تولي الولايات المتحدة الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط أهمية كبيرة في حساباتها الستراتيجية كون هذه المنطقة تحتل مكانة بارزة في دائرة المصالح الحيوية الأمريكية التي لا يمكن التفريط بها إلى درجة أن الولايات المتحدة دائما ما تضع قواتها العسكرية على أهبة الاستعداد للتدخل الفوري والمباشر في...

تولي الولايات المتحدة الأمريكية لمنطقة الشرق الأوسط أهمية كبيرة في حساباتها الستراتيجية كون هذه المنطقة تحتل مكانة بارزة في دائرة المصالح الحيوية الأمريكية التي لا يمكن التفريط بها إلى درجة أن الولايات المتحدة دائما ما تضع قواتها العسكرية على أهبة الاستعداد للتدخل الفوري والمباشر في حال تعرض مصالحها في الشرق الأوسط للتهديد.

وتسعى الستراتيجية الأمريكية تجاه الشرق الأوسط إلى تحقيق ثلاثة أهداف رئيسية ثابتة هي: ضمان تدفق الإمدادات النفطية، وضمان أمن إسرائيل، وديمومة نفوذها في المنطقة، وهذه الأهداف لا خلاف عليها بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة، رغم وجود تباين في آليات ووسائل تحقيقها بين رئيس وآخر، وبهذا الصدد مازالت مقولة الرئيس الأمريكي الأسبق ريتشارد نيكسون تشكل قاعدة عمل أساسية لدى صناع القرار الأمريكي، وهي مقولة: "إن الأمريكيين لا يذهبون إلى خارج الولايات المتحدة دفاعا عن الديمقراطية أو الشرعية أو لمحاربة الدكتاتورية، بل نذهب إلى هناك لأننا لن نسمح بأن تمس مصالحنا الحيوية"، وهذه المقولة تعد مبدأً أساسياً لدى زعماء البيت الأبيض سواء كانوا من الجمهوريين أو الديمقراطيين.

والإستراتيجية الأميركية تجاه الشرق الأوسط تستند إلى مرتكزين أساسيين، الأول: يتمثل في انتقاء القرار الأفضل من بين جميع الخيارات والبدائل، والمرتكز الثاني: إعطاء دور مهم في اتخاذ القرار للمؤسسات الأمنية، والاستخباراتية، ومراكز الدراسات والأبحاث، وهذه المؤسسات تعمل انطلاقا من ثوابت هدفها الرئيس هو حماية المصالح الأميركية حتى وأن اختلفت عن مصالح دول المنطقة، أو مصلحة الأنظمة الحاكمة.

ورغم الاتفاق على الأهداف الستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط، لكن المتابع يلاحظ فرقا واضحا في وسائل تحقيقها بين الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فعلى سبيل المثال كانت أدوات تنفيذ الإستراتيجية الأمريكية في عهد باراك أوباما تنطلق من التركيز على إعادة الثقة بالولايات المتحدة من خلال تعزيز العلاقات والمصالح المشتركة مع دول الشرق الوسط مع إيلاء إسرائيل وأمنها أهمية خاصة كونها تمثل قاعدة المصالح الستراتيجية في المنطقة، لذلك وضع أوباما في حساباته الستراتيجية إنهاء التواجد العسكري الأمريكي في الشرق الأوسط واستبداله بترتيبات أمنية وسياسية ضامنة للمصالح الأمريكية في ظل الإدراك الأمريكي بتفوق القوة العسكرية الإسرائيلية، كما سعى أوباما إلى تحسين صورة الولايات المتحدة من خلال السعي إلى إحياء عملية السلام في الشرق الوسط، وكذلك منع الخطاب السياسي الأمريكي من ربط الإرهاب والتطرف بالإسلام، ومن الواضح أن أوباما حاول تغيير اهتمامات الولايات المتحدة الستراتيجية إلى شرق آسيا، لذلك سمحت الولايات المتحدة بتدخل روسي في سوريا بما لا يتناقض مع المصالح الأمريكية مع وجود تنسيق أمريكي روسي وفق مبدأ القيادة من الخلف التي اعتمدها أوباما.

أما إستراتيجية الولايات المتحدة في عهد ترامب فقد اعتمدت أدوات أكثر واقعية من تلك التي اعتمدها أوباما كون ترامب رجل أعمال وينطلق في تعامله مع الأحداث وفق منطق تجاري واضعا في الحسبان تحقيق أكبر ربح للولايات المتحدة من سياساته المثيرة للجدل، وقد انطلق ترامب في سياسته من مبدأ (أمريكا أولا) والذي يستند إلى أفكار تدور حول الدفاع عن الهيمنة الأمريكية ورفض الأقطاب المتعددة.

واتسم ترامب بميله للقوة المادية، على حساب القوة الناعمة، والانفرادية في المواقف على حساب المشاركة الجماعية في قرارات النظام العالمي، وركز الرئيس ترامب بالدرجة الأولى على الدفاع عن المصالح الأمريكية حتى لو كان ذلك يتحتم التضحية بمصالح حلفاء الولايات المتحدة، لذلك نرى ترامب قد لجأ إلى اتخاذ قرارات مثيرة للجدل منها إلغاء الاتفاق النووي مع إيران كونه حسب رأي ترامب ليس لصالح الولايات المتحدة، وقرار ترامب بانسحاب الولايات المتحدة من 14 معاهدة ومنظمة دولية التي يعتقد إنها تفتقد لشروط الهيمنة الأمريكية.

وتسعى الستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط للحفاظ على نظام الدولة من الانهيار خشية من سيطرة الجماعات المتطرفة المسلحة السنّية والشيعية على السواء التي تعدّها الولايات المتحدة أخطر على المصالح الأمريكية من الحكومات غير الموالية لواشنطن ورأينا كيف تراجعت واشنطن عن هدف إسقاط نظام الأسد في سوريا بعد تصاعد قوة الجماعات المتطرفة، ولازالت الولايات المتحدة ترى أن نظام الدولة في الشرق الأوسط مازال مهدداً ويجب دعمه وحمايته من الانهيار عند الحاجة وهذا ما يحصل مع العراق.

أما فيما يتعلق بالتوتر مع إيران فتستند الستراتيجية الأمريكية على أهمية إجبار إيران على عقد اتفاق نووي جديد مستغلةً ضغط العقوبات وتحجيم نفوذ الجماعات المسلحة الموالية لها، وبما يضمن عدم امتلاك إيران لأسلحة نووية وفي نفس الوقت طمئنة حلفاء واشنطن العرب وخصوصاً دول الخليج بشأن الالتزام الأمريكي بحماية أمنهم، وتتبنى الولايات المتحدة موقفا حذراً من التعاون مع إيران في الحرب على داعش لان هذا التعاون قد يحرم واشنطن من دعم سنّي لنزع شرعية تنظيم داعش، في وقت ترى الولايات المتحدة ضرورة هزيمة تنظيم داعش وحرمانه من جاذبيته من خلال استهدافه المستمر بضربات جوية بالتعاون مع قوات برية لحكومات موالية لواشنطن.

وفي سوريا سعت الولايات المتحدة إلى العمل مع شركاء محليين لإيجاد ملاذا آمن داخل سوريا من أجل استعادة مصداقية الولايات المتحدة وإتاحة إمكانية بناء معارضة أكثر تماسكاً يمكنها فعلياً أن تغير ميزان القوى على الأرض، لكن تعقيدات الساحة السورية أربكت المساعي الأمريكية خصوصا بعد تدخّل روسيا القوي الداعم لنظام بشار الأسد، فضلاَ عن الدور الإيراني بجانب حكومة الأسد والتدخل التركي في الحرب السورية الساعي لتحجيم الكُرد ومنع تصاعد دورهم المستقبلي.

أما فيما يتعلق بمصر ترى واشنطن ضرورة تعزيز العلاقات معها باعتبارها حليفا في المنطقة خصوصا أن هذا التحالف مدعوم خليجيا كونه يأتي ضمن الجهود الأمريكية في الحفاظ على نظام الدولة في الشرق الأوسط، وفي لبنان تتمثل الستراتيجية الأمريكية باستغلال تراجع الاقتصاد اللبناني والاستياء الشعبي من الأداء الحكومي من أجل فرض إصلاحات تراها واشنطن ضرورية مقابل دعم سياسي ومالي أمريكي للبنان، وفي مقدمة هذه الإصلاحات حسب الرؤية الأمريكية نزع سلاح الجماعات التي لا تخضع لسلطة الدولة والمقصود هنا حزب الله.

وفي ليبيا يتسم الموقف الأمريكي بالغموض نوعا ما فالسياسة الخارجية الأمريكية غابت عن تفاصيل الأزمة الليبية، وأصبحت تتبع ردود الفعل على التطورات الميدانية، خصوصا بعد تقارب قائد الجيش الليبي المشير حفتر من روسيا والتدخل التركي الداعم لحكومة الوفاق، وفي اليمن تدعم الولايات المتحدة كل الجهود الساعية لتحجيم قوة الحوثيين التي تعتبرها واشنطن موالية لإيران واحد أذرعها في الشرق الأوسط.

وفي نفس الوقت يبدو أن الموقف الأمريكي من حرب اليمن يهدف إلى ضمان عدم التصعيد في الحرب التي ترى واشنطن بأنها حرب بالوكالة بين إيران من جهة والسعودية وحلفائها من جهة أخرى خوفا من امتداد تداعياتها إلى مناطق أخرى في الشرق الأوسط.

ختاما نقول: "إن الولايات المتحدة لا يمكن أن تنسحب من الشرق الأوسط، لأهميته الستراتيجية الكبيرة، وموقعه الحيوي، وثرواته النفطية وأسواقه الواعدة، وممراته المائية المهمة في طرق التجارة العالمية، ورغم طرح البعض تسمية (الانسحاب الإيجابي في خدمة الاقتصاد) كسمة بارزة لإستراتيجية الولايات المتحدة في زمن ترامب إلا أن هذا الانسحاب ليس كليا وإنما هو تكتيك يعتمد على تطورات الأحداث وعدم وجود تهديد حقيقي للمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط".

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2020Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق