q
لكي نبني دولة ديمقراطية تحقق آمال وتطلعات المجتمع وتنشر التسامح وتنبذ كل وسائل العنف وتحقق التعايش السلمي بين الاثنيات المختلفة في المجتمع العراقي، يتطلب انضاج الوعي السياسي، حيث يعتبر من أهم الأسس الدافعة لبناء الديمقراطية، وهذا يتطلب وضع أسس واضحة لتطوير هذا الدور بدءاً من قنوات التنشئة الاجتماعية...
تحرير: حسين علي حسين

عقد مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث جلسة حوارية في ملتقى النبأ الأسبوعي تحت عنوان (دور الوعي السياسي في تطور التفكير الديمقراطي)، بمشاركة نخبة من الأكاديميين والمثقفين، حيث قدّم الباحث في المركز محمد علاء الصافي ورقة بحثية جاء فيها ما يلي:

"اعتمدت المجتمعات المعاصرة في عملية النهوض والتطور على تفعيل الوعي السياسي لدى أفرادها وجماعاتها معا، بحيث يصل وعي الفرد الى الدرجة التي تجعله عارفا بحقوقه وحرياته وعارفا أيضا بكيفية استخدامها والاستفادة منها بالتوازي والتزامن مع الحقوق التي تقع على عاتقه وفقا للعقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم ألا وهو (الدستور).

فمن دون الوصول الى درجة جيدة من الوعي السياسي ومعرفة الحقوق وسبل الحصول عليها، يبقى الفرد (والأمة في نهاية المطاف) بحالة من التردي والخضوع التام لإرادة الحاكم الذي غالبا ما يكون تعامله قاسيا مع من يجهل حقوقه ويتخلى عنها بإرادته او من خلال السلطة الضاغطة عليه، لذا فإن اضمحلال الوعي السياسي يقود الفرد والمجتمع عموما الى حالة من الضعف المتنامي تفتح الأبواب أمام السلطان المتجبر وتجعله يتعامل بقسوة مع المحكومين، ويتجه بصورة حتمية نحو التفرد والاستبداد.

في هذا المجال يذكر المرجع الراحل آية الله العظمى السيد محمد الحسيني الشيرازي (قدس) في كتابه القيّم الموسوم بـ (كل فرد حركة وفلسفة التأخر):

(حيث ضَعُف في المسلمين الحسّ السياسي، ضعف فيهم كل شيء، اقتصاداً واجتماعاً، وديناً ودنياً، وتربية وعائلة، وأخلاقاً وآداباً، وغيرها).

من هنا تبدو أهمية الحس السياسي المتطور والواعي حيث ينسحب هذا الوعي على جميع مجالات الحياة قوة وضعفا، فمن لا يملك وعيا سياسيا متطورا لا يملك رؤية معاصرة لكيفية مجاراة الحياة وتفعيلها في عموم المجالات، لهذا جاء التأكيد على أهمية أن يتسلح المجتمع بالوعي السياسي الذي يؤهلهم لمعرفة ما يدور حولهم في مجالات الحياة كافة لاسيما ما يتعلق بحقوقهم وحرياتهم.

ولكن كيف يمكن لنا تنمية هذا الجانب لدى عموم الناس، من الواضح ان الانسان إبن محيطه وبيئته ولا يأتي لهذه الحياة محملا بالمعرفة والوعي المطلوب، لذا لابد أن تكون هناك جهات تأخذ على عاتقها مهمة تفعيل الوعي السياسي لدى الافراد والجماعات معا في سلسلة تنظيمية معرفية مخطط لها سلفا.

هذا الامر يحتاج الى التنظيم والتخطيط المسبق وتكليف الجهات العارفة بمهمة تطوير الوعي السياسي لدى عموم الناس من خلال المؤسسات التعليمية ومنظمات المجتمع المدني والجامعات وغيرها من الجهات الفاعلة اجتماعيا واداريا.

وقد أكد الإمام الشيرازي على طبيعة الوعي السياسي ومساراته وتوجهاته وألزم ذلك بالحضور الإنساني الواضح لهذه المسارات وعدم التورط بالسياسات (المتشيطنة) كما هو الحال مع المبادئ السياسية الواردة في الأفكار الميكافيلية (الغاية تبرر الوسيلة)، فقد أكد في هذا المجال على أنه يعني السياسة الإسلامية ذات التوجه الإنساني:

(لا السياسة بمعنى: المراوغة والكذب والاحتيال مما يسمى في الاصطلاح الغربي بـ "المكيافيلي" وإلاّ فمثل هذه السياسة، ليست إلاّ شيطنة، وتوجب تأخيراً وإفساداً في الأمة).

من هنا تبدو أهمية الوعي السياسي لتأثيرها الشامل على مجالات الحياة كافة كبيرة مثلما يصح القول بأن خطر السياسة يصل الى جميع المجالات التي ينشط فيها الانسان او معظمها، لذلك أكد المرجع في كتابه هذا على: (أن ّ كل شيء ــ إلاّ النادر النادر ــ مبني على السياسة، ولذا فانحرافها يوجب انحراف كلّ شيء، إلاّ بالنسبة إلى من حفظهم الله تعالى).

غالبا ما تكون القوانين السلطوية كابتة للرأي والحرية لذا لابد أن تتقاطع مع التوجهات المتحررة، إذ يقول الإمام الشيرازي في هذا الصدد: (ليعلم أنّ القوانين الكابتة تكون على خلاف القوانين التي تهم الشورى). إذن لابد من تطوير الوعي السياسي لدى عموم المسلمين لكي يمكنهم مقارعة القوانين الوضعية الكابتة لحرياتهم، وذلك من اجل الوصول الى حكومة ذات طابع تحرري يحفظ للإنسان حقوقه وكرامته في آن واحد.

لذلك نرى أن الوعي السياسي هو ضرورة حتمية لتطور المجتمع على جميع المستويات.

في الوضع العراقي لم يتم بناء الشخصية العراقية بناءً صحيحا من خلال المؤسسات المختصة أو الأنظمة المتعاقبة حتى يكون المجتمع واعي وفاعل ومسائل للطبقة السياسية ومراقب لسلوكياتها واداءها.

وهذا ما سببه المغرضون لتقويض شخصية الفرد العراقي الذي اصبح مقهوراُ في الغالب منذ تأسيس الدولة العراقية عام 1920 والى يومنا هذا، حيث اصبح يستنكر ذاته ليقدس غيره، لا يميز حقاً من باطل، ولا صالحاً من طالح، ولا ظالماً من مظلوم، ولا شقياً من سعيد، يراقب فيرى حضارات الأمم ونجاحها امام عينه، فيرف لها قلبه فيعشقها، ولا يعرف اسباب شقاءه وسوء حظه ومصدر ابتلائه وبلائه، لقد عانى الشعب العراقي طوال عقود منذ تأسيس دولته عام 1920، وحتى بعد إسقاط نظام صدام حسين عام 2003 من ثقافة العنف، هذه الثقافة التي ترسخت في الشعب العراقيّ بفعل عوامل عدّة، حيث عاش العراق ومجتمعه سنوات من الدكتاتورية بكل ما رافقها من سياسات تجهيل، وإفقار، واقصاء الآخر، وسياسات الانصهار القومي والسياسي...إلخ، ولهذه السياسات آثارها السلبية على المجتمع العراقي، بحيث أصبح العراقيون في مقدمة شعوب العالم إحباطاً وسلبية في حياتهم، فكثير من العراقيين يعانون من مشاعر غضب، وتوتر نفسيّ، وقلق، وحزن، وألم، حيث خلقت الدكتاتورية مجموعة مفاهيم خاطئة لن يكون من السهل ازالتها من الممارسة اليومية للعراقيين، اذ ما يزال بعض العراقيين يتصورون أن الحكم الشمولي هو الحل لمشكلاتهم، لتجاوز الازمات السياسية التي مروا بها، وقد أدى الانفلات اللامسؤول الى الكثير من المطبّات في تفكير الفرد العراقي السياسي وواقعه مما أدى الى ترحم البعض على فترة الدكتاتورية وسماها بعضهم (أيام الخير).

إن ما حصل بعد العام 2003 لم يكن الا تعبيراً عن تراكمات لعقود طويلة من انعدام وخمول الوعي السياسي، من فقدان الهوية الوطنية العراقية، من ضعف المشاركة السياسية وانعدامها، من تفاقم قوة العشيرة وفرط التقديس لرجل الدين، والعادات والتقاليد، وأدى ذلك الى سيادة العنف، حيث كانت عمليات العنف المتبادل بين مكونات المجتمع العراقي خلال اعوام (2005، 2006، 2007) خير دليل على أن الاعتراف بالآخر الديني، أو المذهبي، أو القومي أمر صعب، فالجهد كان منصباً على الغاء الآخر لا التواصل معه، بالرغم من أن هذه المسألة لم تكن عامة، لكنها كانت مؤثرة، وانتجت نتاجاً قبيحاً أثر في نفوس الشعب العراقي، وهذا كان أحد أوجه التعبير عن ضعف الانتماء للهوية الوطنية الجامعة في العراق.

 نحن بحاجة الى أن نكون أحرارا ومعرفة ما ينفعنا، الاستكانة ووضع الرؤوس في الرمال والقول بأن جميع من يدعون بأنهم واعظون فهماء مخلصون ومصلحون، قول مرفوض لا تشهد له ملّة من الملل؛ الحل بين ايدينا: "السيادة للقانون، والشعب مصدر السلطات وشرعيتها، يمارسها بالاقتراع السري العام المباشر وعبر مؤسساته الدستورية" هذا ما نصت به المادة (5) من دستور جمهورية العراق لعام 2005، ويعتبر هذا النص الدستوري غاية في الاهمية، إذ اشار الى شرعية أي سلطة، ومصدرها هو الشعب، واذا ما عمل الشعب العراقي بهذا النص سيكون هو المتحكم لا أن يصبح مجرد آلة يشارك في الانتخابات، وينتهي دوره عندها، والوعي بما ذكر يقع على عاتق النخب المثقفة والمؤسسات الوطنية الاعلامية والتعليمية، للنهوض بمسؤولية الارتقاء بالثقافة المجتمعية، لما للمجتمع الواعي المثقف من حظوظ افضل بكثير في ايجاد نخب حاكمة كفوءة ومؤسسات فاعلة وسياسات ناجحة وفعّالة.

لكي نبني دولة ديمقراطية تحقق آمال وتطلعات المجتمع وتنشر التسامح وتنبذ كل وسائل العنف وتحقق التعايش السلمي بين الاثنيات المختلفة في المجتمع العراقي، يتطلب انضاج الوعي السياسي، حيث يعتبر من أهم الأسس الدافعة لبناء الديمقراطية، وهذا يتطلب وضع أسس واضحة لتطوير هذا الدور بدءاً من قنوات التنشئة الاجتماعية الرسمية في الدولة، فالعراقيون وخصوصاً الأجيال الجديدة، شهدت وما تزال تشهد تعددية سياسية، وتعددية رأي، وانتخابات، وحكومات متعاقبة، ونشأت هذه الأجيال على تحمل بذور الديمقراطية، وهي واحدة من الضمانات لعدم عودة الدكتاتورية الى العراق.

لانضاج الوعي السياسي تظهر الضرورة الملحة لمحاربة الفقر، من خلال تقليل أو الغاء وجود أسر تقع تحت مستوى خط الفقر في بلد مثل العراق يمتلك امكانات مادية كبيرة، يكون هذا هدفاً واجب التنفيذ، اضف الى ذلك أن تطور المجتمع لا يتحقق من دون القضاء على الأمية، لا يتحقق الا بمجتمع مثقف وواعٍ، لذلك أن عملية انضاج الوعي مرهونة ايضاً بالقضاء على الأمية والزام كل افراد المجتمع بالحصول على التعليم الابتدائي على الاقل، لإنتاج ثقافة اصيلة خاصة بالمجتمع العراقي لا مستوردة، بمبادرة من ابنائه، لإحياء اصالة الثقافة المجتمعية التي تؤدي الى ابداع مجتمعي له حضور وفاعلية، بالتالي في مجتمع مثقف واعٍ ومنتج ومبدع، سيكون هناك سياسي متطور وكفء، ومؤسسة فاعلة غير مرتبطة بشخص رئيسها.

القضاء على الاستبداد السياسي الذي يُعد من أهم المشاكل وأخطر الأزمات التي يمر بها العراق، اذ يعد الاستبداد السبب الرئيس وراء التخلف في المجالات الأخرى: الاجتماعية، والثقافية، والاقتصادية.. إلخ، وإن أفضل طريقة للتخلص من الاستبداد والقمع هو عن طريق معرفة الشعب لما له وما عليه، أي لحقوقه وواجباته وليس معرفة ما عليه فقط دون التفكير فيما له، وترك تقديس الأشخاص ورمزية القائد الضرورة والتركيز على المشاريع السياسية الحقيقية التشاركية، وإن الشعوب المتقدمة قد تغيرت وتطورت نتيجة لنمو الوعي السياسي لديهم.

"لابد لنا بغية الخروج من أزماتنا ونكباتنا ومآسينا، من البدء بإعادة حساباتنا مع انفسنا، فلا تخافوا من عرض التاريخ على الناس، عرفوهم على سيرة الفاسدين، فرقوا لهم بين الحق والباطل، نبهوا أفراد المجتمع العراقي من أولئك المغرضين، ليعرف المصلح بالإصلاح، والمفسد بالفساد، لقد طال النوم وكحلت الأيام، وليست أمامنا الا اليقظة والحركة والعمل دون توقف".

ثم تم فتح باب النقاش امام الأساتذة المشاركين في هذه الندوة وتمت الإجابة عن السؤالين التاليين:

السؤال الأول: هل يمثل الوعي السياسي حاجة اجتماعية ام مجرد ترف ثقافي؟

السؤال الثاني: كيف يمكن أن يؤثر الوعي السياسي في مخرجات النظام السياسي، المؤسسات، الانتخابات، الرقابة، التداول السلمي... نموذجا.

 

المداخلات

- الأستاذ جواد العطار:

هناك مقولة جاء فيها (أنا أفكر إذن أنا موجود)، يمكن أن نقول أنا واعٍ إذن أنا موجود، لأن مجرد التفكير، ربما لن يكون تفكيرا عقلانيا، تفكيرا مدفوعا بالتقاليد والعادات السيئة والسلبية، أو تفكير غير عقلائي.

فالتفكير الواعي هو الذي يقودنا إلى الوجود والحضور والتفاعل والتأثير، فالتفكير، المعرفة، الحرية، مرتكزات للوعي، فمن دون التفكير ومن دون المعرفة ومن دون الحرية لا يمكن أن نخلق جوا لجيل واعٍ، أو أجواء واعية.

الوعي يعني وعي الحياة، لا كثرة المعلومات، فالعارف بزمانه لا تهجم عليه اللوابس، لا يُلدَغ من جحر مرتين، (ولكن هناك من يُلدَغ عشرات المرات)، كلكم راع وكلم مسؤول عن رعيته، هذه في الواقع مفاهيم توعوية، تحمل راية الوعي والمسؤولية، محددات الوعي أو فلنقل معوقات الوعي وقد ذكرها مقدّم الورقة البحثية، وهي الفقر، الجهل، الاستبداد.

الفقر من المؤكد هو كارثة عندما يحل بالمجتمع، فلا يفكر الفقير إلا بملأ بطنه وسد رمقه، يقتنع بكارت قيمته عشرة دنانير لشحن موبايله، هذا إذا كان لديه موبايل، وعلى ضوء هذه الخطوة يكون اختياره في الانتخابات، أو كما شهدنا ذلك في عدة انتخابات.

أما الوعي فيعني تحمّل المسؤولية ومعرفة الحقوق والواجبات، فالذي لا يعرف حقوقه ولا واجباته، فلا يمكن أن نطلق عليه بأنه واع، أما مسؤولية من خلق الوعي، في الواقع هذه مسؤولية الجميع، افرادا وجماعات، مؤسسات، حوزات، مدارس، منبر، صحافة، إعلام، جامعات، جميعها مسؤولة عن خلق الوعي، وأنا في تقديري أن الوعي المجتمعي مقدَّم على الوعي السياسي.

فإذا كنا نعيش حالة ديمقراطية، فالحالة السياسية نتاج للفعل الاجتماعي، والفعل الاجتماعي إذا لم يكن واعيا سوف ينتج مجتمعا سياسيا غير متكامل، غير سليم، وغير صحيح، لذلك فإن بناء المجتمع على أسس من الوعي، ومجتمع واع يعرف مسؤوليته وحقوقه وواجباته، ينتج مجتمعا سياسيا واعيا، يراعي واجبات وحقوق الناس ومسؤولياتهم.

- الأستاذ محمد جواد العطار:

هناك صلة وثيقة بين الإجابة عن السؤال الأول مع الإجابة عن السؤال الثاني، فالوعي السياسي بالتأكيد هو حاجة ملحة اجتماعية ماسة، وليس مجرد ترف، وكلما ازداد وتصاعد هذا الوعي السياسي فهذا يزيد في فاعلية ودور المؤسسات الاجتماعية والسياسية.

بالنسبة للوعي الاجتماعي يجب ان يُبرمَج له، ويوضع له أسس وبرامج لتقويته، مثل المراحل الدراسية الأولى، يعني نلاحظ مثلا توجد هناك دروس حول حقوق الإنسان، والديمقراطية، لكن التركيز على هذه الدروس قليل جدا يتم بصورة طفيفة، ومستعجلة، وغير مشبعة، ويتم تدريسها في بعض المدارس والجامعات، في حين نحن نحتاج إلى هذه الدروس في مراحل متقدمة مثلا على الأقل في المرحلة الثانوية، يتم التطرق لها.

وتُقدَّم هذه الدروس مع بعض الشواهد والبرامج العملية من الواقع العملي للعراق، ولا تكون مجرد دروس حقوق الإنسان مواضيع نظرية ويشعر الطالب بأنها غير ملموسة، ولا تمس واقعه العملي، فتوجد نماذج عملية من الواقع العراقي الموجود، من واقع الانتخابات، من واقع الأحزاب، من واقع حرية الرأي الموجودة في العراق.

ففي هذه الحالة حين يدرس الطالب هذه الدروس، ويلاحظ وجود صدى عملي ملموس لهذه الأفكار والدروس، ووجود عملي لها في الساحة، فإن هذا سوف يكون أكثر تأثيرا في الطالب، من ناحية زيادة الوعي الاجتماعي والتمسك بالقيم الصحيحة.

- عدنان الصالحي، مدير مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

هذا الموضوع في غاية الأهمية، ويمكن أن يُراد له في بعض الدول أن يكون مجرد ترف، يراد له هكذا لأنه بطبيعة الحال كما تقول القاعدة العلوية: (كيفما تكونوا يولَّى عليكم)، وهي قاعدة ذات مقدمات ونتائج.

الوعي السياسي لا يتمثل بالعمل السياسي فقط، فاليوم عندما لا يكون عندك وعي جماهيري في الجانب الثقافي، كيف سيكون طبيعة النمو الاجتماعي لديك؟، حتما سيكون مشوها، وإذا لم يكن لديك ثقافة أو وعي اقتصادي، وإذا لم يكن لديك وعي علمي، فالوضع السياسي هو جزء من الحياة التي تنطوي على جوانب كثيرة.

فكيف نطلب من المجتمع أن يكون واع اجتماعيا اقتصاديا علميا ودينيا، ونأتي نسأل هنا هل يحتاج الإنسان أن يكون واع سياسيا أم لا يحتاج؟، صحيح قد يكون هناك إنسان عامل بسيط لا علاقة له بالقضايا السياسية، ولكن مخرجات السياسة تؤثر على عمله وعلى كيانه في المجتمع.

فاليوم مخرجات السياسة هي سلطة، سواء كانت تمت بالطريق الشرعي المتعارف عليه الانتخابات والتداول السلمي للسلطة، أو عبر الدكتاتورية، وبالنتيجة فإن الدكتاتورية ناتجة من أصل غياب الوعي السياسي، وإلا فإن المجتمعات الواعية سياسيا، لا تتقبل الأنظمة الدكتاتورية، هذا إلا إذا كانت بعض الدول تتخذ أو تحاول العودة إلى الدكتاتورية كما حدث في بعض الدول لكن هذا الأمر يختلف هنا.

إذن هي حاجة ملحّة وعملية مرتبطة ببناء الإنسان والمجتمع في هذا الجانب، وإلا فهي ليست قضية ترف فكري، الجانب السياسي يطغي على أغلب الجوانب الأخرى، وهذا مرتبط كما أسلفنا بقضية السلطة ونتاجاتها، من الحكومات ومؤسساتها.

الشيء الآخر والمهم ديمومة البقاء للأدوات التنفيذية للسلطة، فالوعي السياسي هو من يعطي شرعية، فالدساتير تُبني على أن الشعوب هي مصدر السلطات، في أغلب الدول، والقليل يذهب باتجاه أن الدين هو مصدر التشريع، لكن أغلب الدساتير تقول إن الشعب مصدر السلطات، وهو الذي يمنح الشرعية إلى الحكومات وما تندرج ضمن الحكومات من مؤسسات وقوانين وغيرها، وهو ما يغطيها لبقائها وديمومتها.

فأنت اليوم عندما تراجع طبيبا وتطلب منه أن يصف لك علاجا معينا، فأنت لا تعرف ماذا سيعطيك من علاج، فقد يعطيك علاجا يقتلكَ، نفس الحالة ولكن بشكل آخر، المجتمع إذا لم يمتلك وعيا سياسيا، فإنه سوف يذهب باتجاه العناوين البراقة من دون فائدة حقيقية للدولة، وتمكينها من السلطات، وبالنتيجة تكون هناك عملية تخادم وقرارات سلبية للدولة.

إذن الوعي السياسي في أساس القاعدة لبناء الدولة والسلطة، شيء إيجابي وشيء أساسي، وفي بقاء الشرعية وديمومتها والمراقبة يجب أن يكون متواجد ومستمر في هذا الجانب، وإلا ستكون القضية كمن يبني قصرا بلا علم ولا تخطيط.

- حامد الجبوري، باحث في مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:

يُفترَض أن يكون السؤال الأول (لماذا لا يوجد وعي سياسي)؟، هذا السؤال يتضمن البحث عن أسباب عدم وجود وعي سياسي، فلما نقوم بتشخيص المشكلة في تلك اللحظة سوف نستطيع أن نضع العلاج، ومن ثم نفهم قضية عدم وجود وعي سياسي.

هناك ثلاثة أسباب أو نقاط من الممكن أن تقف وراء عدم وجود وعي سياسي:

النقطة الأولى: معضلة الديمقراطية هي النفط، فنحن نعرف أن الدولة اليوم تركز في اقتصادها بنسبة 90% على النفط، والنفط هو دائما تحت سيطرة الدولة والجانب السياسي، ونظرا لعدم وجود مؤسسات راسخة وفاعلة، وعدم وجود مبدأ الفصل بين السلطات، أدى هذا إلى توظيف الجانب النفطي باتجاه تحقيق تطلعات الجانب السياسي، ولذلك لم يكن توظيفا مهنيا مبنيا على أسس وقواعد اقتصادية لتحقيق الرفاه لجميع أفراد المجتمع.

لذلك قام الجانب السياسي بتوظيف الثروة النفطية لمصالحه، وبعيدا عن مصالح وتطلعات المجتمع.

النقطة الثانية: هل لدينا مؤسسات راسخة وفاعلة بحد ذاتها ولا تسير بحسب الأهواء والأمزجة السياسية، وهذه المسألة مهمة جدا في خلق وعي سياسي أو العكس، بمعنى كلما امتلكنا مؤسسات راسخة ومستقلة وفاعلة، من المؤكّد سوف نتمكن من خلق وعي سياسي لدى المجتمع وهذا سوف يؤثر على السلوك السياسي الذي يخدم المجتمع.

النقطة الثالثة: هناك ما يمكن أن نسميه بالطغيان لتوجيه ثقافة المجتمع بالاتجاه الديني التقليدي وليس الحقيقي، لأن الدين الحقيقي هو الذي يبحث دائما عن سعادة الناس.

هل الوعي السياسي حاجة أم ترف؟ بالتأكيد بما أن الوعي السياسي ينعكس دائما على أغلب مجالات الحياة التي يتطلع لها المجتمع، على مستوى الاقتصاد، على مستوى التعليم، على مستوى الصحة، فمن المؤكد انه يؤثر في هذه المجالات بشكل جيد، هنا سيكون حاجة وليس ترفا.

من الذي يخلق وكيف يخلق الوعي السياسي؟ لأننا عندما نشخص هذه الأسئلة وتكون لدينا أجوبة لها سوف نعرف هنا من الذي تقع عليه المسؤولية ولابد أن يعمل على خلق وعي سياسي للمجتمع ومن ثم يحقق طموحاته وتطلعاته. وعندما نخلق وعيا سياسيا جيدا، فهذا سوف ينعكس على المؤسسات، ومن ثم تصل الخدمات في كل المستويات إلى المجتمع.

- الشيخ مرتضى معاش:

 إن موضوع الوعي بحد ذاته بسيط جدا، لكنه في نفس الوقت كما هو بسيط فإنه معقد جدا، فالوعي هو أفضل النعم التي أنعم الله سبحانه وتعالى بها على الإنسان، لأنه من خلال الوعي يدرك قيمة الحياة ويفهمها ويراها بصورتها الصحيحة والسليمة والواقعية.

إذا اردنا أن نعطي للوعي معنى حتى ندخل في صلب هذا الموضوع، فإن الوعي هو قدرة العقل على إدارة الغرائز والتحكّم بها، ولذلك فإن ما ينتج من قدرة العقل على التحكم بالغرائز، هو ما يسمى بالحكمة، والحكمة تعني اللجام الذي يُلجَم به الحصان، فيكبح جموح الحصان ويسيطر عليه من الانفلات. فإذا استطاع الإنسان أن يتحكم بغرائزه، ويجعلها وسيلة لغاياته العقلانية، سوف يؤدي إلى أن يكون بالنتيجة يعي كل لحظة من لحظات حياته بحقيقتها، ويدرك ما يمارسه وما يستهدفه، ولذلك ذكرتُ بأن الوعي مسألة معقدة.

غالبا تنشأ المجتمعات في ظل التحديات الموجودة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، على الحالة الغرائزية، فالإنسان عندما ينشأ يبدأ بالبحث عن قوت يومه، فلا يهتم بما هو خارج إطار الغريزة، بأن لا يفكر أو يهتم بحريته، أو يكون عنده قلق من الغايات الوجودية أو محاولة فهمها.

لذلك يضيّع الإنسان لحظات الوعي في كل شيء، حتى في لبسه وأسلوب تناوله الطعام، بل حتى في طريقة سيره في الشارع. هذه قضية تحتاج من الإنسان أن يفهم هذه الأمور ومن ثم يذهب نحو الحصول على الأشياء الكبيرة في الحياة، وليس اللذات الآنية فحسب.

بالنتيجة النظام السيّئ الموجود، سواء كان نظام استبدادي أو ديمقراطي، هو نتيجة لتخلي الناس عن المشاركة السياسية، فالناس عندما يهتمون في قضاياهم الخاصة، يتخلون عن المشاركة السياسية، فهذه نتيجة واقعية، ولكن لماذا يتخلى الإنسان عن المشاركة السياسية، السبب لأنه تعلّم بأنه ليس له شأن في الهم السياسي، وهذه القضية بالنسبة له مجرد ترف، والسياسة هناك أشخاص خاصين يحكمون ويعملون وهو ليس له علاقة بهذا الشيء، وليس من اختصاصه ولا من أولوياته أن يدخل في هذا العالم ويعتبره بعيدا عنه.

فالتحديات الموجودة أمام الإنسان على طول التاريخ، الاكتساب الثقافي السياسي دائما كان يؤدي به إلى أن يرضخ ويخضع لواقع الاستبداد، لكي يسلم ويأمن، لكنه لا يعلم بأن جهله هو الذي يقوده نحو الدمار والفقر، لذلك فهو دائما يتخلى عن مسؤوليته وأهميته الشخصية أو وضعه لصالح المستبد، أو النظام السياسي الفاسد.

هذا الشيء سببه ضغط المصالح الآنية، هو الذي يجعل الإنسان يفرّط في المصالح البعيدة المدى، يعني من مصلحة الإنسان البعيدة المدى أنه يدرس ويعمل عشرين أو ثلاثين سنة حتى يحصل على ثمرة حياته، ولكن هناك إنسان يفكر في رزقه وبمعيشته اليومية، ومن ثم يفرط بالمصلحة العامة المستقبلية.

كذلك الحال في البعد السياسي، الآن أغلب الانتخابات الموجودة في دول العالم، هي انتخابات متوترة جدا، حتى في أفضل الأنظمة الديمقراطية، من بريطانيا إلى أمريكا مثلا، فالنخب السياسية الحاكمة والأحزاب الحاكمة دائما هي ترضخ لضغط الناس، لأن الناس يبحثون عن مصالح آنية.

الناس يريدون أن يشتروا البنزين أو الطاقة بسعر رخيص، ويريد أن يدخل (السوبر ماركت) ويتسوق كما يشاء، أو حين يدخل إلى مطعم، فلا يفيده التضخم ولا ارتفاع الأسعار، فيضغط على صاحب القرار السياسي، والسياسي يتماشى مع ما يريده الناس ومع المصالح الآنية من أجل بقائه في السلطة.

بالنتيجة يؤدي هذا إلى هشاشة المنتوج ومخرجات هذه العملية السياسية والبقاء في المشكلة. طبعا تختلف هذه القضية من شعب إلى شعب، ومن مجتمع إلى آخر. فهذا هو التعامل الغرائزي مع الواقع وليس التعامل العقلاني، فالوعي السياسي يعني التعامل العقلاني مع الواقع السياسي، ولكن الغرائز هي التي تحكم عالم اليوم، والحاجات السريعة ومتطلبات الاستهلاك المنتشرة في العالم.

كذلك من المشكلات الموجودة في قضية الوعي السياسي، سياسات التجهيل المنتشرة بقوة، وهي تسمى اليوم بسياسات التضليل، ولكن مفردة التجهيل في رأيي أكثر عمقا من التضليل، فالتضليل هو نتيجة لاستغلال قضايا التجهيل، لذلك دائما تجد التجهيل موجودا بقوة في المجتمعات، حتى المجتمعات المتقدمة يوجد فيها التجهيل.

ومن ضمنها التجهيل الذاتي، أي أن الإنسان هو يريد أن يبقى جاهلا حتى لا تزداد مسؤولياته، ولا يحب أن يطلع على مشكلات عالم اليوم وقضاياه، ولا يهتم بأن يكون عارفا وإنما يكون جاهلا.

طبعا الحكومات والاحزاب والمنظمات أو بعضها، تعتمد على أسلوب وسياسات التجهيل من أجل أن يبقى الإنسان مجرد صوت انتخابي، أو هو مجرد فرد خاضع للنخبة الحاكمة أو الحزب الحاكم، أو الأحزاب الحاكمة، فيبقى جاهلا ولا يستمع لأكثر مما هو موجود.

مثلا خوارزميات الإنترنيت الموجودة الآن في العالم، دائما تركز على قضية التجهيل في كل مجتمع، وطبقوها كثيرا وهي موجودة في الصين مثلا، فهناك خوارزمية خاصة بالشعب الصيني تعطي معلومات خاصة ومعينة بما يتناسب مع ما يريده النظام الحاكم.

مثال آخر هناك خوارزمية موجودة عن حرب غزة، وهي تعطي معلومات للشرق الأوسط، تختلف عن المعلومات التي تعطيها لأمريكا، فهي خوارزميات متحكم بها تؤدي الى ترسيخ التجهيل، بالنتيجة يؤدي هذا إلى ضآلة الوعي السياسي، أو انعدام الوعي السياسي عند الإنسان، وعدم فهمه لكثير من الأمور.

كذلك هنالك حالة من ازدياد الفردية في العالم، فالعالم الاستهلاكي الموجود، والعالم الرأسمالي يشجع على الفردية دائما، لأن الفرد في النظام الرأسمالي دائما يصرف أكثر مما تستهلكه الأسرة، فانعزال الفرد في الهم الخاص والتضخم الفردي يؤدي إلى ابتعاده عن المشاركة، وابتعاده عن الهم والشأن العام، وهذا يؤدي بالنتيجة إلى استمرار سياسات افتقاد الوعي السياسي وعدم معرفة الأمور.

ومن الأسباب الأخرى التغذية الثقافية الشعبية المترسخة في داخل أفكار الناس، فهذا يؤدي بالنتيجة إلى استمرار هذه المعادلات في عدم الوعي السياسي بأهمية الانتخابات. فالانتخابات دائما تكون سيئة نتيجة لهذا الأمر، وعدم فهم الفرد لدوره في التأثير الذي يمكن ان يحدثه بالخريطة السياسية.

بالنسبة إلى السؤال الثاني، فالنظام السياسي السيّئ دائما يؤدي إلى الانهيار، الانهيار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، وبالنتيجة انهيار الديمقراطية وتحولها إلى مجرد مظهر، وهذه نتيجة واقعية.

نلاحظ الفرق بين بعض الدول المتقدمة هو نتيجة لوجود وعي سياسي نسبي قادر على أن يحفظ هذا المجتمع أو هذه الدولة بنسبة معينة في إطار تداول سلمي للسلطة، او في عملية انتخابات جيدة أو لا بأس بها، ولكن عندما يصبح النظام سيئا، مع عدم وجود وعي سياسي، وعدم وجود وعي عند النخبة لاستثمار الديمقراطية لبناء الدولة، فهذا يؤدي بالنتيجة إلى الذهاب باتجاه حافة الهاوية والوقوع في دوامة الكوارث التي تعقب حالة الفساد الذي أصبح سرطانيا، حيث يؤدي بالنتيجة إلى انهيار ذلك المجتمع أو تلك الدولة، وقد لاحظنا مؤخرا بعض الانهيارات.

ولهذا الوعي السياسي وترسيخه لدى الناس، يتطلب ما يلي:

أولا: وجود المؤسسات الرصينة، سواء كانت سياسية أو اجتماعية تؤدي إلى توفير حاضنات جيدة للتعليم، مثل المنظمات غير الحكومية، منظمات اجتماعية، إلى مدارس جيدة، إلى تعليم جيد، إلى ثقافة جيدة في المجتمع، أي تحرك عملية الوعي والفهم عند الناس.

ثانيا: الأحزاب الوطنية، ونقصد الأحزاب التي تحمل أهدافا وطنية وليست أهدافا سلطوية، لحماية رصانة هذه المؤسسات، وعدم تحويل هذه المؤسسات إلى مجرد حصان تركبه هذه الأحزاب.

 ثالثا: انتخابات متوازنة، فالأحزاب غير الوطنية هي التي تؤدي بالنتيجة إلى انتخابات سيئة، لأنه يشرع قانون انتخابي سيّئ، وعملية انتخابية سيئة، ومن ثم التلاعب بالعملية السياسية، والتلاعب بوعي الناس، وإيصالهم في التعامل مع السياسة إلى مستوى قائم على الغرائز وليس على الفهم، واستخدام الرأي العام كوسيلة يحشد فيها عواطف الناس من خلال قضية طائفية أو عرقية أو قومية أو دينية، واستثمارها في كسب الأصوات الانتخابية.

اما الاحزاب الوطنية التي تعمل لصالح المجتمع، فهذا يؤدي إلى قيام انتخابات متوازنة وتداول سلمي للسلطة، واستمرار التراكم المتصاعد الجيد للنظام السياسي والتحرك السياسي، وكلما يزداد التراكم العمودي، (لأن التوسع الديمقراطي الوجود بالعراق الآن أفقي، وليس عموديا)، ترتفع درجة الوعي عند المواطن وعند الناس فيكون مساهما بصورة أكثر، وأكثر مشاركة في السلطة.

أما إذا تبقى الأحزاب تتلاعب بوعي المواطن، وفوضوية العملية السياسية، فهذا يؤدي إلى حالة من الانسداد السياسي الذي قد يؤدي إلى انقلاب عسكري ومن ثم حرب أهلية مستمرة كما يحدث في السودان ولا يُعلم متى تنتهي هذه الحرب.

- الاستاذ صادق الطائي:

بلا شك الوعي السياسي يعطي ويطور عملية التفكير وأسلوب التفكير السياسي في اختيار الطريقة المثلى والصحيحة، ولابد من القول ان عمليات صعبة من حروب وارهاب وتجاوز وتصفيات ربما عرقية ومذهبية او دينية او ثقافية، نقول مثلاً في اوربا تجربة الحرب العالمية الاولى والثانية والتصفيات الجسدية من خلال الانقلابات وعملية الاعتقالات المنظمة وبروز رجالات اعلام ونُخب ربت الجماهير اعتقاداً منها تلك الجماهير سوف تتنعم مستقبلا بدور ديمقراطي جديد.

نتاج تلك الدماء والجهود، لم يأتي الوعي السياسي الذي طور الانظمة الاوربية ودفعها لاختيار الفكر الديمقراطي، الا من خلال تلك التجارب المريرة.

الوعي السياسي لم يكن عملا خياليا وتصّورا عاطفيا او ترفا ثقافيا، بل هو أمر حياتي ضروري تقف عليه أمور الحياة والعباد ومن خلال التجارب والتاريخ المُتعب من حروب وانقلابات وتصفيات جسدية، وصلت الى درجة من الوعي السياسي، عندها حصلت على الديمقراطية.

في العالم الثالث او العالم النائم، سلبوا منا هويتنا الشخصية (الاسلام) الذي يمثل وعياً سياسيا جيداً واختيار سليم لنوع الحكم ديمقراطياً او شوّرويا او مختلطاً عندما تكون الشعوب مثقفة ذات شعور واحساس دقيق مرّكز تفرز حالات متقدمة من السلوك والتعامل الايجابي مع المفردات السياسية من مؤسسات متنوعة من بحوث او دراسات او أفكار وغيرها، انتخابات وطريقة التعامل معها او مؤسسات ذات رقابة غير قابلة للوصاية والمضايقة كل هذه تأتي عندما تملك هويتك وتتعامل مع الاخرين، وفق هويتك ليس وفق أفكار دخيلة او مستوردة.

- أحمد جويد مدير مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات:

الوعي يتعلق بالإدراك والفهم الحقيقي، متى يمتلك الشخص أو الشعب أو المجموعة فهم وإدراك حقيقي سياسي يظهر دور الوعي السياسي، فالسياسة هي كيف تتعامل مع المشكلات والأزمات وتحولها لصالحك، متى يدرك الشعب أنه امتلك وعيا سياسيا، حينما يدرك ويفهم جيدا أن وظيفة الحاكم هي وظيفة وليس سلطة، يعني وجود الحاكم وظيفة لخدمة وليس سلطة.

مشكلتنا في العراق بعد التغيير اننا نرى ممارسات قمعية، فالأحزاب سيطرت على الأمور وهذه السيطرة تقمع الناس، وتقيد وتمارس نفوذ، وللأسف حدث تغييب للوعي، وأن الناس الآن لا تتبع من ينفعها، وإنما تتبع القوي وتتبع السلطة.

فإذا ما أدرك الشعب أو المجتمع بأن هذه الوظيفة التي يتسلمها أي مسؤول بالدولة، هي وظيفة مكلَّف بها، لسنوات أو لأيام معدودة وتنتهي، ويصبح إنسانا عاديا، هنا سوف يكون لدينا وعي سياسي، لكن اذا اعتبرت مجرد وصول هذا الشخص للسلطة اصبح صاحب كاريزما ويجب أن نتبعه، هنا يحدث تغييب العقل، وتغييب الوعي.

باختصار أن المجتمع العراقي، إذا بقيت الدولة ريعية، وأن كل الوظائف مجتمعة بيد السلطة وبيد الدولة لا يمكن أن تنتج لنا ديمقراطية، أو تقود إلى الديمقراطية، فكل التوجهات الآن تذهب نحو مصالح التوظيف، ومصالح المعيشة، والمصالح الشخصية، وتتجه نحو أشخاص معينين سواء ما يتعلق بالانتخابات أو تأييدهم. فكل هذه الأمور مرتبطة بالمصالح الشخصية وليست المصالحة العامة، متى ما تم القضاء على الدولة الريعية وسلطاتها، وأصبحت الدولة هي الراعية والحافظة للأمن فقط وبعض الأمور العائدة لها، هنا يمكننا أن نتكلم عن فكر ديمقراطي وفكر سياسي.

يحتاج الأمر إلى شخص مسؤول فعلا يحارب الدولة، ويكبح من جماح السلطة، ومؤسسات السلطة، ويبدو أن هذه قضية مستحيلة، فقد حاول أمير المؤمنين (ع) أن يحجّم من قضية السلطة والدولة إلى حد ما، ويبقى الخليفة هو راع للأمن فقط، والحفاظ على حقوق الناس وعدم التعدي عليهم.

لكن أتت الدولة الأموية والعباسية بعد ذلك ورسخت لمفهوم السلطة، والقوة، ويمكن جيل بعد جيل والوصول إلى الدولة العثمانية ووصول الاقطاعيات وصدام حسين والآن الأحزاب الموجودة، فبدأت الناس لا تميز بين الحاكم وعمله.

فنحتاج فعلا كبح جماح سلطات الدولة، أو نحتاج إلى شخص يحارب سلطات الدولة، ويحد منها، فمتى ما لاحظنا أن نفوذ الدولة يقلّ على الأشخاص أو على المجتمع، عندئذ يمكن أن نتكلم عن فكر ديمقراطي حر، ووعي سياسي.

أما الآن فالعقل مغيَّب، لا نفكر إلا بالحصول على الوظيفة فقط، والحصول على امتياز ضيق، وأن الإنسان يفكر مئة مرة حينما يقدم على قضية انتخاب أو غيرها، أن هذا الشخص زعيم وقوي وبالمستقبل يبقى زعيما أيضا، لأنه لا توجد قوانين، فإذا كانت هناك بذرة أمل بالقضاء من الممكن أن تكون سلطة تحد من هذا النفوذ، كما حصل مع قضية (الحلبوسي)، باعتباره رئيس سلطة تشريعية.

فمثل هذا الشخص خلال سنوات بسيطة أصبح قوة كبيرة، حتى إذا دخل في الانتخابات فإن حزبه يمكن أن يحدث شيء في المناطق التي رشّح فيها، لماذا لأنه استغل السلطة لمصلحته الشخصية.

فقرار المحكمة قد يكون بذرة تحد من انتفاخ وتغوّل هؤلاء الأشخاص، فقد تبدو بذرة أمل في الأفق، وإلا فإن السلطة هي مغيبة للوعي ومغيبة للعمل الديمقراطي في العراق.

باسم الزيدي، باحث في مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث:

الوعي باختصار هو جوهر الإنسان، يعني هو المحدد الرئيس لسلوكه وأحاسيسه وتطلعاته وتفكيره، الوعي مرتبط أيضا بشكل أساسي بالتفكير، لأنهم تفكّروا أصبح لديهم وعي، لذلك هناك مصطلح هو الوعي بالتفكير، وهناك آيات كثيرة موجودة في القرآن الكريم منها (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا) سورة آل عمران، الآية 191. لأنهم تفكّروا أصبح لديهم وعي، وميزوا الحق عن الباطل ووصلوا إلى جادة الصواب، هذا هو خلاصة الوعي.

والوعي السياسي هو جزء من أنواع الوعي الاجتماعي والاقتصادي والثقافي وإلى آخره، الإمام الراحل السيد الشيرازي (رحمة الله عليه)، شخّص هذا الخلل في الأمة الإسلامية منذ وقت مبكر، لذلك كانت لديه كلمات رائعة جدا، في هذا المجال، منها قوله بحسب ما أتذكر (الأمة الواعية أو الأمة التي تمتلك الوعي أمة لا تُقهَر أبدا).

والأهم من هذا إنهم يستطيعون اختيار الأفضل والأجود في قراراتهم، وهذا يقصد به أن هناك وعيا جمعيا ووعيا فرديا، طبعا الوعي الجمعي هو أرقى بمراحل من الوعي الفردي، أيضا شخص الإمام الراحل الخلل في مقولة له: (إن الإمة الإسلامية تعاني مشكلتين رئيسيتين مزمنتين وهما، مشكلة الحكومات والحكام الظالمين، والمشكلة الثانية غياب الوعي والثقافة)، فشخص الوعي لأننا نعرف بأن الوعي له مولّدات، وله محبطات.

من ضمن المحبطات الحكام والحكومات الظالمة، فهي لا تريد الخير للأمة لذلك تحاول دائما أن تقلل مستوى الوعي للأمة حتى تُقاد بسهولة وتطاوعها في قراراتها، لذلك فإن مشكلة الوعي هي مشكلة رئيسية.

الوعي لا يأتي بصورة مشابهة لتناول وجبة الطعام، وإنما يأتي على شكل مراحل، وله مولّدات، أهم مولداته هي بيئة أو محيط الفرد أي المجتمع، البيئة العادات التقاليد، مستوى التفكير، الثقافة، كل هذا يلعب أدوار قيمية في تطوير الوعي للفرد.

البيئة التي نعيشها حاليا، ممكن يتفق أو يختلف معي البعض، هي بيئة لا تساعد على الديمقراطية، لذلك فهذه واحدة من معاناتنا، مستوى الوعي الموجود هو مستوى لا يساعد على التفكير الديمقراطي، أو إنتاج الوعي السياسي الناجح.

- حيدر الأجودي، باحث في مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية:

في الواقع الوعي السياسي هو أكثر من ثقافة سياسية أو مشاركة رأي أو حوار عام، أو انشغال بقضايا بسيطة في المجتمع، نعم هذه جزئيات بسيطة نتيجة الوعي السياسي الإيجابي، بل هو يشمل أكثر من هذا العنوان حيث يشعر الإنسان بأنه ينتمي إلى مجتمع معين يشاركه مصالحه الإيجابية أو الثوابت الإيجابية.

إضافة إلى نظرة الإنسان إلى محيطه، وقراءته قراءة ذات معارف وقيم تجعل الإنسان يدرك محيطه ويحلل ما يدور حوله، هذا جانب، أما الجانب الآخر، فإضافة إلى ما ذكرت الورقة من محددات، هناك محددات أخرى:

المحدد الأول: الرؤية الشاملة للبيئة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والإنسانية.

المحدد الثاني: إدراك الواقع المحلي والإقليمي لهذه الرؤية السياسية.

المحدد الثالث: الشعور بالمسؤولية والتي جوهرها، الحفاظ أو الالتزام بالثوابت الوطنية والإنسانية.

المحدد الرابع: الرغبة في التغيير مع الحفاظ على الثوابت الوطنية.

إذا ما جمعنا هذه المحدّدات، بالإضافة إلى ما ذكرته هذه الورقة، سوف تنتج لنا فكرا، وهذا الفكر يؤدي إلى إنتاج ثقافة مجتمعية إيجابية، هذه الأمور إذا ما أوجِدت، وجدنا مجتمعا إيجابيا تسوده ثقافة تحمي الوعي السياسي.

لذا فعلى الدولة ومن مصلحتها أن تعمل – طبعا الدولة بما فيها مؤسساتها كافة حتى منظمات المجتمع المدني- على تعزيز وتطوير هذه الثقافة، ثقافة الوعي السياسي من أجل تعزيز وتطبيق العمل الديمقراطي في كل مكان.

- حسين علي حسين، مركز الفرات للتنمية والدراسات الاستراتيجية:

من المؤكَّد أن للوعي السياسي دور مهم وكبير في تحسين وتطوير تفكير المجتمع، ليس في السياسة وحدها، وإنما ينعكس تطور هذا التفكير على الاقتصاد أيضا، فالإنسان الواعي سياسيا غالبا ما يكون واعٍ اقتصاديا، وهذا بالنتيجة يصبّ في صالح الفرد والمجتمع، لهذا فإن أية خطوة تهدف إلى تطوير وعي الفرد سياسيا سوف تصب في زيادة وعيه بالمجالات الأخرى، ولهذا فإن تطوير الوعي السياسي للفرد يعني تطويرا شاملا للمجتمع كله.

ويمكن بناء الوعي من خلال بناء الشخصية، فشخصية الفرد حسب علم النفس مكوَّنة من جانبين أو عامليْن، الجانب الأول هو الجانب الوراثي، والجانب الثاني هو الجانب البيئي، الجانب الوراثي يكون متعلقا بالعائلة ومخرجاتها التي تساعد على بناء شخصية صحيحة، فيكون له وعيا سياسيا أفضل.

اما الجانب الثاني البيئة المتكونة من الثقافة السائدة في المجتمع والأقران، والحركات والمنظمات.

بالنسبة للإجابة عن السؤال الثاني: التجربة الديمقراطية حالها حال كل التجارب الأخرى، فهي تكتسب الخبرات من حراكها المستمر في المجتمع، وكلنا نعرف أن العراقيين ساهموا في عدة دورات انتخابية برلمانية وانتخاب مجالس محافظات، ورغم المعوقات والاخفاقات التي رافقت بعض هذه الدورات، إلا أن المواطن العراقي تطور كثيرا من حيث الرؤية السياسية، كما أن مؤسسات الدولة أيضا أصبحت أكثر قدرة على أداء دورها بشكل أفضل من السابق.

كما أن الجانب الرقابي صار أكثر تطورا، وهذا كله يعود إلى تطور الوعي السياسي عند العراقيين عموما.

ويمكن ربط الوعي السياسي بالإدارة، ومن المتعارف عليه فإن الإدارة متكونة من أربعة أنشطة وهي: التخطيط، التنظيم، القيادة، التوجيه. والرقابة.

ويمكن تكوين الوعي من خلال النخب بوضع خطة واضحة لبناء الوعي، ومن ثم تنظيمها بما يتناسب مع رفاهية المجتمع، ومن ثم قيادة الفرد، ليكون فاعلا في الانتخابات من خلال وعيه السياسي، والمرحلة الأخيرة هو أن تتم مراقبة هذا الفرد وكيفية نمو وعيه أو اضمحلاله من خلال المؤثرات الخارجية التي يمكن أن تؤثر عليه وعلى رفاهية المجتمع كاملا.

- الشيخ مكي الحائري:

كل واحد من الأخوة طرح سؤالا، فوضع يده على نقطة من الألم، والكل تحدثوا عن كيفية إيجاد الوعي السياسي، نحن نعرف أن السياسي يقرأ الماضي ويقرأ الحاضر ويحلل المستقبل، فالشعب الذي لا يعرف ما هو ماضيه وما جرى له وعليه، ولا يعرف الوضع الفعلي لما حوله وما يجري وراء الكواليس، فيبقى محكوما بالجهل، والمحكوم بالجهل لا يمكن ان نتوقع منه الشيء الكثير، السؤال الذي أطرحه هو: كيف يمكن أن نقنع الشعب على أن يقرأ الماضي، ويقرأ الحاضر، حتى يكون له وعي وقدرة على تحليل المستقبل؟

وفي الختام علق الباحث محمد علاء الصافي:

هذا الموضوع يحتاج إلى تضافر جهود كثيرة، المؤسسات المدنية، المؤسسات الدينية، المؤسسات التعليمية، وجهد الدولة بشكل عام، ورؤيتها ونظرتها لقضية الوعي، بصراحة ما لمسناه من الحكومات المتعاقبة في العراق، هو العكس، لأنها تشتغل ضد الوعي السياسي، لأن اكتساب الشعب للوعي يعني إزاحتهم عن المراكز التي حصلوا عليها، بالصدفة أو بالانقلاب أو بالدعم الخارجي.

الشخصيات التي تتصدى للسياسة وتصل إلى أماكن صنع القرار الحقيقية، صحيح أنها تستخدم السبل الديمقراطية، صندوق الانتخابات، لكن الديمقراطية هي ليست فقط الصندوق الانتخابي، الدليل على ذلك أنهم رغم القوة التي يمتلكونها، فالمفروض أنهم يمتلكون القوة والتمكن في الدولة، والمفروض يوجد عندهم جماهير بالملايين كما يدّعون، لكنهم يعجزون عن عقد مؤتمر لجماهيرهم دون أن يدعوا لهذه المؤتمرات بالأموال وشراء الذمم.

هذا يعني ليست هناك قواعد سياسية حقيقية، تستند إلى مشروع سياسي حقيقي، ورؤى ونقاشات، والدليل أن كل هذه المؤسسات السياسية الموجودة اليوم تعجز أن تخلق مؤتمرا انتخابيا خاص بهيئة أمنائها وشخصياتها القيادية في الأحزاب السياسية، فهذه الأحزاب هي فاقدة للديمقراطية، قانون الاحزاب يجب تطبيقه بالشكل الحقيقي.

لا من حيث الأموال ولا من حيث مراقبة هذه الأحزاب السياسية ولا من حيث طرق عملها في الجانب السياسي. بالنتيجة المؤسسات هي الأساس والمواطن يتأثر بالمؤسسات، ويبدأ بالمراقبة، هناك مستوى متنامي لمساءلة شعبية في السنوات الأخيرة لكن لا زال ضعيفا.

الاحباط واليأس هو المسيطر ووسائل الإعلام لا تغذي جانب المساءلة والفاعلية، وثقافة الدعاوى القانونية، وقد لاحظنا خلال السنوات الأخيرة أن نائبا في البرلمان يشتغل في قضية رفع الدعاوي للسلطات الأعلى منه، المفروض به أن يحصل على المعلومة من المؤسسات ومن حقه متابعة هذا الموضوع.

* مركز الامام الشيرازي للدراسات والبحوث/2002–2023 
http://shrsc.com

 

اضف تعليق