الفضاء الذي يتداخل فيه الفعل السياسي لتأطير الممارسة السياسية بواسطة الدعاية لتوجيه الرأي العام وجهة العمومية، بالفعل التواصلي، وهنا تصير العمومية معياراً لكل تفكير يحكم أي فعل إنساني في الزمان والمكان، وكل قضية من قضايا الشأن العام، الفعل التواصلي وما يفرضه من أخلاقيات للمناقشة والتداول من أجل الإجماع أو التنازع...

ما الذي نعنيه بالمجال العام او الفضاء العام؟ هل هو حيّز ماديّ متعيّن، أو فضاء سياسيّ، أم مدينة متخيّلة من المتحاورين في الشؤون العامّة؟ مَن الذي يُشكّل الفضاء العام؟ وما هي سمات هذا المجال؟ ومَن هم الفاعلون فيه؟

اتخذ مفهوم الفضاء العمومي دلالات عديدة ومتنوعة يمكن اجمالها فيما يلي:

- سياسية: أي نمط اجتماع الافراد في المدينة وكيفية تنظيمهم لشؤونهم ولكيفية استعمالهم لمواهبهم الذهنية والجسدية؛

- اجتماعية: لأنه يمثل مسحا لكل البنيات الاجتماعية من جهة مكوناتها ووظائفها وكيفية تفاعل عناصرها؛

- اقتصادية: لأن الفضاء العمومي هو أيضا مجال لتبادل السلع والبضائع وحل مشكلات التوزيع، ويشمل مختلف علاقات الانتاج والاستعمال والتبادل ولطبيعة اشتغالها تحررا أم اغترابا (وهو فضاء المجتمع المدني)

- ثقافية: ويتعلق الأمر هنا بالإنتاجات الرمزية اللغوية والأدبية والفكرية… حيث تتبع هابرماس حركة الصالونات الأدبية ودور البرجوازية كأفراد خصوصيين لعبوا أدوارا هامة في الصراع بين الطبقة الثالثة وبقايا الاقطاعية…

- اتيقية: فالفضاء العمومي يحتاج إلى توجيه الانسان لذاته فكرا وعملا، وهو ما ليس ممكنا إلا بفضل معايير إثيقية معينة سيحددها هابرماس فيما بعد في قواعد أخلاقيات المناقشة، دون أن ننسى حقيقة الفعل الإنساني من جهة منطلقاته وغاياته وأساليب مداولته مع الاخر بخصوص الشأن العام؛

- أنطولوجية: وتتعلق بالمجال الذي يوجد فيه الكائن: تربة الوجود المشترك من أجل العيش المشترك. فوجود الفرد داخل الفضاء العمومي هو وجود الكائن داخل مجال مؤسس على مبادئ ومحكوم بقيم حارسة للإنسانية. والفرد يتمتع في هذا الفضاء بكل حرياته المتاحة والتي تنسجم مع العقل من أجل تنظيم هذا المجال تنظيما محكما يجعله متأرجحا بين المجتمع والدولة.

إن التفكير في الفضاء العمومي هو تفكير في الشرط الإنساني الحديث في أبعاده الاجتماعية والسياسية وتحولاته التاريخية، أي تفكير في:

اندماج الفرد في المجتمع

مشاركة الفرد المواطن في الحياة العامة والسياسية

مساهمة الفرد في تعزيز الديمقراطية (السلطة السياسية)

يعود الفضل في التفكير في العمومية إلى كانط الذي دافع بقوة عن الجرأة في استعمال العقل، تلك الجرأة التي تفترض الشجاعة والاستقلالية والمسؤولية والإرادة، ولكن: أي استعمال ممكن للعقل؟ يميز كانط بين الاستعمال الخاص للعقل والاستعمال العمومي للعقل، وهو التمييز الذي ساهم بشكل كبير في نحت ما سماه هابرماس بالفضاء العمومي، ذلك الفضاء الذي يتداخل فيه الفعل السياسي لتأطير الممارسة السياسية بواسطة الدعاية لتوجيه الرأي العام وجهة العمومية، بالفعل التواصلي، وهنا تصير العمومية معياراً لكل تفكير يحكم أي فعل إنساني في الزمان والمكان، وكل قضية من قضايا الشأن العام: العدالة، الحق، السلطة، القوة، العنف، الواجب، الشرعية، المشروعية، إلخ. ومن جهة أخرى الفعل التواصلي وما يفرضه من أخلاقيات للمناقشة والتداول من أجل الإجماع أو التنازع.

وبهذا المعنى أصبح التفكير في العمومية مشروطاً بالتفكير في الفضاء العمومي الواقعي منه والافتراضي معاً. فمع التحولات السياسية الجارية اليوم في العالم غدا النقاش ملحاً أكثر مما مضى حول مسألة العمومية وعلاقتها بالديمقراطية (سواء في بعدها التمثيلي أو التشاركي أو ما بعد التشاركي كما هو الحال في مساهمة كاستيل مانييل، وعلاقة هذه الأخيرة بالشرعية والمشروعية، وانتهاءً بحضور النقاش الديني في هذا الفضاء العمومي.

يعرف يورغن هابرماس الفضاء العمومي على أنه الحيز المعنوي الذي يتم فيه عقد النقاشات العامة، من أجل اتخاذ القرارات التي تسيّر الشأن العام.

ولويس كيري عرفه بأنه فضاء رمزي يسمح للأفراد بالتموقع والتموضع داخل المجتمع واتجاهه، فالمفهوم يحمل فكرتين الأولى أنه مجال عمومي للتعبير الحر تنظر إليه كفضاء للاتصال، والثانية أن الأفراد بداخله يبرزون آراءهم خلال النقاش العلني، بحيث يلجئون إلى استعمال دلالات عقلانية، في محاولة إيجاد حلول مناسبة للمسائل العامة.

أما مدرسة شيكاغو ممثلة بريشارد سنات فتعتبر الفضاء العمومي هو ذلك المكان الذي نجد الرموز فيه تحت تصرف الأفراد الذين يقومون بترجمتها وتأويلها من أجل بناء علاقات تبادلية بينهم.

فالفضاء العمومي يتشكل ويظهر في جملة من المؤسسات المختلفة التي تعمل من أجل الدفاع والمطالبة بحقوق ورغبات وحاجيات الفئات الاجتماعية المكونة للمجتمع باختلاف دياناتها وطبقاتها، ويحاول أن يحل مشاكلهم ويقدم خدمات للصالح العام، فبواسطته تسير الشؤون العامة للأفراد عن طريق تنوير طرق النظام السياسي في كيفية ومتى ولماذا ولصالح من تتخذ القرارات.

عموما ارتبط مفهوم الفضاء العمومي، ارتباطا وثيقا وحساسا بمفاهيم الديمقراطية، العدالة والسيادة، الحرية، الرأي العام، السلطة الشرعية وغيرها من المفاهيم ذات الأهمية في كيفية استعمالها وتطبيقها ومن يحتكرها، لهذا يقول هابرماس: إنه سلاح في يد الديمقراطية، بالتالي فالفضاء العمومي بمؤسساته وارتباطه بالمفاهيم السابقة يقوم بعمل المراقب والمنظم للعمل السياسي والاجتماعي للدولة في كيفية تسيير الشؤون العامة للأفراد، فيلاحظ، يحلل، ويناقش، يفهم، يقيم مدى قدرة الدولة وفعاليتها في تحقيق المصلحة عامة.

وعليه فإن الفضاء العمومي يتشكل من خلال البرلمان، الأحزاب، الجمعيات، النقابات، الهيئات العالمية، الاتحادات المختلفة، المظاهرات، الاحتجاجات، وسائل الإعلام الجماهيرية، المؤسسات الحكومية كالوزارات، المؤسسات الدينية كالمسجد والكنيسة، المؤسسات الاجتماعية العمومية، الساحات العامة، الأسواق، المقاهي، الحمامات وغيرها.

تندرج إشكالية الفضاء العمومي ضمن إشكال العلاقة بين الدولة والمجتمع المدني، لأن التفكير في الفضاء العام هو تفكير في الممارسة الإنسانية وغاياتها في أبعادها السياسية والتاريخية والاجتماعية، وتفكير في أدوات اندماج الفرد في المجتمع ومشاركته في الحياة الاجتماعية وفي الممارسة السياسية، أي في الديمقراطية كفعل، وما تقتضيه من وسائط تواصلية تحتاج إلى أطر أخلاقية لتحقيق الإجماع والتنازل في الرأي.

لعل المساهمة التي قدمها يورغان هابرماس (**) تعد الأكثر احاطة بهذا الموضوع من خلال اطروحته التي قدمها سنة 1960 والتي تناول فيها ميلاد هذا الفضاء العمومي في انجلترا لدى البرجوازيين من خلال فضاءات عامة كالنوادي والصالونات والمقاهي لمناقشة وتبادل الآراء في الفن والمسرح والأدب وقد حدد "هابرماس" مرتكزات الفضاء العمومي في النقاش العقلي والحجاج والذي يجب أن يكون بعيدا عن التأثيرات الايديولوجية والذي لا يتحقق إلا في المجتمعات الديمقراطية أما غير الديمقراطية فقد تنتهي هذه النقاشات والتفاهمات إلى النزاعات الدموية حسب ما ذهب إليه هابرماس والذي عرفه بـ "بأنه شبكة لنقل المعلومات، ووجهات النظر كما أن تيارات وروافد الاتصال يتم تصفيتها وتركيبها بطريقة تجعلها جميعا تندمج في حزم من الرأي العام المحدد موضعيا"، من جهة حدد " برنار مياج " أن تنظيم هذا الفضاء العمومي يتم من خلال أربعة نماذج متعاقبة تدريجيا بواسطة الصحافة التجارية الجماهيرية، بواسطة صحافة الرأي، ثم الصحافة السمعية البصرية وأخيرا التلفزة التفاعلية.

وفي تعريفه الدقيق للفضاء العمومي يقول هابرماس: “يمكن أن يفهم المجال العمومي البرجوازي، أولاً وقبل كل شيء، باعتباره مجالاً لمجموعة من الناس الخاصين المجتمعين في شكل جمهور. وهؤلاء الناس يطالبون بهذا المجال المقنن والمنظم من طرف السلطة، ولكنهم يطالبون به مباشرة ضد السلطة نفسها، لكي يتمكنوا من مناقشتها حول القواعد العامة للتبادل، وحول ميدان تبادل البضائع والعمل الاجتماعي، وهو ميدان يبقى خاضعاً بشكل أساسي ولكن أهميته أصبحت ذات طبيعة عمومية”.

يرى هابرماس أن الفعل التواصلي يتميز عن غيره من الأفعال الأخرى بأنه لا يسعى للبحث عن الوسائل التي تمكنه من التأثير في الغير، بل يبحث عن كيفية التوصل إلى تفاهم معه لذلك حاول في كل أعماله البحث عن السبل التي تمكن من تحقيق الاندماج الاجتماعي بدل الصراع والتطاحن، والحل هو بناء فضاء عمومي يطرح للنقاش كل القضايا التي تساعد على تحقيق التفاهمات والإجماع بدل الصراع والعنف.

وقد أسس مشروعه التواصلي في مؤلفه نظرية الفعل التواصلي، ليبقي هذا الطرح حاضرا في كل كتاباته الأخرى التي تنطلق لتحديد مفهوم الفعل التواصلي من البحث في المجال الذي يمارس فيه هذا الفعل، ويعتبر الفضاء العمومي وفق تعبير هابرماس مجموعة من الأشخاص يجتمعون من أجل النقاش حول مواضيع تكتسي طابع المصلحة العامة، هو فضاء عمومي وسياسي ديمقراطي مفتوح للجميع، بحيث يضمن مناقشة وحوارا بين مختلف الحساسيات والآراء والأفكار، ويرى هابرماس أن هناك علاقة وطيدة بين الديمقراطية والتواصل والمواطنة، فلا يمكن إنجاح العملية التواصلية إلا في فضاء الديمقراطية، وهو فضاء تتحقق فيه المساواة في حقوق المواطنة بين الجميع، إنه فضاء يسمح بتكوين رأي عام حول القضايا المطروحة في إطار ديمقراطية جماهيرية تسمح للمواطنين بالتعبير عن آرائهم بكل حرية.

يتميز الفضاء العمومي والفعل التواصلي لهابرماس بسمتين أساسيتين هما: أنه فضاء تسود فيه الديمقراطية ومن حق كل مواطن التعبير عن أفكاره بحرية دون إكراه، كما أنه فضاء يتحقق فيه شرط الاستقلالية، حيث يدخله كل متحاور بمعزل عن انتماءاته حتى يستطيع التواصل مع الآخرين.

اهتم هابرماس بالفضاء العمومي بما هو فضاء لقضايا الشأن العام (قضايا التواصل والعالم المعيش)، ففيه يتم الإعلان عن المواطنة ويربّى فيه المواطن (الفرد) عليها ويمارسها كاملة، فلا معنى للفضاء العمومي ما لم يكن مجالاً لممارسة المواطنة وللفعل السياسي الديمقراطي المبني على الحوار وتبادل الآراء وصياغة الرأي العام المضاد للسلطة لبناء قوة مضادة للدولة، فإذا كانت الحركات الاجتماعية الجديدة قوة مضادة في وجه السلطة بمختلف أنواعها، فإنها بذلك تسعى إلى بناء سلطة نقيض بمثابة حارس لقيم الكونية، والمحافظة على كينونة الفرد بما هو كائن اجتماعي وسياسي.

يخترق الفضاء العمومي نوعان من السلطة: السلطة السياسية السائدة والحاكمة، ثم السلطة التي تنبع من الدينامية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أي السلطة غير المعترف بها مؤسساتياً، ولا تمثل في المؤسسات الرسمية، ويقصد بها كل أنواع الحركات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية الكلاسيكية-التقليدية والجديدة.

إذا كانت السلطة السياسية الرسمية تتدخل في الفضاء العمومي بشكل شرعي وقانوني وتنظم المواطنين وتضمن لهم ممارسة حقوقهم السياسية والاجتماعية وكل ما يتعلق بالاستقرار والسلم، فإن السلطة المضادة أو غير الرسمية/ الحكومية تعمل على ممارسة الضغط لتحقيق المزيد من المكتسبات، وهي سلطة تستمد مشروعيتها من طبيعة مطالبها السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ترفعها لضمان انخراط أوسع للمواطنين، وبذلك تكون هذه السلطة أو قوة الضغط هذه ضرورية في حيوية الفعل السياسي وحركية المجتمع وحيويته، ذلك أن السلطة الرسمية التي تستغل كل الموارد وكافة الوسائل والامكانات لضمان رأي عام ينسجم وأهدافها العملية والنظرية، لا تستطيع ضمان الاستمرارية والدوام إلا بوجود هذه المعارضة الخارجية، على الرغم من أن هذه الأخيرة ينبغي أن تبقى من وجهة نظر رسمية محدودة التأثير، وألا تمتدّ قوتها وهيمنتها إلى كل الدينامية المجتمعية لتخلق بذلك تهديدا للسلطة الرسمية.

يشدد هابرماس على أن الدينامية الاجتماعية تخترقها ثلاث وسائط مباشرة توظف بهذا القدر أو ذاك لاضفاء المشروعية على الفعل:

- السلطة كوسيط توظفه الدولة والمجتمع السياسي

- المال كوسيط يستعمله النسق الاقتصادي أو مجال التبادلات الاقتصادية والتجارية والمالية

- الفعل التواصلي كوسيط يستعمله المجتمع المدني الفعال في الفضاء العمومي

ويؤكد هابرماس على أن البعد السياسي للعمومية (الحداثة السياسية) يجد أساسه في واقع الناس اليومي وفي شروطهم التي تستوجب حضور الديمقراطية كمطلب ضروري لعقلنة الفعل السياسي الذي وضعت الأنوار من خلال اهتمامها بالعقل العملي ركائزه من خلال مقاربتها لمسألتين:

- الشرعية أو الممارسة الديمقراطية

- التعاقد الاجتماعي أو السياسي (حقوق الانسان: حرية استعمال العقل العمومي والخاص، الخروج من الوصاية)

وهو الأمر الذي أدى إلى اعتبار الفضاء العمومي فضاءً مضاداً للسلطة السياسية الاستبدادية، يطالب بالحقوق وبصنع القرار وحرية التعبير. فمع الدولة الحديثة فقط تجسد الطلاق بين الفلسفة والدين (اللاهوت)، بين السياسة والأخلاق، من خلال التأكيد أن شؤون البشر هي من اختصاص البشر، أي عبر التعاقد والاتفاق والإجماع.

بخصوص مسألة الديمقراطية يرى هابرماس أنها في حاجة في وقتنا الراهن إلى الفلسفة كفاعل مؤثر في الفضاء العمومي، وكذلك لحسها النقدي، بالرغم من أن الفلسفة والديمقراطية ليس لها نفس الأصل التاريخي. فكل واحد منهما تابع للآخر بنيويا.

فالتأثير العمومي للفكر الفلسفي يتطلب الحماية المؤسساتية لحرية التعبير والتواصل، على عكس هذا، فالنقاش الديمقراطي- المهدد دوما – متوقف على يقظة وتدخل هذا الحارس العمومي للعقلانية والمسمى بالفلسفة".

وفي إطار تأسيس فضاء عمومي ديمقراطي تعمه أخلاقيات الحوار أو المناقشة، يستدعي ذلك الدفاع عن حقوق الإنسان حتى يتمكن من التعبير عن آرائه ويساهم بشكل فعال في تعزيز الحريات العامة والفردية للإنسان في إطار الاحترام المتبادل للخصوصيات الثقافية، ولهذا يعتبر موضوع حقوق الإنسان بالنسبة لهابرماس من المواضيع

التي تحتاج حاليا لتدخل فلسفي. وهابرماس نفسه حاول استثمار الأسس الفلسفية لنظريته التواصلية لمقاربة هذا الموضوع، مقترحا في هذا السياق " التفكير في الوضعية الهرمنوطيقية التي تسمح بالدخول في نقـاش حول موضوع حقوق الإنسان المثار بين مشاركين ينتمون إلى ثقـافات مختلفة، وذلك بهدف الوصول إلى تفاهـم بين مختلف المشاركين عن طريق تبادل الأفكار والاعتـراف المتبادل فيما بينهم، بالرغـم من اختلاف خلفياتهم الثقافية ".

ويمكن لنا ان نتطرق الى مفكر اخر تناول المجال العام من زاوية أخرى واقصد به تشارلز تايلر -الفيلسوف الكنديّ في كتابه المتخيّلات الاجتماعيّة الحديثة حيث يقول:

إنّنا نشعرُ بشيءٍ غريب نوعاً ما عندما نفكّر في "المجال العامّ". ليس لأنّه مفهوم حديث، فقد وُجدت أشكالٌ من المجال العامّ فيما قبل القرن الثامن عشر، حتى لدى اليونان؛ حيث تتناقشُ الطبقةُ المثقّفة حول القضايا التي تشغل "المدينة". بيد أنّ تايلر يعيّن هذا النوع ما قبل الحديث لحدث الالتقاء الذي يجمع الناس باسم "الفضاء العامّ الموضعيّ". فصحيحٌ أنّ النّاس كانوا يجتمعون لأداء شعائر دينيّة معيّنة، وعلى مائدة نقاشات معيّنة، إلّا أنّ اجتماعهم ذلك كان في فضاءٍ "مموضع"؛ أي فضاءٍ لا يرتكز على مجال عامّ لا سياسيّ، بعيد عن الدولة، ومُحايد في بنيته المتعالية. ومن ثمّ، فإنّ "المجال العام" الحديث هو، بتعبير تايلر، "فضاء فوق موضعي"؛ إنّه فضاء ينشأ من شعور سبْقيّ بين المواطنين بتعالي مشتركهم الذي يجمعهم؛ أي إنّ ثمّ شيئاً يسبقُ اجتماعهم على هذا النحو لمناقشة "المشترك العامّ".

من خلال ذلك يمكن الدخول إلى تعريف الكنديّ تشارلز تايلر في كتابه المتخيّلات الاجتماعيّة الحديثة للمجال العامّ؛ حيث يعرّفه على النحو التالي: "المجال العامّ فضاءٌ مشترك، يلتقي فيه أفراد المجتمع عبر جملةٍ من الوسائط وذلك لمناقشة مسائل ذات اهتمامٍ مشترك، والتوصّل من خلال ذلك إلى تشكيل تفكيرٍ مشتركٍ في هذه المسائل. إنّ المجال العامّ سمة مركزيّة في المجتمع الحديث". ولذلك، ومن خلال هذا التعريف، يعني المجال العامّ فرضيّة مسبقة حول ما هو مشترك، ولذلك فهو من "المتخيّلات الحديثة"؛ أي من جملة التخيّلات التي يتصوّر من خلالها المواطنون كونهم مواطنين، كونهم ذواتاً تعيشُ في فضاءٍ سياسيّ ما، وعليها أن تشتركُ في الفضاء السياسيّ الذي يعني أنّهم منتمون له. وفي هذا افتراضٌ مسبق بعقلانيّة مَن يدخلون إلى هذا الفضاء، وبـ"أهليّتهم" في حيازة مضامين مبرّرة على نحو عموميّ.

عرض تشارلز تايلر ثلاث سمات ناظمة لهذا الفضاء (الفوق موضعي):

١- المجال العام كفضاء ما فوق موضعيّ

يعني كون الفضاء العامّ فوق موضعيّ باعتبار أنّه لا يتعلّق فقط بالاجتماع الماديّ/العَينيّ للمواطنين، إنّما يفترضُ المجال العامّ وحدة متخيّلة للمواطنين بوصفهم مهمومين بالإشكالات نفسها. فإذا كانت هناك أشكالٌ ممّا "فوق الموضعيّ" قبل العصر الحديث كالكنيسة وغيرها، إلّا أنّ المجال العام الحديث يختلف عنه بوصفه خارج السياسة، ومصدراً للمشروعيّة من الداخل لا من خارجه.

٢- المجال العام علمانيّ

أمّا السمة الثانية للمجال العامّ فهي كونه علمانيّاً. فحسب فهم تايلر للعلمانيّة كما صاغها في كتابه عصر علمانيّ وفي المتخيّلات الاجتماعيّة الحديثة، فالعلمانيّة هي نوعٌ من فهم الزمن، وهي لا تعني الإلحاد كما يُفهم منها غالباً، لأنّ العلمانيّة لم تلغِ الدين. إنّ العلمانيّة لدى تايلر ستأخذ بُعداً آخر، إنّها هيمنة ما هو مُحايث ويوميّ على ما هو متعالٍ الذي كان سائداً في القديم.

٣- المجال العامّ كمجال خارج السياسة

يوضّح تايلر هذه السمة بقوله: "ينطوي كون المجال العام خارج السياسة على وجهٍ من أوجه جدّته؛ ففيه يجب أن يُنظر إلى أفراد المجتمع السياسيّ جميعاً (أو أفراده الأكفاء المتنوّرين على أقلّ تقدير) باعتبارهم يشكّلون مجتمعاً خارج الدّولة". ومن ثمّ، فهو فضاء بين المجتمع والدولة، بنية وسيطة بين الاثنين.

فالمجال العام، هو "المتخيّل" الذي نفكّر فيه باعتباره ما يجمعنا كمواطنين ذوي قضايا مشتركة، لا بدّ أن تناقش بحريّة، خارج مجال الدولة.

حاول بيير بورديو التمييز بين مفهومين هما المجال الاجتماعي والحقل، وهما مفهومان مترادفان أو بمعنى آخر المجال هو امتداد للحقل. ويشتغل المجال الاجتماعي كنموذج علمي للعالم الاجتماعي، ويندمج بشكل نسقي في نظرية بورديو بكاملها. والمجال الفيزيقي لا ينبغي اعتباره يحيل إلى العلاقات والتمثلات المبنية موضوعيا والموجودة في العالم الاجتماعي. ثانيا، إن المجال الاجتماعي مجال واقعي؛ لأنه اجتماعي كباقي الأشياء الواقعية الآخرى.

إن المجال الاجتماعي واقع اجتماعي يخضع لعملية بناء مزدوجة، أولا من طرف الفاعلين الاجتماعيين أنفسهم الذين يتصارعون من أجل فرض تعريفهم للعالم الاجتماعي؛ وثانيا من طرف الباحث السوسيولوجي الذي يعيد بناء الانتظامات الواقعية للحياة الاجتماعية بأدوات ومفاهيم سوسيولوجية بغية تأويله وتفسيره.

إن الأمر يتعلق هنا بتعريف المجال الاجتماعي من خلال رأس المال تحركه الرغبة في تسليط الضوء على علاقات السلطة بالخصوص، بمعنى أن المجال الاجتماعي ينقسم دوما إلى مناطق مهيمنة وأخرى مهيمن عليها. ويعني ذلك أيضا أن المجال الاجتماعي يمثل في أن واحد مجالا للهيمنة ومجالا لمقاومة الهيمنة. فالمجال الاجتماعي حسب بورديو يشتغل كـ “حقل قوى”.

إن وصف بورديو للمجال الاجتماعي بـ “حقل قوة” يعني أن المجال الاجتماعي مجال سلطة موزعة بطريقة متفاوتة، فلكل فرد ثقل معين من الرأس المال يستعمله لتحسين موقعه، أو للحفاظ عليه. لهذا نجد بورديو يستعمل الصورة الحربية “حقل الصراع” لتوضيح الفاعلين يتصارعون من أجل الحصول على مكان تحت الشمس.

يتقاطع مفهوم المجال، بشكل ضروري مع مفهومي رئيسين هما السلطة والرمز، إذ امتلاك المجال امتلاك السلطة، كما أن امتلاك السلطة امتلاك المجال، وامتلاك الرمز امتلاك السلطة والمجال، وبذلك يصبح الفعل المجالي فعل سلطة وثقافة رغم كون المجال يبدو غالبا محايدا ولا مباليا وهو سلوك مساعد في اقتصاد الطبيعة والسلطة.

وبالتالي، فالمجال الاجتماعي هو شكل من أشكال المجال. إنه المجال الذي يتشكل من العلاقات الاجتماعية. فالمجال الاجتماعي الذي بناه بورديو مجرد بناء فكري، بمعنى أنه واقع لا نراه بالعين المجردة في حياتنا الواقعية الملموسة.

يرى أغلب المهتمين بالمجال، أن ما يميز المجال اليوم هو بعده السياسي وحضوره القوي في ذهن الأفراد. وفي هذا الصدد يمكن استحضار واحدة من أهم المقالات التي حاولت أن تسائل المجال الحضري أو “الأيديولوجيا الحضرية” كما عبر عنها هنري لوفيفر. هذه المقالة المعنونة بـ “الأيديولوجيا واليوتوبيا”. الاستحضار لهذه المقالة، يعني استحضار رؤية هنري لوفيفر، هذا الأخير ينتقد ما أسماه بالأيديولوجيا الحضرية المتمثلة في وضع قوانين سلطوية على الأفراد قصد التحكم فيهم في المجال. بهذه الرؤية، وبهذه العين الثاقبة لعالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر يمكن لنا قراءة المجال قراءة نقدية، وكذا فهم العلاقات الاجتماعية المتأصلة في المجال، هذه العلاقة الاجتماعية التي توجد بين الفاعليين الاجتماعيين والسلطة، هي علاقة مبنية على المقاومة المجالية والسلطة في الوقت نفسه. ولتوضيح الفكرة؛ فقد ركز هنري لوفيفر على تحليل وانتقاد الدولة لوضعها الإنتاج الرأسمالي والأيديولوجي للمجال الحضري، الشيء الذي جعله يسلط الضوء على الجانب السياسي للفضاء الحضري، ويمكن تلخيص ذلك في المقولة التالي: “الفضاء الحضري؛ كإنتاج سياسي وكأداة ممكنة للتغير”.

مع تطور وسائل الاتصال وظهور شبكة الإنترنت، برز على الساحة مجال عام جعل الأفراد يصلون بشكل مباشر لمنتدى عالمي يمكنهم من التعبير الحر، والمناقشة المفتوحة دون وساطة أو اختيار أو رقابة، وأوضح (لينكولن دالبرغ) أن آلاف المحادثات المتنوعة التي تُجرى عبر الإنترنت يومياً، والمتاحة لكل فرد يمكنه الوصول إليها، تُشير إلى توسيع النطاق العالمي للخطاب العقلاني عبر الشبكات المتحررة فيما يعرف بالمجال العام، كما أكد عدة باحثين أن الإنترنت روج لمجال عام جديد سهل عملية التداول، والمناقشات، والتبادل الديمقراطي للأفكار والآراء، ووصفه بأنه فضاء افتراضي يُحسن عملية الديمقراطية، ولا يختلف هذا عما طرحه هابرماس في أن المجال العام هو مجال حياتنا الاجتماعية، ويحدث عندما يدخل الأفراد في تفاعل إنساني عقلاني.

وساهمت الشبكات الاجتماعية وتطبيقاتها كالفيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، في خلق مجال عام سهل تبادل المحتوى الإلكترونى، كما أصبحت وسيلة للتعبير عن الاحتجاجات الطلابية والجماهيرية، كما حدث في بريطانيا عام 2010، إلى جانب الدور الهام الذى لعبته أثناء إندلاع ثورات الربيع العربي، فالنقاشات السياسية التي تُجرى عبر وسائل الإعلام الاجتماعي ركزت على قوة الإحتجاجات الجماهيرية؛ لذا فالشبكات الاجتماعية عملت على دعم المجتمع المدني والمجال العام، حيث أشارت العديد من الدراسات لأهمية الشبكات الاجتماعية في متابعة الأداء الحكومي من قبل الأفراد، والحصول على المعلومات السياسية، وفَهم الواقع السياسي بأبعاده المختلفة، إلى جانب تمكين المواطنين من إتخاذ القرارات بشأن أحد المرشحين أو السياسيين أو القضايا، والمشاركة بفاعلية في المناقشات السياسية.

تُؤكد نظرية المجال العام على أن وسائل الإعلام الإلكترونية وبصفة خاصة شبكة الإنترنت تخلق حالة من الجدل بين الجمهور؛ تُؤثر على الحكومات والجماهير والنخب، ومنذ انتشار الإنترنت والبعض يتحدث عن الديمقراطية الإلكترونية، والمجال العام الإلكتروني، فالديمقراطية الإلكترونية تعنى استخدام وسائل الإتصال التكنولوجية المُتقدمة فى تدعيم العملية الديمقراطية، وأحيانا ما تُستخدم عبارات أُخرى لوصف الديمقراطية الإلكترونية مثل “الديمقراطية الرقمية” أو “التكنوديمقراطية”، وما زالت الديمقراطية الإلكترونية محل بحث ونقاش بين الحكومات والجماعات المدنية حول العالم.

عرّف المجال العام الافتراضي بأنه: “مجال مُشترك مفتوح لجميع الأفراد في المجتمع، يُتيح لكل فرد الوصول إليه للمشاركة والتفاعل مع الآخرين”، ووصف المجال العام الإلكتروني بأنه: “وسيط لفضاء استطرادي جديد يضم الأفراد المستبعدين والمهمشين الذين يقدمون خطابات مفتوحة ويعرضون قضايا سياسية تهيمن عليها أجندة النقاش والحوار، بحيث يتم الحكم على الأفكار طبقاً لجدارتها وليس عبر مكانة الشخص المُتحدث”.

كما عرف المجال العام الافتراضي بأنه: “عملية تفاعلية تتم بين المواطنين خلال المجالات الخطابية عبر استخدام وسائل الإعلام الجديد، ويمكن الاشارة إلى أن هناك نوعين من التفاعل: الأول: يتم من خلال تفاعل المواطنين مع وسائل الإعلام الجديدة عبر العملية التواصُلية، والثاني: يتم من خلال تفاعل المواطنين مع بعضهم البعض، بحيث يمكن أن يشتمل على محادثات بين شخصين أو أكثر، كما أن المجال العام الافتراضي هو مجال مترامي الاطراف، فالطبيعة التفاعلية للإتصال الإلكترونى والبناء اللامركزي للمجال الافتراضي وتزايد إمكانية الوصول إليه؛ دفع العلماء فى العديد من التخصصات للإعلان عن عصر جديد من الإتصال السياسي، وهنا حذر البعض من سيطرة الدولة وأصحاب المصالح الخاصة على المجال العام الافتراضي لأنه سيؤثر بالسلب على الخطاب النقدي والتواصل العقلاني ويحد من تأثيره”.

وقد أدى استخدام مواقع التواصل الإجتماعى (كالفيسبوك، لينكد إن، تويتر، ويوتيوب، فليكر، وانستجرام) فى المناقشات العامة وخاصة فى المجال السياسي، إلى تعزيز الحريات، من خلال حرية الخطاب الذى يقدمه المشاركون عبر هذه الأدوات التي تعمل على طرح جميع الآراء دون قيود، كما مكنت المستخدمين من الحصول على المعلومات بسهولة وفى أقل وقت ممكن، كما مكنتهم أيضاً من تبادل الأفكار ومناقشتها وتكوين ما يُعرف “بالرأي العام الإلكتروني”، وعملت على تعزيز الديمقراطية، إلى جانب صعود الحركات السياسية عبر تجميع ملايين البشر خلالها، كما لعبت دوراً هاماً في إبراز الحركات الناشئة، وتمكين مشاركة المرأة في الحياة العامة والسياسية، ففي العالم العربي كان غالبية قادة الرأي من الذكور، لذا كان من المتوقع عدم مشاركة المرأة في الخطاب السياسي، ومع ذلك فقد ساهمت الشبكات الاجتماعية في توفير فرص متساوية للمرأة للتعبير عن آرائها بحرية، كما عملت على تمكين المدونين ونشطاء الفيسبوك الذين يشاركون فى التفاعلات والأنشطة السياسية والاجتماعية الافتراضية من نشر مبادئهم للعديد من الأفراد، بما يساعد في إمكانية حدوث تغييرات سياسية أو اجتماعية عبر تنسيق الأنشطة المتبادلة وكسب اهتمام المستخدمين الآخرين.

وهنا نجد أن شبكات التواصل الاجتماعي لعبت دوراً محورياً في التعبئة السياسية للمواطنين، ابتداءً من الانتخابات الرئاسية كما حدث أثناء الحملة الانتخابية للرئيس الأمريكي باراك أوباما 2008، مروراً بإحتجاجات الانتخابات الرئاسية الإيرانية عبر تويتر 2009، وثورات الربيع العربي 2011، واحتجاجات الشباب الغير عامل في إسبانيا 2011 الذين اطلقوا على انفسهم اسم اندكنادوس”” أو “المتظاهرون الساخطون”، والتي عُرفت بإسم مظاهرات “حركة 15 مايو”، حيث لعب الإنترنت دورأ كبيراً في هذه الاحتجاجات، وفى هذا الإطار نلاحظ أن شبكات التواصل الاجتماعي خلقت مجالاً عاماً افتراضياً، عمل على ظهور وانتشار الحركات الاحتجاجية والسياسية.

اقترح لينكولن دالبيرغ مجموعة من المعايير لتشكل المجال العام الافتراضي وهى:

– الاستقلال عن الدولة والمصالح الاقتصادية: فالخطاب المقدم عبر المجال العام يجب أن يتبنى اهتمامات المواطنين ومشكلاتهم كبديل لما تُقدمه السلطة الإدارية.

– تبادل النقد على أسس منطقية عقلية: بحيث يتم المشاركة في الخطاب بُناءً على النقد العقلاني المبرر بأدلة إقناعية.

– الانعكاسية: فعلى المشاركين أن يطرحوا رؤيتهم ووجهات نظرهم النقدية لقيمهم الثقافية، والافتراضات والمصالح عن السياق الاجتماعي الأوسع، كما أن الانعكاسية يصعب اكتشافها بسهولة فى تفاعلات الإنترنت لأن ردود الأفعال ووجهات النظر تقدم في شكل مكتوب مما يصعب من حمل الأفكار والآراء إلى الآخرين مقارنة بالتفاعلات وردود الأفعال الواقعية.

– تقمص الدور المثالي: يتمثل هذا الدور المثالي في أن الفرد أو المشارك يضع نفسه مكان الآخرين، من أجل محاولة فهم حجج ووجهة نظر المشاركين الآخرين، وهذا يتطلب إلتزام جميع الأطراف، والاستماع لبعضهم البعض لاستمرار المناقشات فيما بينهم.

– الإخلاص: فعلى المشاركين أن يبذلوا جهداً صادقاً لنقل المعلومات الصحيحة، ويعلنوا عن على نواياهم واهتماماتهم واحتياجاتهم و ورغباتهم فيما يتعلق بمشكلة تكون بعين الاعتبار.

– المساواة الاستطرادية والإدراج: إن الإدراج في المحادثات عبر الإنترنت مرتبط بالتباينات الاجتماعية والاختلافات الثقافية خارج الإنترنت، فعلى الرغم من هذا الاختلاف، إلا أن الأفراد متساوون من حيث فرص التفاعل، لأن الفيصل فى المجتمع الافتراضي هو قوة افتراضية وليست القوة الواقعية، حيث يكون لكل شخص فرص متكافئة فى التعبير عن اتجاهاته ورغباته أياً كانت.

ويمكن الوقوف في هذا الطرح على البنية أو المستويات التي تتشكل خلالها المشاركة الافتراضية على النحو التالي:

– المعرفة: إذا كانت المعرفة تمثل أساسا للمشاركة في تفاعلات السياقات الواقعية، فهى ضرورة أيضا للمشاركة عبر الإنترنت، وخاصةً أن المجتمع الافتراضي يقوم بالدرجة الأولى على المعرفة، فلا مشاركة بدون معرفة، ولا يُقصد بالمعرفة ضرورة الفهم بموضوع الاشتراك فقط، ولكن يشمل أيضا معرفة طريقة النفاذ إلي المشاركة مع الآخرين عبر مواقع الشبكات الاجتماعية أو غيرها.

– الفعل: يشكل الركن الثاني المكمل للمعرفة فلا فعل بدون معرفة، والمعرفة لا ترقى إلى مستوى المشاركة بدون فعل، والمقصود بالفعل هنا هو: ”النشاط الذي يقوم به الشخص المتفاعل، والذي يمتلك القدرة علي النفاذ إلي مواقع التفاعلات للإشتراك في الموضوعات المتباينة للتفاعل عبر الإنترنت”.

– التفاعل: المقصود بالتفاعل هنا هو: ”تبادل المعلومات والمعارف، فتكتمل المشاركة بتحويل الفعل أو النشاط إلي تفاعل، وقد يكون هذا التفاعل مع الأفراد أو يمتد إلي الجماعات، مع الأخذ في الاعتبار أن تفاعلات ومشاركات المجتمع الافتراضي تقوم في الأساس على مشاركة الاهتمامات”.

ويرى بعض الباحثين أن هناك عدة اعتبارات لتوافد الحشود على الشبكات الاجتماعية عبر الإنترنت، يتمثل الاعتبار الأول في الحرية؛ حيث فتح المجال العام الافتراضي الحرية أمام تشكل الحركات الاجتماعية التي كانت تعانى من تأزم الواقع، فإنحسار محيط الحرية في الواقع جعل من الفضاء المعلوماتي ملاذاً لها، خاصةً فى ظل سهولة التفاعل مع الشبكات وحرية الانضمام ومرونة التحرك، أما الاعتبار الثاني يتمثل فى مشاركة الاهتمامات، وتُعد هذه هى الفرضية الأولى لتشكل المجتمع الافتراضي، حيث يقوم هذا المجتمع بالأساس على فكرة التجانس في الاهتمامات، فلقد سمح مجال الإنترنت بتشكل الحركات الاجتماعية على مختلف أشكالها. فإذا كان المجال العام الواقعى يعانى من الإنحسار، فإن الإنترنت قد أعاد تشكل المجال العام ولكن على نحوٍ افتراضي، ويتمثل العنصر الثالث في التفاعلية: فلقد فتح الإنترنت مجال للتفاعل بين الحركات الاجتماعية، خاصة أن تفاعلاته لا ترتبط بقيود المكان ولا السلطة ولا الزمن.

.........................................
احالات ومصادر:
(**) مثّل كتاب ” الفضاء العمومي: أركيولوجيا الإشهار بوصفه بعدا مقوما للمجتمع البورجوازي” ليورغن هابرماس والذي ظهر لأول مرة كأطروحة ناقش بها رسالته لنيل شهادة الدكتوراه في السوسيولوجيا بجامعة ماربورغ بألمانيا في 1961 والذي نشره سنه 1962 من بين أهم الأطروحات الفلسفية التي تناولت بالدقة اللاّزمة إسهامه في وضع نظریة الفضاء العمومي.
في مفهوم الفضاء العمومي وتطوراته في فكر هابرماس: بقلم علي البهلول
الفضاء العمومي ومطلب حقوق الإنسان هابرماس نموذجا / عبد السلام حيدوري
المتغيرات المؤسسة لرأس المال الاجتماعى فى المجتمع الافتراضى / وليد رشاد زكى،
دورالإعلام البديل فى تفعيل المشاركة السياسية لدى الشباب: دراسة تطبيقية على الشبكات الإجتماعية الافتراضية / محمود عبد القوى،
مفهوم المجال العمومي في الفكر المعاصر. نموذج يورغن هابرماس / حسن سمر
مواقع التواصل الاجتماعي: فضاء عام أم خاص؟ عبد الهادي العجلة
المجال العام من الواقع الفعلى إلى العالم الافتراضى: معايير التشكل والمعوقات/ أمانى المهدى / المركز الديمقراطي العربي
المجال العامّ: مقدّمة قصيرة جداً / كريم محمد
في مفهوم الفضاء العمومي وتطوراته في فكر هابرماس / علي البهلول

اضف تعليق