ثمة علاقة عميقة تربط بين مفهوم المواطنة ومفهوم العدالة السياسية في السلطة والمجتمع. حيث إن المواطنة تأخذ أبعادها الحقيقية في الفضاء الاجتماعي، حينما تتحقق العدالة السياسية وتزول عوامل التمييز والإقصاء والتهميش. فحينما تتحقق العدالة يتعمق مفهوم المواطنة في نفوس وعقول أبناء المجتمع. أما إذا غابت العدالة...

مقدمة:

ثمة علاقة عميقة تربط بين مفهوم المواطنة ومفهوم العدالة السياسية في السلطة والمجتمع. حيث إن المواطنة تأخذ أبعادها الحقيقية في الفضاء الاجتماعي، حينما تتحقق العدالة السياسية وتزول عوامل التمييز والإقصاء والتهميش. فحينما تتحقق العدالة يتعمق مفهوم المواطنة في نفوس وعقول أبناء المجتمع. أما إذا غابت العدالة السياسية، وساد الاستبداد السياسي، وبرزت مظاهر الإقصاء والتهميش، فإن مقولة المواطنة هنا تكون في جوهرها تمويهاً لهذا الواقع وخداعاً لأبناء الوطن والمجتمع.

تتحقق العدالة يتعمق مفهوم المواطنة في نفوس وعقول أبناء المجتمع. أما إذا غابت العدالة السياسية، وساد الاستبداد السياسي، وبرزت مظاهر الإقصاء والتهميش، فإن مقولة المواطنة هنا تكون في جوهرها تمويهاً لهذا الواقع وخداعاً لأبناء الوطن والمجتمع

لذلك فإننا نعتقد أن المقياس الحقيقي لقياس مستوى المواطنة في النظام السياسي والاجتماعي، هو مقدار وجود متطلبات العدالة السياسية في الواقع الاجتماعي والسياسي.

لذلك فإن الحصول على مواطنة حقيقية ومخلصة، بحاجة إلى عدالة سياسية تستوعب جميع القوى والشرائح والفئات، وتكون من ثوابت النظام ومؤسسة الدولة وحقائق المجتمع والمواطنين. فالطريق إلى المواطنة بكل مقتضياتها ومتطلباتها، هو العدالة بكل مستلزماتها وآفاقها.

وإن المسؤولية الفكرية والسياسية اليوم، تقتضي العمل على تجلية حقائق المواطنة، في سياق بناء حياة وطنية وسياسية، تستند في كل خياراتها ومشروعاتها وخططها على العدالة، بما تعني من مشاركة ومساواة ومسؤولية، وتداول وانفتاح مستديم، وتواصل مستمر مع كل مكونات المجتمع وتعبيرات الوطن.

في معنى العدالة:

من البديهي القول: إن العدالة هي روح الإسلام وجوهره، وإن مفاهيم الإسلام المتعددة ونظمه التشريعية والقانونية، قد ركّزت أهدافها وغاياتها على ضوئها ومن أجلها، وذلك في مختلف الحقول والمجالات. لذلك نجد أن الإسلام ينهى عن اتِّباع الهوى، لأنه سبيل الظلم والانحراف.

ويقول تبارك وتعالى: (وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا)[1]. كما أنه نهى نهياً قاطعاً وصريحاً عن طاعة الإمام الفاسق والجائر والظالم. إذ يقول عز من قائل: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ)[2]. وقال تعالى: (وَلاَ تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ)[3].

وعليه فإن العدالة هي جوهر الإسلام، ومضمون قيمه ومبادئه، وهي الغاية التي يسعى الأنبياء عبر التاريخ إلى إرساء معالمها وحقائقها في المجتمع الإنساني.

ولعل من أهم جوانب هذه القيمة الكبرى، هو الجانب السياسي، بحيث يكون السلوك السياسي بكل أبعاده وآلياته، منسجماً ومتناغماً مع المنطلقات النظرية، التي ينطلق منها ويؤمن بها الإنسان المسلم في هذه الحياة.

والعدالة السياسية في هذا السياق تعني العناصر التالية:

إن الاختلاف الفكري والسياسي بكل صوره وأشكاله، ليس مدعاةً أو سبباً لسلب الحقوق أو نقصانها. وإنما تبقى حقوق الإنسان مصانةً وفق مقتضيات العدالة، فكما أن للإنسان حق الاختلاف مع أخيه الإنسان، فله في الوقت ذاته حق ممارسة كل حقوقه بعيداً عن السلب أو التمييز.

إن الاختلاف الفكري والسياسي بكل صوره وأشكاله، ليس مدعاةً أو سبباً لسلب الحقوق أو نقصانها. وإنما تبقى حقوق الإنسان مصانةً وفق مقتضيات العدالة. فكما أن للإنسان حق الاختلاف مع أخيه الإنسان، فله في الوقت ذاته حق ممارسة كل حقوقه بعيداً عن السلب أو التمييز. فالعلاقة في الدائرة الوطنية بين مختلف المكونات والتعبيرات، هي علاقة اختلاف ومساواة في آن واحد. فلا يمكن أن نلغي حالة التنوع الموجودة في الفضاء الاجتماعي والسياسي، كما أنه لا يمكننا صياغة واقعنا العام على أسس التهميش والإقصاء، بدعوى التنوع والتباين في الأفكار أو المرجعيات أو القناعات السياسية.

وإنما اعترافنا بهذا التنوع الأصيل الموجود في مجتمعنا، ينبغي أن يقودنا جميعاً إلى بناء نظام سياسي واجتماعي وثقافي، يعترف بحق الاختلاف والتنوع، ولكنه في الوقت ذاته يؤكد على المساواة والمواطنة المتساوية في كل شيء. فالمطلوب دائماً هو وجود المناخ القانوني والسياسي، لكي يمارس التنوع -بكل أطيافه وتعبيراته- دوره في الحياة العامة، وفي المقابل على قوى التنوع أيضاً أن تبرز خيارها الوحدوي. فالمسألة هي أننا مع ممارسة التنوعات والتعدديات التقليدية والحديثة لدورها في الحياة السياسية والعامة. كما أننا نعتقد أن وحدتنا وتماسكنا الداخلي مرهون إلى حد بعيد على قدرتنا على احترام التعددية الفكرية والسياسية الموجودة في فضائنا الاجتماعي والثقافي.

«إن الدولة تفرض رؤيتها ومذهبها، ولا تترك مساحة للمذاهب الأخرى أن تمارس أفكارها واجتهاداتها وأنشطتها، فتضطر هذه الأخيرة أن تعمل بالتقية أو أن تنسحب من الحياة العامة، إن دولة كهذه، ليست دولة إسلامية. وأنا في هذه المناسبة أطرح على المؤرخين والمفكرين والفقهاء، أن يدرسوا سمات الدولة السلطانية، ويرَوا كم فيها من الإسلامية، وكم هي فاقدة للشرعية الإسلامية بالمعنى الكلامي وبالمعنى الفقهي»[4].

إن مؤسسة الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها ومناصبها، ينبغي أن تكون محايدةً تجاه عقائد مواطنيها، بحيث لا تكون مؤسسة الدولة قامعةً لعقائد مواطنيها، سواءً بدوافع دينية أو سياسية. فالعدالة السياسية تقتضي ألَّا تتحول مؤسسات الدولة إلى ممارسة الحيف والظلم والتهميش والتمييز تجاه بعض المواطنين، تحت تأثير الدوافع الدينية أو السياسية. فالدولة ليس مهمتها تغيير قناعات وعقائد مواطنيها، وإنما حماية أمنهم وتسيير شؤونهم الكبرى.

إن مؤسسة الدولة بكل أجهزتها ومؤسساتها ومناصبها، ينبغي أن تكون محايدةً تجاه عقائد مواطنيها، بحيث لا تكون مؤسسة الدولة قامعةً لعقائد مواطنيها، سواءً بدوافع دينية أو سياسية. فالعدالة السياسية تقتضي ألَّا تتحول مؤسسات الدولة إلى ممارسة الحيف والظلم والتهميش والتمييز تجاه بعض المواطنين، تحت تأثير الدوافع الدينية أو السياسية

وإضافةً لهذا، فإنه من الضروري ألَّا تكون مناصب الدولة وامتيازاتها خاصة لفئة أو شريحة اجتماعية فقط، وإنما من الضروري أن تكون مفتوحةً لكل الكفاءات والطاقات الوطنية، بصرف النظر عن أصولهم الدينية والمذهبية، أو منابتهم القبلية والقومية. فهي دولة الجميع، ولا بد أن تكون امتيازاتها ومكاسبها أيضاً للجميع. وعليه فإن العدالة السياسية تقتضي أن تكون علاقة الدولة بمواطنيها على مختلف الصعد علاقةً مباشرة، ودون واسطةٍ مناطقيةٍ أو مذهبيةٍ أو قبلية.

فلكل مواطن الحق في أن يتحمل مسؤولية أي منصب في الدولة. كما أن مشروعات الدولة التنموية والخدمية ينبغي أن تستوعب كل المناطق والشرائح الاجتماعية. فالتحيز المذهبي أو السياسي من قبل مؤسسات الدولة، لا ينسجم ومقتضيات العدالة السياسية. لذلك فإن المطلوب أن تكون الدولة محايدة تجاه عقائد وقناعات مواطنيها الدينية والسياسية.

والمحايدة هنا تعني: ألَّا تتحول عقائد المواطنين إلى مبرر للتمييز الإيجابي أو السلبي. فكل المذاهب والعقائد التي يؤمن بها المواطنون، لا بد أن تكون محل الرعاية والاحترام من قبل مؤسسات الدولة. وهذا جزءٌ أصيلٌ من مطالبتنا، بضرورة أن تحترم الدولة مواطنيها على مختلف الصعد والمستويات.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن العديد من أزماتنا السياسية والثقافية والاجتماعية الداخلية، هي من جرّاء انحياز الدولة إلى فئة اجتماعية أو مذهبية معينة، على حساب بقية الفئات والمذاهب الموجودة في الوطن.

وذلك لأن هذا الانحياز، هو الذي يقود إلى ممارسة التمييز أو التهميش ضد الفئات والمذاهب الأخرى، مما يوتّر الأجواء ويفاقم من الإحن والأحقاد الداخلية، ويحوّل الدولة من مؤسسة جامعة وراعية للجميع إلى مؤسسة منحازة وتمارس التمييز في قراراتها وخططها ومشروعاتها ضد فئات وشرائح وطنية.

ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن العديد من أزماتنا السياسية والثقافية والاجتماعية الداخلية، هي من جرّاء انحياز الدولة إلى فئة اجتماعية أو مذهبية معينة، على حساب بقية الفئات والمذاهب الموجودة في الوطن

من هنا فإننا نعتقد أن العدالة السياسية، تقتضي أن تكون علاقة الدولة بمواطنيها علاقة عادلة ومباشرة، وبعيدة عن الانحياز لفئة على حساب أخرى، أو لمنطقة على حساب المناطق الأخرى.

إن العدالة السياسية لا يمكن أن تتحقق متطلباتها ومقتضياتها، دون العلاقة العادلة والمتساوية بين مؤسسة الدولة بكل هياكلها، مع مواطنيها، بصرف النظر عن أصولهم العرقية أو منابتهم الإيديولوجية والمذهبية. فهي دولة الجميع، وينبغي أن يكون سلوكها السياسي والإداري والاقتصادي منسجماً وهذه الحقيقة.

إن العلاقة جدُّ عميقةٌ بين مفهوم العدالة السياسية، وحقائق تكافؤ الفرص في الفضاء الاجتماعي والوطني. إذ إنه لا يمكن بأية حال من الأحوال إنجاز مفهوم العدالة في الواقع الاجتماعي دون إرساء معالم وحقائق تكافؤ الفرص.

فتكافؤ الفرص في الإطار الوطني، هو أحد البوابات الرئيسة لإنجاز مفهوم العدالة والمساواة.

وتكافؤ الفرص هنا ليس شعاراً يرفع أو ادِّعاءً يُدَّعى، وإنما هو عبارةٌ عن إرادةٍ سياسيةٍ واستراتيجيةٍ وطنية، تتجه بصدق نحو إزالة كل المعوّقات والعوامل التي تُميِّز بين المواطنين، وتمنح البعض لدواعي مختلفة جملةً من الامتيازات والمناصب.

وبكلمة فإن تكافؤ الفرص في السياق الوطني يعني:

إزالة كل القرارات والإجراءات، التي تمنع بعض المواطنين لاعتبارات فكرية أو سياسية أو مذهبية أو مناطقية، من مزاولة العمل أو تحمل المسؤولية في بعض الحقول والميادين. فتكافؤ الفرص يقتضي إزالة كل الإجراءات والخطوات، التي تؤسس لحالة التمييز والتهميش لبعض المواطنين، لاعتبارات لا تنسجم وحقائق المواطنة المتساوية.

إن الاهتمام بالمشاريع الخدمية والتنموية في الإطار الوطني، لا بد أن يتم بالتساوي، وبعيداً عن حالات التمييز لبعض المناطق أو الشرائح الاجتماعية.

إن المسؤوليات الوطنية في مختلف الميادين والحقول، ينبغي ألِّا تكون حكراً على فئةٍ أو منطقةٍ أو شريحة. وإنما من مقتضيات العدالة السياسية، أن تشترك كل طاقات وكفاءات الوطن في تحمل المسؤولية، وإدارة الشأن العام بعيداً عن التحيز أو احتكار المناصب والمسؤوليات

إن التنمية المتساوية هي أحد تجليات تكافؤ الفرص. فلا يجوز بأي شكل من الأشكال، أن يتم الاعتناء الاقتصادي والخدمي والتنموي ببعض المناطق، وإهمال المناطق الأخرى. فكل المناطق والمجتمعات ينبغي أن تكون على حد سواء في الاهتمام والرعاية الخدمية والتنموية وتطوير بنيتها التحتية.

إن المسؤوليات الوطنية في مختلف الميادين والحقول، ينبغي ألِّا تكون حكراً على فئةٍ أو منطقةٍ أو شريحة. وإنما من مقتضيات العدالة السياسية، أن تشترك كل طاقات وكفاءات الوطن في تحمل المسؤولية، وإدارة الشأن العام بعيداً عن التحيز أو احتكار المناصب والمسؤوليات.

وعليه فإنه لا يمكن تحقيق العدالة السياسية في الفضاء الوطني، بعيداً عن قيمة تكافؤ الفرص، والالتزام بكل المقتضيات والآفاق التي تبلورها هذه القيمة، سواء على الصعيد السياسي أو الاجتماعي.

وخلاصة الأمر: أن تكافؤ الفرص ومقتضيات العدالة السياسية، تدفعاننا إلى القول: إن توسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة من ضرورات الاستقرار ومقتضيات العدالة والمساواة.

إن الفضاء السياسي والثقافي والإعلامي الوطني ليس ملكاً لفكر أو طائفة أو شريحة. وإنما من الأهمية أن يستوعب كل التنوعات والتعبيرات الموجودة في الوطن والمجتمع. وأية محاولة لاحتكار هذا الفضاء بكل مستوياته لصالح فئة مذهبية أو اجتماعية أو مناطقية، هي محاولة تساهم في إذكاء التوترات الداخلية، ولا تنسجم بأي شكل من الأشكال مع مقتضيات العدالة السياسية.

فالإعلام الوطني بكل مؤسساته ومنابره، لابد أن يكون مفتوحاً لكل القوى والتعبيرات الوطنية. كما أن الفضاء الثقافي والسياسي، لا يمكن أن يتشكل على نحو حقيقي دون مشاركة جميع الأطراف والتعبيرات.

لهذا كله فإننا نعتقد أن ضرورات المواطنة المتساوية ومقتضيات العدالة السياسية، تدفعاننا إلى بيان أن الفضاء السياسي والثقافي والإعلامي الوطني، لابد أن يكون مفتوحاً لكل تنوعات الوطن، بحيث تشترك جميع هذه التنوعات في إثرائه وتنميته بعيداً عن العقلية الأُحادية والاحتكارية، التي تعمل على احتكار هذه الفضاءات لصالح فكرٍ أو رؤيةٍ هي جزءٌ من الوطن وليست كل الوطن.

ولا شك أن احتضان الفضاء السياسي والثقافي والإعلامي الوطني لكل تنوعات الوطن يقتضي الآتي:

فسح المجال للإنتاج الثقافي والأدبي والإبداعي الذي يقوم به أبناء الوطن، بصرف النظر عن منابتهم الإيديولوجية والمذهبية والفكرية، لكي يأخذ دوره الطبيعي في تشكيل الرأي العام الوطني.

إن معالجة ظاهرة العنف، بحاجة إلى رؤية سياسية - مجتمعية مركّبة، قوامها صيانة حقوق الإنسان، وتعميم ثقافة العفو والتسامح والبر والقسط والحوار وحق التعبير والاختلاف، وإطلاق مشروع سياسي وطني، يتجاوز مآزق الراهن، ويجيب عن تحديات المرحلة.

أن تقوم مؤسسات الإعلام والثقافة الوطنية بكل مستوياتها ومنابرها، باستيعاب كل طاقات الوطن وكفاءاته دون محاباة أو تمييز وتهميش.

فتح الحياة السياسية الوطنية لكل إمكانات الوطن البشرية والفكرية والسياسية، لكي تشارك في بناء الوطن وتعزيز وحدته وتمتين جبهته الداخلية.

إتاحة الفرصة الحقيقية للمرأة، للمشاركة بشكل نوعي في مشروعات التنمية وإدارة الشؤون العامة في المجتمع والدولة. إذ لا يمكن أن يتحقق مفهوم تكافؤ الفرص في الواقع الوطني، دون فسح المجال النوعي للمرأة لكي تساهم في مشروعات التنمية والتطور والتقدم.

والعدالة السياسية لا يمكن أن تنجز بعيداً عن مساهمة المرأة في الحياة العامة للمجتمع.

العدالة وحقوق الإنسان:

لا يمكن أن يغادر العنف مجتمعنا وواقعنا السياسي، دون إرساء معالم وحقوق الإنسان في فضائنا الاجتماعي والوطني. فحينما تسود في مجتمعنا قيم حقوق الإنسان، تتراجع كل موجبات وعوامل العنف السياسي.

لذلك فإن ظاهرة العنف السياسي، لا يمكن مواجهتها فقط بالوسائل الأمنية. لأنه قد ثبت من خلال تجارب الكثير من الشعوب والمجتمعات، أن هذه الوسائل وحدها، هي التي تفاقم من الأزمات، وتزيد من حدة التوترات.

من هنا فإن معالجة ظاهرة العنف، بحاجة إلى رؤية سياسية - مجتمعية مركّبة، قوامها صيانة حقوق الإنسان، وتعميم ثقافة العفو والتسامح والبر والقسط والحوار وحق التعبير والاختلاف، وإطلاق مشروع سياسي وطني، يتجاوز مآزق الراهن، ويجيب عن تحديات المرحلة.

وعليه فإن إنهاء مسلسل العنف من مجتمعنا، يتطلب العمل على بناء حياة سياسية وثقافية جديدة، تستند في مشروعاتها وإجراءاتها إلى قيم العدالة والبر والتسامح وحقوق الإنسان.

فالعلاقة جِدُّ عميقةٌ بين مبدأ العدالة ومفهوم حقوق الإنسان. حيث إن العدالة بكل ما تحتضن من قيم ومتطلبات، هي الحاضن الأكبر لمشروع حقوق الإنسان. ولا يمكن أن توجد حقائق حقوق الإنسان، دون العدالة السياسية في المجتمع. فهي بوابة نيل الحقوق وصيانة كرامة الإنسان.

لذلك جاء في الحديث الشريف أن «العدل حياة الأحكام» إذ لا حياة لأحكام وقيم الدين إلا بحياة أهدافه وغاياته. وقد جاء في الحديث أن: «الناس يستغنون إذا عُدل بينهم»[5].

لا يمكن إقصاء العنف السياسي من المجتمع بالمزيد من القمع وانتهاك حقوق الإنسان، لأن هذه الممارسات تزيد من فرص العنف، وتهيئ المناخ الملائم لبروز نزعات التطرف بكل مستوياتها وأشكالها

ويقول المرحوم الشيخ مرتضى مطهري في هذا الصدد: «إن أحد أسباب تخلف الأديان، من وجهة نظر علم النفس الديني، هو انتقال القائمين على الدين نوعاً من التناقض بين الدين والحاجات الطبيعية، وخاصة عندما تتبلور تلك الحاجات في أوساط الرأي العام.

بينما الحقيقة أن الإيمان بالله يقوم على ثقافة العدل والحقوق الذاتية للناس، ولا يمكن إقرار الحقوق الذاتية والعدالة الواقعية إلا مع الإيمان بالله تعالى، بعيداً عن الفرضيات والاتفاقات. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الإيمان بالله أفضل ضامن لتنفيذهما»[6].

ويضيف الشهيد مطهري في هذا الصدد في كتاب آخر بقوله: «لو يتابع السبيل الذي فتحته (العدلية)، ويحصل الاهتمام بأسس الحقوق الإسلامية، ستغدو الكثير من الآيات التي لا تعتبر الآن من آيات الأحكام، آيات أحكام. إن التنكر لأصل العدل، وتأثير هذا التنكر على الأفكار، حال دون تطور الفلسفة الاجتماعية للإسلام، وارتكازها على قواعد عقلية وعملية متينة، ومشاركتها في الفقه كدليل وموجِّه. والنتيجة هي ظهور فقه غير متلائم مع سائر الأصول الإسلامية، بعيد عن مبادئ وأسس الفلسفة الاجتماعية للإسلام»[7].

لذلك من الضروري أن نعتني بخلق الوعي الحقوقي، القادر على رفض وفضح كل الانتهاكات التي يتعرض لها الإنسان في مجتمعنا.

إذ إن الخطوة الأولى في مشروع صيانة حقوق الإنسان، هي الوعي بهذه الحقوق، ورفض كل المحاولات التي تتجه إلى انتهاك حق من حقوق الإنسان الأساسية.

ولا بد أن يدرك الجميع في الإطار الوطني، أن انتهاك حقوق الإنسان، لا يفضي إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي، وأن قيم الدين العليا لا يمكن أن تشرّع للعسف والإكراه وانتقاص حقوق الإنسان.

لذلك من المهم أن نرفع الغطاء الديني والسياسي والاجتماعي، عن كل تلك الممارسات والأفعال التي تنتقص من كرامة الإنسان وحقوقه، ونتعامل معها «بصرف النظر عن القائم بها» بوصفها ممارسات تناقض بشكل صريح قيم الإسلام ومبادئه الأساسية، ولا تنسجم ومتطلبات الأمن والاستقرار السياسي والاجتماعي.

فالإنسان أو المجتمع الذي يتعرض إلى اعتداءات على حقوقه ومكتسباته ومنجزاته الحقوقية، لا يمكن أن يدافع عن حاضره الذي هو أحد ضحاياه. لذلك فإن انتهاك حقوق الإنسان، لا يفضي إلى الأمن والاستقرار، بل إلى المزيد من التوترات والاضطرابات

و«إن اتفاقاً يضمن الحقوق الأساسية، بما فيها حقوق الأقليات، هو أضمن سبيل لإزالة مخاوف كل الجماعات، ولدفع كل الحركات ـ أقصد الحركات التي لا تهدف حصراً إلى السيطرة على الآخرين وتأبيد الديكتاتورية ـ إلى الاتحاد في قضية الديموقراطية، وهكذا فقط يمكننا أن نكسر الحلقة المفرغة، حلقة القمع والتمرد»[8].

ولا يمكن إقصاء العنف السياسي من المجتمع بالمزيد من القمع وانتهاك حقوق الإنسان، لأن هذه الممارسات تزيد من فرص العنف، وتهيئ المناخ الملائم لبروز نزعات التطرف بكل مستوياتها وأشكالها.

لهذا فإننا نتمكن من وأد ظاهرة العنف من واقعنا، بالمزيد من الإصلاحات السياسية والأنظمة والإجراءات التي تصون كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية. وهذا يتطلب منا أن نولي أهمية خاصة، إلى العمل الثقافي المتواصل، الذي يعزز حقوق الإنسان اجتماعياً وسياسياً، ويعيد تأهيل تصورات المجتمع تجاه حقوق الإنسان الجوهرية.

فالإنسان أو المجتمع الذي يتعرض إلى اعتداءات على حقوقه ومكتسباته ومنجزاته الحقوقية، لا يمكن أن يدافع عن حاضره الذي هو أحد ضحاياه. لذلك فإن انتهاك حقوق الإنسان، لا يفضي إلى الأمن والاستقرار، بل إلى المزيد من التوترات والاضطرابات. من هنا فإن التطلع إلى الأمن والاستقرار، يقتضي بذل الجهود الحقيقية للحفاظ على حقوق الإنسان وصيانة كرامته. لأن الإنسان القابض على حقوقه، والممارس لحريته، هو القادر على الدفاع عن المكتسبات. فإذا أردنا الأمن، فلتتوجه كل الجهود والمشروعات إلى تنمية الإنسان وصيانة حقوقه وكرامته.

فتنمية الإنسان هي سبيلنا الحضاري لإنجاز الأمن الاجتماعي والاستقرار السياسي. ولا يمكن بأية حال من الأحوال، أن يكون انتهاك الحقوق، هو طريق الأمن والاستقرار، بل هو طريق الأزمات المتلاحقة والحروب المفتوحة على كل الأشكال والاحتمالات.

لذلك فإن الاستقرار السياسي اليوم، يقتضي العمل على خلق الشروط الأساسية من أجل حياة سياسية جديدة، قوامها الديموقراطية والحريات السياسية وحقوق الإنسان. والعدالة السياسية طريقها الدائم، هو تكريس قيم وحقائق المواطنة في الفضاء السياسي والاجتماعي.

إن النظام السياسي الذي اختار القهر والعنف والقتل والتعذيب، ومنع الناس من ممارسة حقوقهم السياسية والثقافية، كخيار لإنجاز استقراره السياسي وتحقيق أمنه الشامل، لم يجنِ إلا المزيد من التوترات والاضطرابات. بل لا نبالغ حين القول: إن هذا الخيار عجّل في انهيار الكثير من الأنظمة السياسية في العديد من مناطق وقارّات العالم

فالظلم بكل مستوياته وأشكاله، لا يحقق مواطنة متساوية، بل يساهم في تدمير المنجزات وإضاعة المكاسب. وممارسة القوة العارية ضد قوى المجتمع وتعبيراته السياسية والثقافية، لا تصنع استقراراً، ولا تخلق أمناً، بل على العكس من ذلك تماماً، حيث إن ممارسة القوة العارية، تزيد من تناقضات المجتمع، وتسرّع من وتيرة المواجهة بين مختلف المكونات والتعبيرات.

وتعلِّمُنا تجارب الأمم والشعوب المختلفة، أن الأمن بمعناه الحقيقي، هو نتاج شرعي للديموقراطية وسيادة القانون وصيانة حقوق الإنسان.

وإن النظام السياسي الذي اختار القهر والعنف والقتل والتعذيب، ومنع الناس من ممارسة حقوقهم السياسية والثقافية، كخيار لإنجاز استقراره السياسي وتحقيق أمنه الشامل، لم يجنِ إلا المزيد من التوترات والاضطرابات. بل لا نبالغ حين القول: إن هذا الخيار عجّل في انهيار الكثير من الأنظمة السياسية في العديد من مناطق وقارّات العالم.

صحيح أن التحول الديموقراطي في مجتمعنا، تكتنفه العديد من الصعوبات والتحدّيات والهواجس، ولكننا نعتقد وبعمق أن هذا الخيار هو أسلم الخيارات وأقلُّها خسائر وتداعيات خطيرة.

وإذا تمعنّا ودرسنا شهادات واعترافات أهل التطرف والعنف، نجد أن القمع والاعتقال التعسفي، وممارسة التعذيب في السجون بحقهم، هو أحد الأسباب التي قادتهم إلى تبني خيار العنف. فملء السجون بالمعتقلين السياسيين، لا ينهي الأزمة الوطنية، ولا يعالج التحديات الداخلية التي تواجه الوطن. بل تعلّمُنا التجارب أن التعسف في الاعتقال والتعذيب، والإسراف في ممارسة الخيار الأمني، هو الذي يعزّز خيار العنف والتطرف في المجتمعات.

وإن الأمن الحقيقي بحاجة إلى رؤية جديدة ومعالجة حضارية، تتجاوز تلك الرؤى والمعالجات التي تفاقم من الأزمات، وتوفّر لها أسباباً جديدةً للتجذّر والتمدّد والانتشار.

من هنا لا بد من القول: إن المحن والتحديات السياسية والأمنية، بحاجة إلى معالجة جذرية، تزيل كل الأسباب والعوامل المفضية إلى هذه المحن. ولن نجد ومن خلال تجارب العديد من الأمم والشعوب، أفضل من خيار المعالجة الحضارية لعلاج أزمات واقعنا وتحدياته، القائم على سيادة القانون، وفسح المجال القانوني والسياسي لجميع قوى المجتمع، للمشاركة في الحياة العامة، وتأسيس حياة سياسية وثقافية جديدة، قوامها الديموقراطية والمواطنة المدنية المتساوية وصيانة حقوق الإنسان.

وبكلمة واحدة: فإن العدالة بكل مخزونها الرمزي والمعرفي، ومضمونها السياسي والاجتماعي، هي سبيلنا لتجاوز محن الغلو والعنف والإرهاب.

...............................................
[1] القرآن الكريم، سورة الكهف، الآية (26).
[2] القرآن الكريم، سورة البقرة، الآية (124).
[3] القرآن الكريم، سورة الشعراء، الآية (151-152).
[4] مجلة منبر الحوار، العدد 34، ص17، السنة التاسعة خريف 1994م.
[5] الشيخ محمد يعقوب الكليني، أصول الكافي ج3، ص 568، دار التعارف، لبنان 1990 م.
[6] الشيخ مرتضى مطهري، جولة في رحاب نهج البلاغة، ص124، دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الثالثة، 1980 م.
[7] مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العددان التاسع والعاشر، ص 189، 1421 هـ- 2000 م.
[8] ندوة، الإسلام والعدالة - مناقشة مستقبل حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ص 44، سلسلة غرب وشرق، فصلت للدراسات والترجمة والنشر، ترجمة راتب شعبو، الطبعة الأولى، 2000 م.

اضف تعليق