لا يمكن لجيلي أن ينسى عام 1986 حينما اندلعت ثورة شعبية كبرى في الفلبين اطاحت بنظام الدكتاتور ماركوس الذي ظل مسيطرا على الحكم طوال أكثر من 20 سنة. أدت هذه الثورة إلى هروب ماركوس وعائلته على متن طائرة إلى أمريكا محملين بأكثر من 15 مليون دولار من الاموال والمجوهرات...

لا يمكن لجيلي أن ينسى عام 1986 حينما اندلعت ثورة شعبية كبرى في الفلبين اطاحت بنظام الدكتاتور ماركوس الذي ظل مسيطرا على الحكم طوال أكثر من 20 سنة. أدت هذه الثورة إلى هروب ماركوس وعائلته على متن طائرة إلى أمريكا محملين بأكثر من 15 مليون دولار من الاموال والمجوهرات، بعد ان قُدر اجمالي ما سرقه من الشعب الفلبيني حوالي 10 مليار دولار غصت بها خزائن البنوك في مختلف دول العالم.

لقد أمتاز حكم ماركوس بأنه من أكثر نظم الحكم الدكتاتورية والطاغية في العالم حيث اعلن الاحكام العرفية لحوالي عقد من الزمن قتل خلالها آلاف المعارضين للحكم. لذا استقطبت ثورة الشعب الفلبيني كل اهتمام العالم آنذاك. وظللت صورة اماندا زوجته وهي ترتدي افخر واكبر الجواهر والفساتين في الوقت الذي يتضور شعبها جوعا ملتصقة في أذهان جيلي كرمز للفساد والدكتاتورية.

في العاشر من هذا الشهر أنتخب ماركوس الإبن رئيسا للفلبين وفي مشهد تراجيدي-كوميدي وسريالي غريب أثار تساؤلا كبيرا عن هذا الشعب الذي طرد الطاغية ومعه ابنه الذي كان في مقتبل العشرينات آنذاك وكان يسمى (الابن المدلل) ثم يعيد انتخاب هذا المدلل بنسبة تصل إلى (60 بالمئة اكثر من 30 مليون صوت) في واحدة من الانتخابات التي شهدت أكثر إقبال جماهيري حتى أن منافسه الداعية لحقوق الإنسان لم يستطيع الحصول حتى على نصف تلك الاصوات التي حازها (الابن المدلل) فما الذي جرى في الفلبين؟

أشار كثير من المراقبين السياسيين إلى الحملة الإعلامية المضللة التي قادها ماركوس الإبن لتحسين صورة نظام والده والتي بثت الكثير من الأكاذيب عن عهد والده. لكن السؤال هل أن الرأي العام بهذه السذاجة بحيث يمكن خداعه لكي يتحول من ثائر ضد الدكتاتورية إلى مدافع عنها؟ وهل تكفي أي حملة إعلامية لكي تمحو ذاكرة الشعب بهذه الصورة؟

بالتأكيد فقد كان لحملة التضليل التي قادها ماركوس الإبن تأثير على فوزه في الانتخابات، ولكن كيف كانت الظروف مقابل ذلك في الفلبين؟ وما الذي جعل الشعب يتجاوب مع حملة التضليل هذه؟ تشير كل الإحصاءات والوقائع إلى أن محاولات النظام الذي تشكل بعد هروب الدكتاتور لزرع الديمقراطية والحرية وتحقيق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي قد بائت بالفشل.

على العكس من ذلك فقد تحالف الإقطاع مع الفساد في الفلبين لكي يعمق من جراحات الشعب حتى بات أكثر من ربع الشعب يعاني من فقر مدقع ونسبة اكثر بكثير تعاني من الفقر. صاحب ذلك ارتفاع كبير في مستوى الأسعار حتى وصلت نسبة الفقر في بعض المقاطعات إلى حوالي 60 بالمئة.

كما كان لاستمرار الحرب ضد الإسلاميين في جنوب الفلبين، وضد الشيوعيين واللتان اديتا الى الاف القتلى أثر مدمر على المجتمع والاقتصاد الفلبيني. وعلى الرغم من حملات مكافحة المخدرات التي انتشرت في الفلبين بشكل كبير خلال العقدين الماضيين إلى أن هذه النسب ما زالت مرتفعة جدا. ان الظروف التي عاشتها الفلبين هي التي جعلت حملة التظليل التي قادها ماركوس الإبن تنجح في تبييض صورة الإبن والوالد والأم. لذا لم يكن مستغربا أن يركز ماركوس الإبن كما يفعل كل الشعبويين والطغاة على الوحدة والامن واستعادتهما.

ولم تجدي نفعا التحذيرات التي اطلقتها الصحفية الفلبينية الحائزة على جائزة نوبل للسلام (ماريا ريسا) عام 2021 والتي إدانت حملة التظليل المنتشرة في الفلبين ضد الديمقراطية. ان آلام وصرخات حوالي 30 مليون فقير وجائع في الفلبين انتصرت على آمال ووعود المبشرين بالديمقراطية والعهد الجديد، ليس لأن الديمقراطية بحد ذاتها لا تنفع في الفلبين ولكن لان من حاولوا زرع الديمقراطية ورعايتها فشلوا في ذلك فشلا ذريعا وباتوا هم الجلاد بعد أن كانوا مظلومين ومناضلين.

لقد استثمر ماركوس الإبن هذه الحقيقة وأطلق شعاره (حاسبني على الافعال لا على ما فعله الأسلاف) وهي كلمة حق يراد بها باطل. ان هذا الدكتاتور الإبن لم يعِد للشعب الفلبيني سوى 4 مليار دولار فقط من مجموع ال10 مليار دولار التي سرقها ابوه وعائلته، و تحالفا مع الشعبويين والفاسدين لكي ينجح في الانتخابات ليس لانه الأفضل بل لأن منافسيه كانوا أسوأ. أن الدرس الفلبيني مهم جدا لمن يعرف بالسياسة وبمسار التاريخ.

فأنت لا يمكن أن تطعم الشعب شعارات زائفة، كما لا يمكن للماضي أن ينتصر على الحاضر. فالماضي مكانه الكتب والمتاحف اما الحاضر فمكانه بطون الشعب وشوارعهم وبيوتهم التي يسكنونها الا انه درس غاية في الأهمية على الجميع أن يعوه. وبهذه المناسبة أريد التذكير أن نسبة العراقيين اللذين يريدون قائد قوي لا يكترث بالبرلمان ولا بالديمقراطية لكي يحكمهم قد ارتفعت إلى حوالي 70 بالمئة في السنة الماضية بعد أن كانت أقل من 20 بالمئة في عام 2004 فهل نتعظ.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق