيعون لملمة حياتهم الممزقة“. لكن لم يمدَّد وقف إطلاق النار، وفي منتصف ليلة 1 كانون الأول/ديسمبر، أرسل عزمي التسجيل الآتي: “بقيت مستيقظاً حتى الخامسة صباحاً على أمل أن أسمع تأكيداً على تجديد وقف إطلاق النار ليوم ثامن، لكن للأسف فإن الشيء الوحيد الذي سمعته كان صوت الطائرات المسيَّرة التي عادت إلى السماء“.

النجاة من أحزمة النار

صباح اليوم الأول من كانون الأول/ديسمبر، سمع عزمي القصف “بوضوح تام” في أجزاء مختلفة من خان يونس، تلاه عويل سيارات الإسعاف. وبعد ظهر ذلك اليوم، أصابت ضربة جوية قطعة أرض فارغة قرب المكان الذي كان هو وأسرته يقيمون فيه. مرة أخرى، كان الحظ وحده الذي أنقذهم. كان معتصم في سيارته على بعد ثلاثين متراً فقط من الضربة، لكنه لم يصب بأذى. تكثفت الضربات الجوية بسرعة بعد ذلك. قال عزمي: “كانت تلك الليلة “ليلة مروعة في خان يونس – انفجارات كبيرة طوال الليل“.

في اليوم التالي أعلن الجيش الإسرائيلي بداية عملياته البرية في خان يونس وحولها. وأصدر بلاغات للسكان بالانتقال إلى رفح أو إلى منطقة تسمى المواصي كان قد صنفها “منطقة آمنة“. درس عزمي خياراته. خشي الذهاب إلى رفح، لأن الغارات الجوية كانت قد قتلت كثيراً من الناس هناك في اليوم السابق. أما بالنسبة للمواصي، فإنها كانت شريطاً ساحلياً من الأراضي الزراعية قرب الحدود المصرية. لم يكن فيها أي ملاجئ، ولا مدارس ولا خدمات. بدلاً من ذلك، انتقل عزمي مع أسرته إلى محيط خان يونس الجنوبي، على أمل أن يكون بعيداً عن المعارك. انضم إلى سبعة أسر أخرى كانت تتقاسم شقة من ثلاث غرف كان قد وضعها صديق عزمي الذي كان قد استضافهم داخل خان يونس تحت تصرفهم. قال عزمي: “إنه صديق جيد. أخذنا مدفأة الغاز واسطوانة الغاز معنا، بحيث نستطيع صنع الخبز هناك“.

لم يكن ذلك خياراً جيداً. فالأيام التالية كانت من أسوأ أيام الحرب، كما قال عزمي. كانت القوات الإسرائيلية قد دخلت خان يونس من الشرق، بينما أطلقت “أحزمة نارية” – وهي عبارة عن تدفق مستمر للضربات الجوية أو الصاروخية على هدف واحد أو سلسلة متقاربة من الأهداف. كانت إسرائيل قد استعملت أحزمة النار هذه على نحو متكرر في الشمال، أما الآن فإن ذلك يحدث فوق رأس عزمي تماماً. استمرت لثلاث ليالٍ متوالية، طوال الليل، وكانت كل ليلة أسوأ من سابقتها، كما قال. في 3 كانون الأول/ديسمبر، أرسل هذه الرسالة فقط: “ما نزال نتنفس“. لكنه كان قد بدأ بالانهيار: “لم يعد لدي خيارات. لقد قتلوا 800 شخص دون تمييز منذ صباح أمس. لم أعد أعرف ماذا أفعل“. يشير هذا الرقم إلى حصيلة القتلى في كل قطاع غزة ذلك اليوم، كما ذكرت السلطات الصحية المحلية. في الليلة التالية، كانت الضربات الجوية قريبة من مكان إقامة الأسرة بحيث لم يكن عزمي متأكداً من أنهم سيستيقظون في الصباح.

في اليوم التالي، قرروا مغادرة خان يونس. وكان الخيار الوحيد المتبقي الذي رآه عزمي في نصب خيمة في رفح، المدينة الواقعة في أقصى الجنوب والتي كانت إسرائيل قد صنفتها “منطقة آمنة“. طلب من يوسف شراء أي مواد يحتاجونها لنصب خيمة. نصب يوسف الخيمة على قطعة صغيرة من الأرض كان قد وجدها على بعد نحو 150 متر من قاعدة للأونروا كانت قد تحولت إلى مأوى مؤقت في المواصي، على أطراف رفح. كان ذلك اليوم الخامس من كانون الأول/ديسمبر، وكان الانتقال الخامس منذ بداية الحرب.

في رفح والمواصي

قبل أن يصبح الموقع أكبر مدينة خيام في الحرب، كان المواصي تعرف بأنها سلة خبز قطاع غزة. عندما استوطن المستوطنون الإسرائيليون المنطقة (تم إخلاؤهم في عام 2005 كجزء من فك ارتباط إسرائيل بقطاع غزة)، زرعوا الخضار العضوية والزهور هناك، على نحو رئيسي للتصدير إلى إسرائيل. بعد رحيل المستوطنين، استمر الفلسطينيون بزراعة الخضار لكن لم يعد بإمكانهم تصديرها بسبب الحصار الذي فرضته إسرائيل بعد سيطرة حماس على إدارة القطاع في عام 2007. كانت خضار المواصي هي ما كان يستهلكه عزمي وأسرته على مدى الأسابيع السابقة. لكن هذه كانت تصبح أكثر ندرة وأعلى سعراً يوماً بعد يوم، مع ارتفاع عدد الغزاويين الواصلين إلى رفح أضعافاً مضاعفة.

استغرق بناء خيمة عزمي ومساحتها 3×6 في المواصي يومين. وتتكون من إطار خشبي وغطاء بلاستيكي. يمكنها تحمُّل المطر الغزير. لكن عزمي وأسرته لم ينتقلوا إليها، لأنهم بعد وصولهم إلى رفح، عرض عليهم بعض معارف معتصم إسكانهم في مستودع يملكونه. قبلت الأسرة بامتنان فرصة وجود سقف فوق رؤوسها. بالمقابل، وضع عزمي خيمته تحت تصرف أسرة كبيرة لجأت إلى خيمة مهلهلة مجاورة. كان ذلك ترتيباً ملائماً للطرفين ضمن لعزمي ألّا يأخذ خيمته آخرون. لكن لاحظ عزمي بأسف أن سقف المستودع لم يكن من الممكن الركون إليه؛ إذ في أول ليلة ماطرة، تسربت المياه منه فأغرقت فرشاتهم بالمياه بشكل كامل مع حلول الصباح.

في هذه الأثناء، لم تعد رفح منطقة آمنة على الإطلاق. بعد انتقال عزمي وأسرته إلى هناك، لم يتعرضوا لعمليات قصف كبيرة. لكن شعورهم بالأمان كان عابراً. عندما استيقظ عزمي في 6 كانون الأول/ديسمبر، اكتشف أن طائرة مسيَّرة بأربع محركات - وهي مركبة جوية مزودة برشاش تُشغَّل عن بعد – كانت قد أطلقت النار على سيارة زوجته في الليل، فتركت ثقب رصاصة كبير في الزجاج الخلفي. لو ضربت مكان إقامة الأسرة بدلاً من السيارة، لكانت الرصاصات قد اخترقت بسهولة السقف المصنوع من الحرير الصخري الذي كان أفراد أسرته ينامون تحته.

في الأيام التالية، تصاعدت الضربات الجوية مرة أخرى. ففي 11 كانون الأول/ديسمبر، سمع عزمي صوت قصف مرتفع، واعتقد أنه كان في الجوار. لكن تبين أن الضربة كانت على بعد ثلاثة كيلومترات وقتلت 21 شخصاً. وفي الليلة التي سبقتها كان هناك ضربة أخرى، “على بعد 200 إلى 300 متر منا“، فقتلت 11 شخصاً وجرحت عشرات آخرين. في 22 كانون/ديسمبر قال: “في إحدى الليالي قصفوا مسجداً في رفح“، مضيفاً أنه علم أن هذه الضربة كانت قد قتلت أكثر من عشرة أشخاص داخل سيارة كانت قد أقلّت مسافرين عند موقف باص في الجهة المقابلة من الشارع. في 10 كانون الثاني/يناير، قتلت ضربة جوية على بناء على بعد ثلاث كتل من ملجئه خمسة عشر شخصاً.

الرحلة القادمة

ما يزال عزمي وأسرته في المستودع حتى الآن، بينما ما تزال الخيمة في المواصي هي الخطة البديلة إذا تعيَّن عليهم الانتقال مرة أخرى. يوجد الآن أكثر من مليون شخص يعيشون في رفح – أربعة أضعاف عدد سكانها قبل الحرب. يقيم الناس مخيماً في أي مكان فارغ يستطيعون إيجاده. وبسبب الاكتظاظ الشديد، فإن الطعام أكثر ندرة مما هو في المدن. والأحوال المعيشية هناك هي “الأسوأ على الإطلاق“.

رغم سوء الوضع في رفح، فإن أكبر مخاوف عزمي الآن هو أن يجبَر هو وأسرته على الخروج من قطاع غزة بشكل كامل. ليس هناك مكان آخر يهربون إليه داخل القطاع. وفي جنوب رفح لا يوجد سوى الحدود مع مصر وصحراء سيناء. وقد أشار بعض السياسيين الإسرائيليين إلى أن هذا بالتحديد هو المكان الذي ينبغي أن يصل الناس إليه في النهاية، وطرحوا فكرة إخراج فلسطينيي قطاع غزة إلى مصر. رسمياً، أنكرت إسرائيل أنها تخطط للقيام بهذا التحرك، وقد تحدث مسؤولوها علناً عن ”هجرة طوعية“، لكن الدبلوماسيين الإسرائيليين حاولوا قياس الدعم الدولي لهذه الخطة. لقد عبرت القاهرة وعواصم عربية أخرى عن معارضة قوية للخطة، وكذلك فعلت واشنطن.

قال عزمي: “إننا نصلّي كي لا يحدث هذا. حياتنا في غزة. كل ما فعلناه في هذه السنوات، كل حياتنا الماضية حتى الآن بشكل أساسي، وتاريخنا، هو في غزة“.

https://www.crisisgroup.org/

اضف تعليق