ان الاقتصاد الريعي يعني اعتماد البلد على استخراج ثروة طبيعية من باطن الارض كالنفط. وتقوم الدولة باستملاك العائدات النفطية والتحكم بها، وتلعب دور الموزع للثروة، حيث تصبح الدولة هي المانح او رب العمل الكبير، ويصبح الشعب هو المتلقي للمنحة والاجير لدى الدولة، وتتغير معادلة المصالح في الدولة والمجتمع...

تدل الخبرة التاريخية منذ التجربة الديمقراطية الاولى في العصر الحديث في مدينة جيمس تاون في ولاية فيرجينيا الاميركية عام ١٦١٩ مرورا بكل التجارب الديمقراطية اللاحقة، على ان "الشرط التأسيسي" لقيام الديمقراطية يتمثل بوجود المواطن الفعال، او المجتمع المدني المستقل، او الشعب المتحرر اقتصاديا.

لان الديمقراطية نظام سياسي يعتمد بالدرجة الاولى على المشاركة السياسية الشعبية الواسعة والقوية والمستقلة. وقوة الشعب لا تقاس بقدرته على التظاهر وتخريب المنشآت العامة وقطع الطرقات وحرق المباني الحكومية، وانما تقاس بدرجة استقلاليته الاقتصادية عن الدولة. فكلما ارتفعت هذه الدرجة ازداد الشعب قوة، وكلما تدنت استقلالية المجتمع الاقتصادية كلما ضعفت قوته السياسية امام الدولة، او الطبقة السياسية الحاكمة، او الحكومة.

المجتمع المنتج اقتصاديا قوي سياسيا، والمجتمع المستهلك اقتصاديا ضعيف سياسيا، قوة المجتمع الاقتصادية تنبع من طبيعة الاقتصاد. فالاقتصاد الريعي ينتج مجتمعا استهلاكيا ضعيفا امام الدولة-الحكومة، والاقتصاد الانتاجي ينتج مجتمعا قويا امام الدولة والسلطة.

تشير دراسة اعدها الدكتور صالح ياسر الى ان الاقتصاد الريعي يعني اعتماد البلد على استخراج ثروة طبيعية من باطن الارض كالنفط. وتقوم الدولة باستملاك العائدات النفطية والتحكم بها، وتلعب دور الموزع للثروة، حيث تصبح الدولة هي المانح او رب العمل الكبير، ويصبح الشعب هو المتلقي للمنحة والاجير لدى الدولة.

وتتغير معادلة المصالح في الدولة والمجتمع. فيكون من مصلحة النخبة السياسية الحاكمة الاستمرار في الامساك بازمة الدولة والحكم والاقتصاد، ومن مصلحة المواطنين التوظيف في دوائر الدولة باعتبار ذلك الطريق الوحيد للحصول على حصة من عائدات النفط.

ومثل هكذا نخبة حاكمة لا يمكن ان تكون "رافعة اجتماعية للديمقراطية" لان "ما يحرك هذه النخبة ويشكل سلوكها السياسي هو الرغبة الجامحة للامساك والسيطرة والاستحواذ على الريع". وهكذا تلد الدولة الريعية الاستبداد والتسلط بسبب بنيتها والقوى التي تستند اليها.

ولا تكون الديمقراطية هدفا للنخبة الحاكمة ولا هدفا للشعب المحكوم، لأن النظام السياسي القائم على الاقتصاد الريعي لا يحتاج الى عملية سياسية ديمقراطية شعبية وانما يكفيه منظومة تحالفات تقليدية تمكن القوى الفاعلة فيه من الاستمرار بالامساك بالسلطة ومنافعها، وتوظيف اكبر عدد ممكن من المواطنين في دوائر الدولة.

الدولة الريعية لا تحصل على مواردها من الضرائب المفروضة على المواطنين وبالتالي فهي لا تخضع لمحاسبة المواطنين، فتصبح مستقلة سياسيا استنادا الى استقلالها الاقتصادي والدولة المستقلة عن مواطنيها تعيق التحول الديمقراطي وتمنع تطور المجتمع المدني هذا يقطع الطريق امام بناء وتطور مؤسسات ديمقراطية حقيقية تستند الى المواطنة.

وهذا ما حصل في العراق تدريجيا منذ قيام النظام الجمهوري في ١٤ تموز عام ١٩٥٨ الى الان حيث واصل القطاع النفطي هيمنته على الاقتصاد وتراجع حجم مساهمة القطاعين الزراعي والصناعي الى ٩.٢٪ و٢.٣٪ على التوالي. وتضخم دور الدولة في الانفاق حيث بلغ ٧٩.٧٪ في عام ٢٠١٢. فيما شكلت الايرادات النفطية ٨٨.٨٪ من الايرادات العامة في عام ٢٠١٢. وبلغت مساهمة القطاع النفطي في عام ٢٠٠٧ ما نسبته ٨٥.٨٪ من الناتج المحلي الاجمالي.

يرتبط الاصلاح السياسي عضويا بالاصلاح الاقتصادي. والاصلاح الاقتصادي يعني الخروج من دائرة الدولة ذات الاقتصاد الريعي والمجتمع الاستهلاكي الى الدولة ذات الاقتصاد الانتاجي والمجتمع المنتج. ويقع عاتق الاصلاح السياسي- الاقتصادي على عاتق الحاكمين والمحكومين معا مع الاقرار باختلاف طبيعة دور كل طرف منهما.

لكن المهم ان يكون هذا هدفا مشتركا لكليهما حيث لا يمكن التحرر من تبعات الاقتصاد الريعي الا بهذه الشراكة والتعاون في الجهد المبذول لتحقيقه. وهذه كلها خطوات في طريق اعادة النصاب الصحيح للمركب الحضاري ومنظومة القيم الحافة به، وتمهيد لقيام الدولة الحضارية الحديثة في العراق.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق