q

ما الذي يجعل العالم الغربي، وربما مساحات كبيرة من العالم، تشاطر الفرنسيين آلامهم من صدمة الضربة الارهابية العنيفة في القلب (باريس)؟، فالجميع يقول: "كلنا فرنسا"، فالناس والمباني والسيارات توشحت بالعلم الفرنسي، ذو اللون الازرق والاحمر والابيض. طبعاً؛ سقوط (132) قتيلاً – حتى كتابة هذه السطور- مع اصابة حوالي (300) بجروح، يمثل جرحاً أليماً في النفوس، لاسيما لشعب، مثل الشعب الفرنسي، لم يخبر الموت والدماء بهذا الحجم والطريقة، ربما منذ أن طوى صفحة الحرب العالمية الثانية قبل سبعين عاماً بالتحديد.

بيد أن الى جانب هذه الآلام، نشهد آلاماً مشابهة من الناحية الانسانية، لكنها أكثر حجماً وأعمق جرحاً في بلادنا المنكوبة بالحروب الاهلية والصراعات الدموية، حيث يموت الناس عندنا بالآلاف، وفي غضون لحظة واحدة، تترمل نساء ويتيم أطفال ويدخل الحزن والموت عشرات البيوت، بانفجار سيارة مفخخة او حزام ناسف أو غيرها من وسائل الموت المعرفة تكفيرياً! مع كل ذلك، لا نجد صدى لهذه الدماء المسفوحة على الارض، فبعد حوادث التفجير الارهابي في العراق، يسارع أهل المنطقة بغسل آثار الدماء وجمع الاشلاء من المكان ليعود كما كان، ثم ليواصل الناس حياتهم الطبيعية...!.

البعض يتصور أن وسائل الاعلام، ومقومات نجاحها من تقنية متطورة وخبرات ومهارات عالية، هي التي ترفع الحالة الانسانية الخاصة بالمجتمع الباريسي من محيطه الفرنسي، الى المحيط الاوربي ثم الغربي، ثم الى العالم أجمع. وهو تصور ينطوي على شيء من الصحّة، بيد أن وسائل الاعلام التي من مهامها الاسهام في صناعة رأي عام، لا تخلق قناعات ومتبنيات ثقافية بهذه السرعة، بحيث تدفع كل مواطن في اوروبا او الولايات المتحدة او كندا وحتى استراليا، الى إظهار مختلف اشكال المواساة والتضامن مع ذوي ضحايا احداث باريس، لان هذا التضامن العالمي لم يصدر تفاعلاً عاطفياً مع من سقط قتيلاً وجريجاً في الحادث، فلا سابق معرفة او صلة بهم، إنما التفاعل مع أصل الحدث الذي يسعى الغرب لتحويله الى "قضية"، وإخراجها من كونها حادث ارهابي وجنائي، كما يحصل في اميركا وبلاد اخرى، فالذي يتسبب الموت بهذه الطريقة، قادمٌ من الخارج، ويتطاول على ثقافتهم ونمط حياتهم.

نحن لدينا أيضاً وسائل اعلام، وقنوات ومواقع نت، مع تواضعها، بيد أن مشكلتها أنها لا تنتج ثقافة ووعي كالذي نلاحظه في بعض البلاد الناهضة والواعية. فالجميع يُستفز لدى مقتل شخص بسبب اعمال عنف. وإن مات في المواجهة مع هذه الاعمال العنيفة، فهو مكرمٌ وعظيم.

الانسان المسلم عزيزاً في الإسلام

واذا نلقي نظرة خاطفة على تاريخنا الاسلامي، نجد أن هكذا استسهال بالأرواح، لم يكن موجوداً في عهد الرسول الأكرم، وحتى أمير المؤمنين، بل وجميع الأئمة المعصومون، عليهم السلام، وهم بذلك تجسيد روح الاسلام ومنظومته القيمية والثقافية، فالانسان عزيز وكريم عند الله – تعالى-: {ولقد كرمنا بني آدم}، وآيات القرآن الكريم، وأحاديث المعصومين، عليهم السلام، مشحونة بما يؤكد الحرص على سلامة الانسان وعدم التفريط بدمه إلا في حالة واحدة فقط، وهي الجهاد ضد أعداء الدين، وهي حالة دفاعية، كما يجمع عليها الفقهاء والعلماء.

يروى أن البني الاكرم، صلى الله عليه وآله، أعرب عن اعجابه بأخلاق وسلوك أحد الشباب في المدينة، وكان يتفقده اثناء الصلاة، ولما غاب يوماً عنها، سأل عنه فقيل له: لقد وافته المنية، فبان التأثر على وجه النبي، لفقدانه انساناً محترماً وكريماً في المجتمع.

ولا نجد في سيرة المعصومين، عليهم السلام، ما يدعو المسلمين الى الموت بالشكل الذي نراه اليوم على لسان من يتقمّصون رداء الدين ويحوطونه في مساجدهم الخاصة ومراكزهم، ما درّت معائشهم. أما ما نقرأه عن الامام الحسين، عليه السلام، بأن "خط الموت على ولد آدم..."، فانه جاء في الطريق الى المواجهة المحتومة مع جبهة الباطل، وتذكيراً بأن الموت ملازم للبشر، فاذا كان كذلك، فانه يكون هيّناً في طريق قضية كبرى وهدف سامٍ مثل إحقاق الحق وإزهاق الباطل. وأكثر من ذلك نقول: أن القرآن الكريم يصرّح لنا بأن الموت "مصيبة": {الذين اذا اصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا اليه راجعون}.

وطالما كان النبي واهل بيته، حريصين على دماء المسلمين، كما كانوا أشد حرصاً في الوقت ذاته على إحياء ذكرى من يسفك دمه في سبيل الله، ومن اجل قضية عادلة. و الامثلة على ذلك كثيرة، أبرزها تولّي النبي الأكرم، بنفسه دفن بعض الاصحاب، ومنهم الصحابي "سعد بن عبادة" وغيرهم، ليشهد الناس والاجيال من بعدهم، أنه الشهيد والميت من المسلمين، ليس بالأمر الهيّن، وأنه جزءاً مقتطعاً من المجتمع و الامة.

معطيات تخليد ضحايا الارهاب الطائفي

بالحقيقة؛ لا نعرف التسمية الدقيقة حتى الآن لمن يسقط من ابناء البلاد الغربية على يد الجماعات التكفيرية، وفي مقدمتها "داعش"، إذ ليس في الغرب ارهاب طائفي. إنما تصفية حسابات بين هذا التنظيم وبين جهات مخابراتية وسياسية في الغرب. بيد أن المهم لدينا أن نعرف المعطيات من تخليد شهدائنا الذين يسقطون بالآلاف ضحية هذه الفتنة السوداء التي ضربت الامة، وإيصال الرسالة الصحيحة والكاملة الى المسلمين أولاً؛ ثم الى العالم بحقيقة ما يجري في بلادنا:

أولاً: كشف حقيقة المظلومية التي تدفن – على الاغلب- مع صاحبها، فالصورة النمطية المشاعة في العالم، أن ما يجري في الشرق الاسلامي، إنما هي "حرب طائفية"، فالمشاهد الدموية التي تنقلها بعض وسائل الاعلام الغربية والعربية لشعوبها، عن العراق، توسم على أنها حرب بين الشيعة والسنة، حتى المجازر في الشوارع والاسواق بالسيارات المفخخة وغيرها، توضع في خانة الصراع الطائفي، وفق قاعدة الفعل وردة الفعل التي ترسمها فضائيات وصحف ومواقع نت وغيرها، بما يجعل الامر طبيعياً لا يستدعي الأسف والأسى.

وهذا تحديداً ما تعوّل عليه وسائل الاعلام الغربية في هذه المرحلة بالذات، فهي تجعل من ضحايا هذه الاحداث، وسيلة لكسب التأييد العالمي على أنهم "ضحية الارهاب"، وعلى العالم مساعدة الدول المتضررة والتضامن معها.

وهنا مرارة غياب الحقيقة؛ فهؤلاء يصنعون ظَلَمة في الدهاليز المخابراتية والسياسية المظلمة، بينما نحن أمامنا ظلمة بلحمهم ودمهم، يوغلون في دمائنا، بينما نجد عوائل المقاتلين الشيشان – مثلاً- أو البلاد الاسلامية الاخرى التي ينطلق منه الانتحاريون والذباحون، يشعرون بالفخر، لأن ابنائهم انما يقاتلون للدفاع عن "دولتهم الاسلامية"! وربما يسود نفس الشعور لدى شعوب اسلامية اخرى، على أن هناك في الشرق الاوسط مشاكل سياسية بين الحكام والشعوب، وهذه من افرازاتها.

ثانياً: في الجانب الانساني، يجدر بأن يكون للشهداء وضحايا الارهاب الطائفي، منزلة خاصة في نفوس المجتمع، في كل مكان من العالم الاسلامي. فهؤلاء انما سقطوا ضحية فتنة سوداء، تضافرت في وجودها عوامل عديدة، منها العامل الاجتماعي، والهشاشة في نفوس البعض داخل الامة، فكانت النتيجة صعود نجم التطرّف والعنف والظلم، وتراجع قيم التعقّل والتعايش والسلام. لذا نسمع بين فترة واخرى فعاليات في اوربا وفي روسيا واميركا وغيرها من البلدان، لإحياء أبطال لديهم ضحوا بحياتهم من اجل وطنهم. وهذا ينمّي في نفوس الجيل الجديد، مشاعر المسؤولية بعدم السماح لأي نوع من التطرّف الفكري او أي محاولة للترفّع والتطاول على الآخرين.

ثالثاً: وهو الأهم في الجانب السياسي؛ بأن يُماط اللثام عن المسبب الحقيقي لكل هذه الفتنة السوداء، واليد التي زرعت بذور التطرّف في العقول، والاراضي التي ترعرع فيها الانتحاريون والاموال التي غذتهم ووسائل الاعلام التي تروج لهم، ومختلف اشكال الدعم والاسناد المباشر وغير المباشر. وهذا لا يقتصر فقط على دول بعينها؛ كما تمت الاشارة الى السعودية وقطر في بعض الاوساط الغربية، إنما المدان الحقيقي الذي يجب ان تتعرف عليه الشعوب المسلمة وجميع شعوب العالم، فهو "الفكر المتطرف" الذي اشترك في ولادته "الوهابية" و"السلفية".

اضف تعليق