آراء وافكار - مقالات الكتاب

دستور الغميضة

إن الفهم الصحيح لـ وحدة العالم الإنساني يتضمن أن أي قانون أو تقليد أو أي توجه عقلي يمنح حقوق أفضلية أو امتيازات لجماعة بشرية على حساب الأخرى فإن ذلك ليس مجرد خطأ أخلاقياً، بل بالأحرى وبالأساس هو أمر يتنافى مع مصالح أولئك الذين يعتقدون أنهم أفضل من غيرهم بشكل أو بآخر...

Taisez-Vous مصطلح يردده المسؤول العربي المتبجح بسلطته، وبكرسيه المتغير غير الثابت" فلو دامت لغيرك ،لما وصلت إليك"، يرددونها كلما وقف بوجههم صاحب الحق، مؤكدين بهذه التصرفات أن إرادة الحق لا تساوي شيئا أمام سلطة المسؤول، فهل تعرف أيها الإنسان سبب وجودك من تراب واحد؟

- كلمة Taisez-Vous ليست مرباك، ولا لغتك الأم، ولا أسلوب حوار...فالحياة بحاجة إلى فن الحوار، ومثل هكذا مصطلحات لا يلفظها سوى الجاهل؛ وإذا كان قانون الوظيفة العمومي قد منح الحق للموظف بمناقشة مديره بتأدب وبقانونية، ولئلا يفتخر أحد على أحد، و تتذكر في كل حين في مسألة وجودك في الحياة، لأن الجميع خلق من نفس واحدة وتعود إلى أصل نشىتها عند أول مرة كنفس واحدة لا تتجزأ، لتعلم أن كينونتك واحدة.

وفي منأى عن الإنسان يظّل قانون البشر غامضا ولأن الأرض ولدت بقانون واضح قانون إلهي حقيقي لا يقاوم، فإن دساتير بعض الدول ممن تدعي الديمقراطية صارت بعيدة عن الواقعية والشفافية الوضوح في تقنينها لموادها الدستورية، إذ عمدت مؤخرا الجزائر إلى إصلاح بعض المواد القانونية المبهمة التّي لم تنصف حق الإنسان في التعبير عن إرادته واختيار قراراته بنفسه بعيدا عن الاقلام الخشبية من النواب الذين ليس لهم سوى مهمة "مد وأفصل" أو رفع الأيدي وخفضها؛ ناهيك عن تقليص حرية الرأي ومبادرة الشعب في دسترة القانون وهذا دليل على تناقض ثوابت الدولة، إذ يقول تارة معالي الشعب وإرادة الشعب ثم يذهب لدسترة القانون مع حفنة من النواب ليس لهم شغل سوى الإساءة للشعب بتصرفاتهم الغبية... فهل هذا يظهر حقيقة الدول الجديدة؟

ماتزال فرنسا قابعة في الأوطان العربية حتّى وإن أنكرنا وجودها إذ أن المسودات الدستورية أكدت على غموضها فيما يتعلق بطبيعة الّنظام الذي يتيح لصاحب الإرادة وهو الشعب مباشرة إراداته فيه، ما يجعل لممثل النظام نفسه التلاعب في مستقبل الوضعية، لذا فإن الذّهاب إلى نظام شبه رئاسي صريح فيما يتعلق بدول الجمهورية كالجزائر وغيرها من الدول العربية ذات النظام الرئاسي أو الشبه الرئاسي الغامض.

وإذا كان العطر يعود صناعته إلى فرنسا، وهذا بسبب أن فرنسا في العصور الوسطى لم تتعرف على المراحيض، وأن الدولة العثمانية كانت السباقة لها، وهي المرجع الأساسي لأوروبا في تعليمهم النظافة، ولقد عمّدت فرنسا إلى صناعة العطور من أجل تنظيف أنفسهم إذ كانوا يقومون بقضاء حاجتهم في الطرق العامة، ولف برازهم في أوراق ورميها في أرصفة الطرقات...ما جعل باريس أوسخ مكان، وما دفع بهم إلى صناعة العطور لإلمام الرَّائحة فلو اقتربت منهم لرأيتهم، فهذا يجعلنا بعيدين عن حقيقة أن فرنسا العجوز بالمصطلح السياسي والقانوني بعيدة عن أشكال النّقاء الإنساني الذي هو مرتبة يصل إليها بعض البشر.

كم أشفق على حال بعض المدعين للثقافة لما يتغنون بأفعال فرنسا ويجعلون منها مثلا يحتذى به، طبعا اعني بكلامي الأبناء غير الشرعيين لفرنسا.. كما أن فرنسا لا تميز بين حرية التعبير والإساءة.

هذه الحقيقة أصبحت أكثر وضوحاً اليوم لأن شعوب العالم أصبح أمامها طرق كثيرة لتدرك اعتماد عنصر كل منها على الآخر، وتصبح مدركة لتحقق وحدتها الحتمية؛ لأن استيعاب فكرة الوحدة الكلية للجنس البشري يتأتى بعد عملية تاريخية تحوّل خلالها الأفراد إلى وحدات بشرية أكبر، فمن عشائر إلى قبائل، ثم إلى دويلات وأمم، ثم إلى اتحادات وروابط دول، يصبح من الطبيعي أن الخطوة التالية هي خلق حضارة عالمية متنوعة، وموحدة في الوقت ذاته، حضارة تكون فيها جميع الشعوب والثقافات أجزاء متكاملة في بناء واحد هو الجنس البشري نفسه؛ وكما حدد حضرة بهاء الله منذ أكثر من مائة عام "ما الأرض إلا وطن واحد والبشر سكانه".

إن وحدة العالم الإنساني تتطلب تغييرات عضوية في بُنية المجتمع الراهن، وهي تغييرات لم يشهد العالم لها مثيلاً. فأقل ما يدعو إليه هو إعادة بناء صرح العالم المتحضّر وتحقيق نزع سلاحه. وينادي إضافة إلى ذلك بإقامة عالم ملتحم عضويا في كل ناحية من النواحي الأساسية لحياته، متّحد في منظوماته السياسية، وفي تطلّعاته الروحية، وفي تجارته ونظمه المالية، ومتّحد في لغته وأبجديته وحروف هجائه ولكنه أيضاً قادر على احتواء ما لا نهاية له من تعدد الخاصّيّات القومية المختلفة لأجزائه المتحدة.

إن الفهم الصحيح لـ وحدة العالم الإنساني يتضمن أن أي قانون أو تقليد أو أي توجه عقلي يمنح حقوق أفضلية أو امتيازات لجماعة بشرية على حساب الأخرى فإن ذلك ليس مجرد خطأ أخلاقياً، بل بالأحرى وبالأساس هو أمر يتنافى مع مصالح أولئك الذين يعتقدون أنهم أفضل من غيرهم بشكل أو بآخر.

كما أنه يفترض أن الدول المستقلة، كمساهمين في حضارة عالمية منبثقة، لا بد وأن تمتلك معايير مشتركة وأن تتخذ خطوات حثيثة كي تستأصل من دساتيرها ومن قوانينها وتقاليدها وممارساتها أي شكل من أشكال التفرقة المبنية على الجنسية أو القومية أو الأساس العرقي أو الدين أو اللغة أو أي سمة أو إختيار فردي. ومع أنه من الممكن أن يكون الإرث القومي أو العرقي مصدراً للفخر ودافعاً للتطور الإجتماعي الإيجابي، فلا ينبغي أن تصبح تلك المميزات أساساً لأشكال جديدة من التفرقة أو الأفضلية مهما كانت رقيقة.

وأخيراً فإنه يفترض أن العدل يجب أن يكون هو المبدأ الحاكم للهيئة الإجتماعية ويطالب بإجراءات واسعة تتخذها الحكومات والوكالات الدولية ومنظمات المجتمع المدني من شأنها معالجة الغبن الإقتصادي على كل المستويات.

تجسد المعايير الدولية لحقوق الإنسان إجماعاً دولياً شاملاً، ولذلك فهي تمثل أفضل وسيلة متاحة لمكافحة العنصرية والتفرقة العرقية والتعصبات المرتبطة بها. لذلك فإن "ميثاق محو كل أشكال التمييز العنصري" والموقع من قبل ١٧٣ دولة، هو الأداة العالمية الوحيدة والملزِمة قانونياً التي تخاطب كل مناقشاتنا هنا بنحو شامل. فمن المهم لمناقشات هذا المؤتمر أن تؤكد على المبادئ المدرجة في الميثاق، والمطالبة بتطبيقها، بدلاً من التركيز على مسائل أخرى تفتقر إلى الانسجام والوحدة؛ لكني أشك أن تنفذ لأن الدستور نص وممارسة، فإذا أخذا النص كان النص موجودا لا شك في رؤيتنا له وإطلاعنا عليه، وممارسة لأن لا تطبيق فيه يرى مع كل أسفي.

..........................................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق