بعد استيراد مظاهر الحداثة، أصبحت المجتمعات العربية تعيش في ظل خطاب يعاني من الانفصام، مجتمع متضارب تحكمه التناقضات.. ارتكاز عملية التحديث إلى عامل خارجي، يؤثر في تطوره الداخلي فيدفعه إلى التحول، فما أن تنطلق عملية التحديث حتى يتشوّه التطور الذاتي الداخلي فيتخذ شكلاً لم يكتمل نضوجه...

عقد مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث حلقة نقاشية في ملتقى النبأ الأسبوعي حول (الحداثة المشوهة والمصير المجتمعي)، شارك في الملتقى عدد من الكتاب والباحثين ذوي التوجهات المختلفة.

نص الورقة التي نوقشت قدمها واعدها الباحث في المركز محمد علاء الصافي على الشكل التالي:

عملت الحداثة الأوروبية على اختراق العالم الثالث عبر التجربة الاستعمارية، وفرضت نفسها بصفتها الطريق الوحيد إلى المستقبل أمام هذه الدول. فاستمدت الثقافات الأخرى في الغالب مفاهيمها من التجربة الأوروبية للحداثة، فغزت الحداثة الواقع والعقل العربي معاً، كما غزت كل المجتمعات البشرية، وعمل هذا الغزو على تبدل رؤية المجتمعات للعالم.

القطيعة مع الماضي شكّلت جوهر التجربة الأوروبية الحداثية، لأن الحداثة تأخذ مشروعيتها من المستقبل وليس من الماضي. وإخفاق التجربة العربية لا يعود لعدم الأخذ بالحداثة، إنما لسبب معاكس هو أن الحداثة التي أخذ بها العالم العربي، لم تنتج ذات القيم ولم تؤدِ ذات الوظائف التي خلقت من أجلها، والتي كانت منتظرة منها. ومن هنا كانت المفارقة بوجود أشكال حديثة، لكن دون أن نتمكن من امتلاك الحداثة.

يعد الفيلسوف هيغل أول شخص اهتم بمفهوم الحداثة، وربطها مع التطوّرات الفكرية التي ظهرت في أوروبا، والتي اتّسمت بظهور تيارات أدبيّة وفنية لم تكن معروفة سابقاً. وارتبطت أفكار الحداثة مع العلوم والاختراعات فظهرت العديد من الوسائل التي لم تكن مكتشفة سابقاً، مثل: السيارات، والمصابيح الكهربائية، والهاتف، وغيرها لتساهم الحداثة في نقل العالم لعصر جديد أكثر تطوراً وفاعلية، وهذا ما ظهر في كل من القرنين التاسع عشر والعشرين وما زال مستمراً حتى يومنا هذا. وأثرت الحداثة بشكل ملحوظ على مسمّيات العصور التاريخيّة، فظهرَ كل من عصر التنوير وعصر النهضة في أوروبا كعصرين جديدين، وأشار الفيلسوف هيغل لهذا التطوّر بأنه الانتقال إلى حقبة جديدة تختلف عن الحقب الماضية، وكأي مفهوم مستحدث واجهت الحداثة الكثير من الانتقادات؛ بسبب التغيّرات التي أدت إليها، والتي لا تتناسب مع الأفكار الشعبيّة، وآراء بعض الفلاسفة والمفكّرين.

منذ بداية التوسع الاستعماري الأوروبي في القرن التاسع عشر تحديدا فرض النموذج الغربي نفسه كنموذج عالمي، عبر وسائله المتعددة، فمن التبادل التجاري غير المتكافئ، إلى التدخل في الشؤون المحلية بذريعة الدفاع عن حقوق الأقليات، أو حماية مصالح معينة، إلى الحكم المباشر، إلى الهيمنة الاقتصادية، والسيطرة الثقافية الأيديولوجية، استثمر الاستعمار الأوربي حالة تنامي العداء من قبل الشعوب العربية للحكم العثماني بسبب تردي الأوضاع الاقتصادية وانتشار الجهل والتخلف ونتيجة ذلك: تم غرس بُنى النموذج الغربي في بلداننا، في الصناعة والزراعة والتجارة والإدارة والثقافة وربطها بالبنية الرأسمالية الأم في أوروبا. هكذا وجد العرب أنفسهم، كما وجدت الشعوب المستعمرة كلها نفسها، أمام عملية تحديث استعمارية لبعض القطاعات في المجتمع، وهي تلك التي تهم المستعمر أكثر من غيرها. عملية تحديث لم تستنبت أسسها في الداخل بل نقلت من الخارج جاهزة وغرست غرساً، بالإغراء أو بالقوة، في مجموعة من القطاعات التي أصبحت، بعد الاستقلال، الهياكل الأساسية للدولة الحديثة في البلدان العربية.

ولد مصطلح الحداثة في التجربة العربية كدعوة لتحقيق الانتقال الذي لم ينجز في الواقع الموضوعي، مما جعله مطلبا مستقبليا، في الوقت الذي عبرت الحداثة في موطنها الأصلي عن حالة قائمة، على اعتبار أن الحداثة في سياقها الأوروبي ليست مشروعاً مرحلياً، إنما هي سياسة وممارسة يومية، هي تغيير في كل الاتجاهات لبنى الواقع والفكر، ما جعل نشوءها مستقلا عن الوعي بها، فهي عملية أيديولوجية واسعة ومفتوحة، لها معالم محددة، لكنها لا تنتظم في إطار نظرية من الممكن المناداة بها في هذا الاتجاه أو ذاك، إنما هي عملية تخترق المجتمع بكل بناه، لذلك تبقى الدعوة إليها كهدف نسعى إلى تحقيقه، دعوة تخترقها ثغرات لا يمكن سدها، لأن الحداثة مجموعة من التراكمات الجزئية التي يؤدي تراكمها إلى إنتاج واقع موضوعي حديث.

فهي عملية متحولة في أشكالها ومضامينها، في الزمان والمكان، وليست ثابتة وغير قابلة للرجوع إلا لمنظومة من القيم. ليس هناك قوانين للحداثة، بل هناك معالم للحداثة، ليست هناك أيضاً نظرية واحدة في الحداثة بل هناك منطق للحداثة وأيديولوجيا للحداثة. وإذا كانت الحداثة نموذجاً لمفهوم حديث، وإذا كانت الأيديولوجيات هي التعبير عن الحداثة، فإن الحداثة ذاتها بدون شك ليست إلا عملية أيديولوجية واسعة، على حد تعبير جان بودريار.

بعد استيراد مظاهر الحداثة، أصبحت المجتمعات العربية تعيش في ظل خطاب يعاني من الانفصام، خطاب الحقيقة الشاملة الكلية التقليدية، وخطاب الحقيقة الحديثة المحدودة. وأصبح عاجزاً عن التعامل مع أي منهما بشكل عقلاني ومنظم يمكنه من إرساء علاقته بالماضي أو الحاضر أو المستقبل، من خلال وعي ذاتي مستقل. وبهذا فهو مجتمع متضارب تحكمه التناقضات على صعيد الفكر كما على صعيد الممارسة. كما أن ارتكاز عملية التحديث إلى عامل خارجي، يؤثر في تطوره الداخلي فيدفعه إلى التحول، فما أن تنطلق عملية التحديث حتى يتشوّه التطور الذاتي الداخلي فيتخذ شكلاً لم يكتمل نضوجه. إن هذا التشوّه الملازم لعملية التحديث ليس ناتجاً عن تعثر داخلي فقط، بل عن تأثير العامل الخارجي أيضاً. وفي ظل هذا العامل الخارجي فإن نجاح عملية التحديث نفسها يشكل إعاقة متى جرت تلك العملية في إطار التبعية والخضوع. ولأن أوروبا كانت السباقة إلى التحديث، ففيها فقط كان التحول إلى الحداثة ذاتياً وبالتالي أصيلاً. وفي كل الثقافات الأخرى جرى التحديث في ظل أوضاع تبعية أدت إلى حداثة مشوّهة زائفة. إن التناقض الداخلي والتبعية الخارجية قد دفعا بالحضارات غير الأوروبية إلى اتخاذ أنماط مشوّهة مختلفة من النمو التحديثي.

وفي مثل هذا التشوّه تتعايش التقليدية الأصيلة وأشكال من الحداثة، بنفس القدر الذي تغيب فيه هذه التقليدية، وتغيب الحداثة الحقة.

ويعبر عن ذلك استمرار القيم التقليدية، والممارسة الصنمية للحداثة. وهنا يصبح التشكيل الاجتماعي يعاني انفصاماً حضارياً، حسب ما يرى المؤرخ الفلسطيني الراحل هشام شرابي.

إن المجتمع الحديث بتعبيرات مارشال بيرمان أصيل ومنفتح، وليس اقتصادياً فحسب، بل سياسياً واجتماعياً أيضاُ، بحيث يتمكن الناس من التسوق وعقد أفضل الصفقات بحرية، ليس من باب البيع والشراء فحسب، بل من باب الأفكار والارتباطات والقوانين والأنظمة الاجتماعية.

بالتأكيد نحن نقف على مسافة من المجتمع المنفتح المعبر عن الحداثة، وفي مثل هذه الأوضاع هل نرتكب إثماً، وهل ننتمي إلى زمن بائد، في ظل نقاش ما بعد الحداثة القائم في الغرب والذي أصابتنا عدواه، إذا استعنا بالفيلسوف الألماني كانط وقلنا إننا بحاجة إلى التنوير الذي هو خروج الإنسان من حالة القصور التي يبقى هو المسؤول عن وجوده فيها. والقصور هو حالة العجز عن استخدام الفكر خارج قيادة الآخرين.

والإنسان مسؤول عن قصوره لأن العلّة في ذلك ليست في غياب الفكر، وإنما في انعدام القدرة على اتخاذ القرار وفقدان الشجاعة على ممارسته، دون قيادة الآخرين، لتكن تلك الشجاعة على استخدام فكرك بنفسك ذلك هو شعار عصر التنوير.

أعتقد أن هذا النص يشبهنا إلى حد التطابق، رغم كل النقاش الذي تشهده الساحة الفكرية العربية عما بعد الحداثة، وتفكيكها لعصر التنوير.

هل مشكلتنا مشكلة نخب؟

بعيداُ عن إشكالية التعميم، لكن في الغالب، غرقت النخب بمختلف مشاربها وخلفياتها في مستنقع السياسة ووجهت بوصلتها نحو إرادة الحكم وممارسة السياسة اعتقاداً أن الوصول إلى الحكم هو فرض المشروع الفكري بقهر الدولة والاستفادة من استئثارها باستخدام الاكراه والعنف، في حين أن هدف النخب الحاملة للمشاريع هو الاشتغال على العقليات وثقافة المجتمع. ولكن إدراك هذا الهدف على وضوحه وبساطته لم يكن في متناول نخبنا اليسارية والإسلامية، وذلك لأنها نخب ولدت مشوهة مهووسة بالوصول إلى السلطة، الأمر الذي عطل عملية الاستيعاب والفهم سواء للإسلام ومدى رحابته أو للحداثة مثلاً وما فيها من أفكار غير قابلة للموت والتجاوز.

لقد تأخر قطار التنمية والتقدم في الفضاء العربي الإسلامي لأن النخب مشوهة، ولا تقدم من دون نخب بصحة فكرية جيدة.

غرس أيديولوجيا ما في بلد آخر يولد نتائج مختلفة تتفاعل مع طبيعة الشعب واحتياجاته وعقليته ولا يمكن توقع ذات النتيجة عند استنساخ اي تجربة فكرية. في الواقع، لا يمكن استنساخ التجارب الفكرية والسياسية وحتى الدينية في دول مختلفة مع توقع نتائج مماثلة. وخير مثال على ذلك تأثر دولنا بالصراع بين العالم الاشتراكي والرأسمالي أبان الحرب الباردة، لكن استنساخ أو مواكبة العالمين كان مشوهاً في الدول العربية والإسلامية بشكل كبير يفوق احياناً ما حدث في دول الشرق والغرب!

نحن نتعامل مع مجتمعات بشرية لها تطلعات وآراء وأساليب حياة متباينة وليست المجتمعات حقول تجارب، وليست التجارب الفكرية تجارب كيميائية، بل يجب دراسة جميع الاثار المترتبة من أي فكرة أو مشروع يراد استحداثه في المجتمع قبل تبنيه أو الغاءه.

ما نرصده من قيم جديدة تدعو لمحاربة فكرة الأسرة أو الانجاب والاستقرار أو زواج المثليين في مجتمعاتنا الشرقية والإسلامية تحديداً في تحدٍ صارخ لقيم المجتمع والدين والفطرة الإنسانية بالأصل هل ستقودنا مثلاً لعالم الرفاه والحرية وتحقيق حياة أفضل؟ هل هذه هي نتيجة فهمنا للحداثة؟

عالم اليوم هو عالم الأشياء ونرى أن جميع البشر يميلون نحو الامتلاك والترفيه والهدر والاسراف بينما يجب أن يكون عالم الأفكار هو الأساس، بل عالم الأفكار النظيفة الفطرية التي تؤمن بوجود الانسان والاسرة وتحقيق التنمية للجميع دون تمييز.

كذلك تأثرت مجتمعاتنا ومن قبلها النخب الفكرية والثقافية بالنظريات الغربية بشكل مبالغ به حتى وصلنا الى مرحلة من الجمود الفكري وعدم فهم مجتمعاتنا ودراستها ومحاولة تفكيك أسس المشكلات، من غير المعقول أن تترك مصائب المجتمع المحلي من قبل النخب الفكرية والثقافية ويتم الاهتمام والتركيز بمشاكل الاخرين، في الأصل أن حل المشكلات يبدأ من الشعور بوجودها.

ماذا سيقول فرانسيس فوكوياما عن نظريته بخصوص (نهاية التاريخ) وانتصار القطب الليبرالي الأوحد ونحن الآن أمام اصطفافات أيديولوجية وجيوسياسية واقتصادية جديدة منها روسيا والصين والعالم الغربي وربما أقطاب جديدة. هل هزمت نظريته حقاً بعد أن آمن وروج لها الملايين؟

في مقابل ذلك هناك نظريات صموئيل هنتنغتون عن صِدام الحضارات تنبئت بهذا الصراع الكبير بعد انهيار الاتحاد السوفييتي رغم وجود القوة الوحيدة المهيمنة وهي الولايات المتحدة الامريكية.

وماذا سيقول المؤرخ الإسرائيلي يوفاح نوح هراري الذي تنبأ في كتابه الصادر حديثا (الإنسان الإله) عن قرب هزيمة الإنسان للأمراض والحروب والمجاعة وأننا سننطلق للتفكير في الخلود والألوهيه وهزيمة الموت، ونحن أمام وباء عالمي شل العالم وقتل الملايين واحتمال نشوب حربٍ كونية جديدة وربما مجاعات بسبب أزمة القمح والزيوت وغيرها نتيجة الغزو الروسي لأوكرانيا؟

بالمختصر، هي محاولة لإيصال فكرة أن الكتب والمفكرين على ذكائهم وعبقريتهم ومسبوك كلامهم لا يعرفون شيئا عن المستقبل، فهم لا يعلمون الغيب وإن رجحت بعض قراءاتهم وتنبؤاتهم وفي بعض الأحيان لا يقدم الكثير منهم سوى الوهم والكلام المنمق.

نفتح باب النقاش للأساتذة الحاضرين وكل من يرغب بالمشاركة عبر وسائل التواصل الاجتماعي عبر طرح السؤالين الآتيين:

س1/ هل المشكلة في بلداننا تكمن بالحداثة أم بفهم النخب لها؟

س2/ كيف نواجه تحديات الحداثة ونستثمرها بالشكل الأمثل؟

المداخلات

صنمية الحداثة

الشيخ مرتضى معاش:

الحداثة هو موضوع مؤثر جداً على حياتنا بمختلف اشكالها (العقائدية، الأخلاقية، السياسية، الاجتماعية والاقتصادية)، فمعظم النخب الثقافية تعتبر (الحداثة) و(ما بعد الحداثة) ايقونة مقدسة، تنتقد الدين والعادات لكن تعتبر الحداثة مقدس وصنم تعبده وهذه مشكلة خطيرة لابد من دراستها ومناقشتها.

الحداثة هي مفهوم فلسفي نشأ على خلفية ثورة الفلسفة والثورة الصناعية ضد الكنيسة من فلاسفة مثل كانط وهيغل واخرون، لكن مفهوم (ما بعد الحداثة) نشأ بعد الصعود الرأسمالي القوي للثورة الصناعية وظهور فلاسفة ومفكرين أمثال نيتشه وداروين وفرويد وآخرين، وهي ليست ثورة تجديد بقدر ما هي ايديولوجية متصلبة محورها واساسها تفكيك القيّم وفق ما يسمى بالثقافة السائلة، وبالتالي تفكيك كل شيء قائم من هويات وجماعات وثقافات واديان، وبديلا عنها خلق الفردية المطلقة للإنسان، فهي في جوهرها حداثة عنفية تدميرية تستهدف كل شيء دون رادع. وقد انتجت نظريات خطيرة مثل الليبرالية وصدام الحضارات ونهاية التاريخ والنيوليبرالية، وعلى عكس (ما بعد الحداثة) فإن عصر (الحداثة) كان يتسم بالثقافة الصلبة التي لها حدود وقيم وقواعد ثابتة.

تغلغل الفردية والانعزال التام بين افراد المجتمع هو من أبرز سمات (ما بعد الحداثة)، وتحول متوحش للرأسمالية للسيطرة على المجتمعات وإلغاء الجماعات والنظام الاسري الإنساني الفطري.

من المهم والضروري قراءة (ما بعد الحداثة) والفكر الغربي بشكل دقيق في جميع مؤسساتنا التعليمية والدينية ويجب أن تكون مادة دراسية في الجامعات والحوزات حتى نعرف ماهية هذا الفكر وكيف يؤثر على حياتنا.

أصبحنا نأخذ الشكل المادي فقط للحداثة دون معرفة ماهية القيم التي يتضمنها وأثر ذلك على حياتنا، وما نشهده من فوضى وتردي وتفكك يظهر في مواقع التواصل الاجتماعي وشبكة الانترنت ما هو الا نتيجة من عصر الفوضى الذي خلقته (ما بعد الحداثة) وستكون النتيجة تكرس مجتمعات بلا هوية أو دين او عقيدة او وجه واضح.

الحداثة المستوردة

الدكتور علاء الحسيني، أستاذ في كلية القانون جامعة كربلاء:

المشكلة بالفعل تكمن في مثقفينا ومفكرينا في الغالبية منهم اجتذبته المظاهر الخادعة للحداثة وذهب ينادي بها ويروج لها دون التعمق في هذه الأفكار، يفترض بنا ان الأفكار تكون نابعة من الانسان نفسه لا مستوردة، يبحث ويصل لها حتى يحقق الايمان والعمل على تطبيقها وفق ما يناسبه لا أن تكون مستنسخة وأخذ الشكليات والظاهر منها والترديد ويكون عملنا مثل الببغاء دون الاخذ بالحسبان عواقب ذلك وتأثيراته على حياتنا.

ترديد أفكار الغرب دون دراسة وتمعن وايمان بها لا يمكننا من تطبيقها على مجتمعاتنا وتحقيق نتائج مماثلة في التطور البشري اذا ما كانت ضاربة للقيم المجتمعية الاصيلة لدينا.

يفترض ان يكون لدينا بناء فكري ومعرفي والقراءة الواعية ونحن نحتاج الحداثة في جانبها الفكري والفلسفي والمادي لكن بعد دراستها وهضمها وأخذ ما يناسب مجتمعنا وفق الادبيات والاخلاقيات الاصيلة.

استهداف العمق التاريخي

الدكتور قحطان حسين طاهر، باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

طبيعي جدا أن كل مجتمع يحتاج الى التحديث وتجديد منهج الحياة لكن وفق أي آلية؟

هل التحديث يتم وفق رؤية قاصرة أو وفق برنامج مشوّه وفق خطط غير مكتملة ناقصة في جوانب كثيرة منها، أم انه يجب التحديث وفق صورة متكاملة تلقى قبول ومشروعية واسعة بين فئات المجتمع.. ومما نلحظه ان طيفا واسعا من النخب والمثقفين من مجتمعاتنا ممن درسوا في اوربا حاولوا نسخ الفكر الغربي وتجربة الحداثة ونقلها الى المجتمع العربي والإسلامي وهذا خطأ كبير مثلما حاولوا استنساخ النظام الديمقراطي الغربي وتطبيقه، ونجد ان نتائج ذلك تشير الى الفشل الكبير ونجد أن جميع تجاربنا قاصرة لأنها غير مكتملة الجوانب وغير نابعة من قيمنا وعاداتنا الاصيلة وحاجاتنا الاجتماعية ونأتي بها جاهزة لتطبيقها على مجتمعات تختلف فكريا وثقافيا ودينيا.

مسألة التحديث مهمة وضرورة وان الانسان لابد ان يتطور ويتقدم ويغير نهجه واساليبه في الحياة لكن ان لا يضرب عمقه التاريخي ولا يتنكر لماضيه وثقافته التي نشأ وتربى بها، لو تأملنا في كل الديانات السماوية نجد انها كانت تحديثا للأعراف والعادات السائدة والسلبية منها تحديدا ولكن لم تلغ الديانات التي سبقتها بل اعترفت بها وعملت تقييما شاملا لما سبق وهذبت وشذبت القيم الدينية التي سبقتها وجاءت بدين آخر يواكب العصر والتحديات عبر الرسل.

التحديث الصحيح

الباحث حيدر الاجودي:

اننا كمجتمعات عانت طويلا من الاستعمار الأجنبي واخذت جزئيات من عصر الحداثة أصبحت تعيش صدمة الحداثة وليس مجتمعات حداثوية حقيقية، المشكلة التي نعاني منها هي الاغتراب والاستلاب وضاعت الهوية الاصيلة للمجتمع بين تركة التراث الديني والفكري التاريخي وجزئيات من عصر الحداثة ولم نستطع الدمج والتحديث الصحيح حتى الان.

علينا ان نكون اكثر جرأة بوضع ما ورثناه من تراث وأفكار تحت مجهر النقد والتصحيح والتحديث حتى نصل للحداثة الحقيقية والمجتمع الإنساني والحضاري لا أن نفقد هويتنا بالكامل.

المعرفة والحاجة

باسم الزيدي، كاتب واعلامي:

الحداثة او ما بعد الحداثة تحتاج الى امرين مهمين هما المعرفة والحاجة ولو اجتمعت لتحقق لدينا مجتمع حداثوي، المعرفة خاصة بالنخب ويجب أن تعرف ماذا تريد من الحداثة والحاجة هي حاجة المجتمع لهذه الحداثة وأي نوع من التحديث.

المشكلة تكمن بعملية التقليد او التكرار ونجد الاتهامات تتكرر ان الغرب يصدر لنا هذه الأفكار لكن في الواقع نحن من يبحث ويستورد الأفكار بدل البحث وإيجاد الأفكار من صلب تراثنا، وحتى لو حاول الغرب تصدير أفكاره فهذا من حقه فهو المنتصر والمهيمن علميا وفكريا في هذا العصر مثلما كان العرب والمسلمون يوما ما هم المسيطرين والمصدرين لثقافتهم أينما حلو وتأثرت الشعوب بهم.

الانشغال بمظاهر التحديث

الدكتور خالد العرداوي، مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:

في الفترة ما بين الثورة الفرنسية حتى الحرب العالمية الاولى انشغلت المجتمعات العربية بالحداثة واخذت الجوانب الإيجابية في كثير منها حتى سميت هذه الفترة بعصر النهضة لأننا طرحنا الأسئلة المهمة ومحاولة إيجاد الأجوبة ومنها لماذا تقدم الاخرون وتخلفنا نحن؟

وكان يطرح من قبل المفكرين أمثال رفاعه الطهطاوي ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا وخير الدين التونسي وعبد الرحمن الكواكبي والكثيرين وراجت الأسئلة الجوهرية ومحاولة البحث والاجابة عنها وتأليف كتب تدخل في صميم المجتمع في محاولة جادة لتفكيك المجتمع وإيجاد الحلول والاجوبة لتحديثه وانتشاله من التراجع والمشاكل التي يعاني منها مثل كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد، وحتى على مستوى الفكر الشيعي نجد علماء ومفكرين مثل النائيني وكتاب تنبيه الامة وتنزيه الملة كان الطرح عميق ويناقش القضايا والحاجات التي يحتاجها المجتمع من محاربة الاستبداد والاستعمار والجهل والتخلف.

لا يمكن الفصل بين العصور فلولا عصر الانوار في اوربا لما جاء عصر النهضة والثورة الصناعية وهو لم يكن ضد الدين بل كان فيه جانب إصلاحي للأعراف والعادات التي كانت سائدة في العصور الوسطى، فكان اصلاح من داخل البيت والاجابة على الأسئلة الأساسية فيه مثل علاقة الدين بالدولة وعلاقة الفرد بالجماعة والحرية والمساواة.

بعد الحرب العالمية الأولى حدثت صدمة بين العرب والغرب اثر اتفاقيات تقسيم البلاد العربية بين دول الاستعمار وانشاء دولة لليهود حدثت صدمة كبيرة اثرت على استكمال عصر النهضة فإنشغل العرب بالتحديث ومظاهره مثل تغيير الملابس وانشاء مؤسسات عسكرية والاستعجال ببناء الدول وأخذ نماذج سلبية مثل التجربة الفاشية والشيوعية والنازية وترك الحداثة، تم التركيز على اخذ الجانب المادي للحداثة دون اخذ قيم المعرفة لها.

لا توجد لدينا نخب حداثوية بل افراد متفرقين يؤمنون بالحداثة ويطبقون افكارها بل يسيطر في الغالب نخب تقليدية منحازة لأفكار قديمة، بل لدينا مع الأسف الشديد نخب فاسدة تحتاج الى التطوير والإصلاح وهذه من المستحيل ان تبني وتحقق دولة حداثوية وهي لا تفهم الحداثة بمفهومها الأساس ولا نستطيع استيعابها دون فهم قيمها وانماط السلوك لها سواء للفرد او الجماعة.

التطرف والانفلات

عدنان الصالحي، مدير مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

هل بلداننا تشابه البلدان الأخرى في طريقة المعيشة وهل مجتماعتنا مدنية ام دينية؟

في الظاهر ان مجتمعاتنا هي دينية لكنها تمارس سلوكيات مخالفة للدين، هناك تناقض كبير حتى عند رجال السياسة من الإسلاميين فهم غالبا يرتدون رداء المدنية ويكون سلوكهم السياسي متناقض على الدوام.

لم نأخذ الحداثة كما هي بل كل ما يحدث لدينا هو ردة فعل على العادات والتقاليد التي ساعدت على كبت المجتمع وهذه بسبب الأنظمة القمعية وسياسة الانغلاق التام على العالم الخارجي، لذلك وبعد سقوط النظام القمعي نجد ان الانفلات الحاصل في كل مفاصل الحياة سببه الكبت والقمع لسنوات طويلة، بل ان حتى بعض السلوكيات في المجتمع وصلت حد التطرف والانفلات اكثر من الدول الغربية في مرحلة تحولها نحو الحداثة، فهي ردة فعل على الأنظمة السياسية والعشائرية والدينية ومحاولة ممارسة الحرية بأقصى درجاتها والفوضى والتهور هو سمة بارزة لكل ما يحدث ومجتمع فاقد للبوصلة بشكل كبير.

رفض السلبيات وتبني الإيجابيات

الدكتور اسعد كاظم شبيب:

موضوع الحداثة كمبادئ تفهم كمعطى إيجابي لكن ما قد يوخذ على الحداثة هو التطرف او التشويه الذي يرافق افرازتها ومخرجاتها لذا فان تطرف الحداثة قد يحمل في طياته الكثير من السلبيات مثلما تحمل الحداثة التقدمية او العقلانية إيجابيات عديدة، لذا فإن قادة الراي والسياسات التخطيطية في البلدان الناشئة لابد أن تميز بين الاثنين، فتقننن الاولى وتنمي الثانية لغرض تجاوز تشوهات وتطرفات الحداثة بمفهومها السلبي او المتطرف.. اذ ان التطورات السياسية والاجتماعية تلقي بظلالها على العالم الحديث خصوصا في ظل تطورات الحداثة السائلة وباتت مجتمعاتنا ليست بعيدة عنها من هنا فالفرز الاجتماعي والصناعي مطلوب في هذه المرحلة عبر رفض السلبيات وتبني الإيجابيات بما يلائم واقع مجتمعاتنا.

الدين اكثر حداثة

الباحث حسن كاظم السباعي:

بما أن الحركة الحداثية تصبو إلى إيجاد مجتمع مرفه بكل معاني الرفاهية، وبما أن النخب العربية أو الإسلامية أو الشرقية تتطلع إلى نفس الهدف، فلا توجد مشكلة من الأساس سواء في الحداثة نفسها أم في الطرف المتمسك في التقاليد. لكن المشكلة تنشأ حينما يظن كل طرف أن الطرف الثاني لا يسير نحو الهدف المذكور؛ أي أن هنالك سوء فهم ومنه فهم النخب. ولو علم الحداثيون أن الرؤية الدينية ذاتها تتطلع نحو الحداثة بل وأنها واقعًا أكثر حداثة من حيث المفاهيم التي تؤدي إلى رفاهية المجتمع لما كانت هنالك معارضة من قبلها.

‎ولو استطاع أصحاب المدرسة الكلاسيكية أن يطرحوا نظرياتهم بأسلوب عصري ولبق ومهذب لاستطاعوا اختراق التيار الحداثي والنفوذ في أوساط مثقفيه. ‎ولذلك بين فترة وأخرى نرى من يظهر من هذا الطرف أو ذاك من يخترق جدار العزلة والتنافر بطرح نظريات إسلامية تواكب العصر أو نظريات حداثوية هي في صميم الدين. ‎ومن منطلق ديني يمكن القول؛ إنّ جوهر المفاهيم الدينية هو أرقى وأحدث بكثير من أرقى النظريات الحداثية المطروحة في الغرب والتي جاءت في إطار تقدم المجتمع نحو الرفاهية. من هنا لابد من تصحيح هذا المفهوم الخاطئ أن الدين ضد السعادة والرفاهية.

وكمثال على ذلك هو "الفقه" حيث يقول الحداثيين عنه بجهل أو بغرض أنه لا يناسب متطلبات العصر، ولكن من خلال نظرة ثاقبة يقوم به مجدد حضاري يثبت عكس ذلك.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–Ⓒ2022
http://shrsc.com

اضف تعليق