تواجه وزارة الخارجية الأمريكية تقشفا واضحا في التمويل على مستوى الميزانية العامة للولايات المتحدة، وعلى مستوى الدعم من الإدارة الأمريكية، وهذا التقشف والخفض يشمل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية التابعة للوزارة المعنية بجهود صنع وبناء السلام عبر المساعدات وبرامج التنمية، ويعود جزء من التقشف في أرقام مشروع الموازنة لوزارة الخارجية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية بقيمة أكثر من 8,8 مليار دولار، إلى صفقة إقرار الموازنة المؤقتة التي تم الإتفاق عليها قبل أيام كي تنهي إغلاق الحكومة والمؤسسات الفيدرالية.

ومن جانب آخر هنالك تخصيص للخارجية وإنفاق فعلي على الدبلوماسية الأمريكية ولكن أيضا بثوب أمني، فقد ذهبت أكثر التخصيصات نحو حماية وتأمين السفارات مما إلتهم جزءا متزايدا من الميزانية الإجمالية لوزارة الخارجية، إذ يتعين على وزارة الخارجية تسديد الفواتير الأمنية للمؤسسات الأمنية الأمريكية المعنية بحماية البعثات والسفارات والشخصيات في كل دول العالم، وهي تشكل رقما بمثابة تحدي مالي كبير لوزارة الخارجية التي تنفق من ميزانية برامجها القنصلية والدبلوماسية على الأمن جزءا كبيرا.

الميزانية المقترحة للعام الحالي للخارجية تشير إلى أن تكلفة الأمن تلك ارتفعت إلى ٤٥% مما يعني أن ٥٥% فقط من ميزانية البرامج القنصلية والدبلوماسية ستذهب فعليا إلى إدارة العمل الدبلوماسي وهذه نسبة هزيلة قياسا إلى مستوى التقليص.

هذا التقشف قد يؤشر إستخدام القوة الخشنة لإدارة ترامب ولكن هنالك من يحذر أن التقليص يقوض النفوذ الأمريكي العالمي. فقد حذر من هذا التقليص المحتمل في الميزانية الشاملة لعام ٢٠١٨ ما يقارب ١٥٠ من القادة العسكريين البارزين السابقين وممن لديهم خبرات طويلة الأمد، وتولوا مناصب مهمة كرؤساء أسلحة الجيش والقوات البحرية والقوات الجوية ومشاة البحرية والعمليات الخاصة، من أن التقليص يقوض النفوذ الأمريكي الدولي وينقص من ثقة الحلفاء ويزيد من المخاطر في مناطق النفوذ ويزعزع قدرة واشنطن على بناء شراكات سياسية وإقتصادية منظورة، في الوقت الذي تتنامى فيه التهديدات المؤكدة للأمن القومي الأمريكي، إضافة إلى أمن الحلفاء والشركاء.

وتتركز أيضا هذه الرؤية لزيادة الإنفاق على وزارة الخارجية كون التقشف يعمل على تقليص هيمنة وقدرة الولايات المتحدة على الزعامة العالمية في وقت بدأ النظام الدولي يقترب من موازاة هذه الزعامة، وتحول النظام من أحادي القطبية إلى متعدد الأقطاب مما يجعل قناعة الإدارة الأمريكية بهذا الواقع والعودة إلى الخلف ورفع شعار أمريكا أولا والذي يعني حسب ما نفهمه عزلة أمريكا، وهذا شعار بدأ به ترامب وقبله أوباما بتفعيله في ظل أوقات مضطربة بالنسبة لواشنطن تستدعي التدخل بما يليق بمكانة الولايات المتحدة كقوى عظمي مارست أدوارا ريادية في تاريخ العلاقات الدولية وضبط النظام الدولي وتوازناته.

لكن يوجد كفاح الآن من قبل المشرعين للعثور على تمويل إضافي للوزارة، وهنالك فرصة في الأسابيع المقبلة أمام المشرعين للعثور على تمويل وتخصيصات إضافية لوزارة الخارجية لميزانية العام الحالي ٢٠١٨، وهذه الفجوة المقلصة ستواجههم كذلك وبشكل مماثل في ميزانية عام ٢٠١٩ بأنها ستتأخر وتنعكس نقاشات عام ٢٠١٨ عليها وتصبح سياق أو سابقة سياسية. والتقليص المحتمل المؤشر في صفقة الميزانية لعام ٢٠١٨ أنها دعمت التمويل للدفاع والأمن وقلصت التمويل الدبلوماسي والجهود غير الدفاعية حتى في ميزانية عمليات الطوارئ في الخارج التي كانت تستحصل الخارجية على ثلثها مع الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية.

وكما تعمل وتكافح جماعات مختلفة، من عسكريين سابقين وإقتصاديين ودبلوماسيين للعثور على تمويل إضافي لجَسْر الهوة المالية بين وزارتي الدفاع والخارجية، إذ يمثل هذا التخفيض أكبر تقليص للموارد تجاه وزارة الخارجية والسلك الدبلوماسي وبرامج التنمية منذ التسعينيات في القرن الماضي.

إن تقليص الميزانية وخفض الإنفاق والموارد يعمل بشكل مؤكد على إنحسار المعنويات ومستوى الأداء والتأثير في وزارة الخارجية مما يعمل على طغيان حقل الخلافات السياسية والدبلوماسية على مستوى الداخل والخارج في وقت تحتاج أمريكا والعالم إلى إعادة تنظيم وضبط العلاقات الداخلية والدولية لإحتواء المخاطر والتهديدات.

فالولايات المتحدة تواجه حزمة معقدة وصعبة من التحديات العالمية مثل تحدي صعود روسيا والصين وتهديدات إيران ونفوذها في الشرق الأوسط وتهديدات كوريا الشمالية النووية لشبه الجزيرة الكورية، وحماية أمن الكيان الصهيوني وعملية السلام في الشرق الأوسط والتوترات الأفريقية ومخاطر تمدد وعودة التنظيمات الإرهابية في مناطق النفوذ والحلفاء والداخل الأمريكي، كلها تتطلب دور أمريكي قوي لتفعيل آلية الردع والإحتواء، وكل هذا يتطلب المزيد من الأموال وتدفقها للشؤون الخارجية والدبلوماسية بما يجعلها تتناسب مع مستوى الإحتواء والمعالجة الضرورية لهذه التحديات الحيوية والملحة.

فأي تقدم عسكري يجب أن يرتبط بتقدم دبلوماسي وسياسي لتحقيق الإستقرار في مجتمعات ومناطق مابعد الصراع، فمثلا التقدم ضد داعش يطرح تساؤلات عن كيفية الحفاظ على هذا التقدم وحماية المكتسبات عبر ترسيخ السلام وتمتين التعايش، فالإنتصار في ساحات القتال يتطلب بعده جهدا دبلوماسيا لملأ الفراغ بدل أن تتحقق حالة الإرجاع بالنسبة للجماعات المُسقَطة المتمثلة بالأطراف الإرهابية لملئه.

من المؤكد القول بأن الرئيس ترامب يتعمد تهميش الدبلوماسية الأمريكية لحساب الدفاع، ولكن دون أن يحسب حسابات مخاطر ذلك بإعتبار أن العمل الدبلوماسي يسهم في إعادة البناء والحفاظ على المكتسبات العسكرية. والدليل على ذلك وجود مناصب دبلوماسية رفيعة وكبيرة شاغرة في وزارة الخارجية منذ عام كامل، وهذا ينم بأن ترامب لا يؤمن بالإرتقاء بالعمل الدبلوماسي التدريجي ومكاسبه على مستوى صنع السلام والتنمية والحفاظ على سلامة أمريكا وحلفائها، في حين يريد الإعتماد على منطق الردع والتنافس العسكري، فقبل أيام تبنت إدارته مراجعة جديدة للموقف النووي الأمريكي الجديد الذي أصدرته إدارة أوباما مما يعكس قناعة هذه الإدارة بأن التنافس بين القوى الكبرى يرسم ملامح المشهد الدولي.

أو أن إدارة ترامب تتبنى منطق الإنكفاء وعدم التدخل لصالح الحلفاء دون أثمان مقدمة سلفا، فترامب يشتكي من" أن أمريكا تنفق مليارات الدولارات في تقديم الحماية بتكلفة رخيصة لحلفاء غير ممتنين"، ومن هنا فهو يسعى إلى تغيير ذلك فلا يوجد شيء مجاني بنظره، وهذا يتطلب إضعاف الدبلوماسية الأمريكية، ودعم أكبر للبنتاغون.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2018Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق