إذا كانت السلطات العراقية حريصة فعلاً على معالجة ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي، فهي تستطيع فعل ذلك بكل سهولة عبر توفير الحماية الاجتماعية والسياسية والقانونية لصناع الفكر والمحتوى الرقمي عالي القيمة، أما تشكيل اللجان وتشريع قوانين المراقبة فهي مخالفة للدستور أولاً، ولا تحل المشكلة ثانياً...

غالبية الأوساط الاجتماعية والأكاديمية والمهتمين بالشأن العام يشتكون من فيضان مواقع التواصل الاجتماعي بالمحتوى الفوضوي وغير المستند إلى معايير محددة للنشر، خطره ينعكس على تنشئة جيل بلا هدف، تسفيه لكل شيء، وابتعاد عن روح الحرية التي وفرها النظام الديمقراطي في دستور عام 2005، ومواقع التواصل الاجتماعي تمثل الساحة التي تُمارس فيها هذه الحرية.

مؤخراً استجابت وزارة الداخلية العراقية للعديد من المطالبات بضبط المحتوى المنشور عبر مواقع التواصل لعلها تستطيع الحد من عمليات التسطيح وتهميش العقل.

أعلنت الداخلية يوم الإثنين (16 كانون الثاني يناير 2023) عن تشكيل "لجنة لمتابعة المحتويات في مواقع التواصل ومعالجة الهابط منها وتقديم صانعيها للعدالة، وإن القضاء دعم مقترحات الأجهزة الأمنية حول ملف المحتوى في (السوشيال ميديا)".

"اللجنة باشرت عملها وحققت عملاً في الوصول إلى صنَّاع المحتوى الهابط والقبض عليهم".

تأتي عملية تشكيل اللجنة بالتنسيق مع القضاء العراقي، وسبق وأعلنت السلطة القضائية العراقية (الخميس 12 آب اغسطس 2021)، عن تشكيل لجنة من عدة جهات تشمل "مجلس القضاء الأعلى، وجهاز الأمن الوطني، وخلية الإعلام الأمني، وهيئة الإعلام والاتصالات، ونقابة الصحفيين، ونقابة الفنانين".

الهدف الأساسي للجنة هو رصد المخالفات والتوصية إلى محاكم التحقيق المتخصة لاتخاذ الإجراءات القانونية بخصوصها.

أما أسباب تشكيل اللجنة السداسية بحسب وثيقة قضائية فقد جاءت "بعد رصد حالات تجاوز في مواقع التواصل وبعض وسائل الإعلام، والتي تشكل خطراً على منظومة الأخلاق العامة، والتي تتمثل في عرض ما يخدش الحياء العام، وبث الفسق والفجور والترويج لأفكار هدامة تتنافى مع الالتزام الديني والأخلاقي، وكذلك المحرّض على الطائفية، لتحقيق مكاسب معينة، منها انتخابية، تقرر تشكيل لجنة لرصد تلك المخالفات".

وإلى جانب تنسيق الداخلية مع القضاء العراقي يبدو أن هناك تنسيقاً مع مجلس النواب العراقي الذي يعتزم تشريع قانون مكافحة جرائم المعلوماتية، وهو قانون رقابي يهدف إلى إحكام سطوة السلطة على منافذ المعلومات المنشورة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

تستطيع السلطة الحاكمة من خلال قانون مكافحة جرائم المعلوماتية تقييد حرية النشر بشكل غير مسبوق منذ دخول مواقع التواصل للعراق وحتى الآن، ستكون هناك مرشحات أو فلاتر للمحتوى الرقمي بحيث لا يستطيع أي عراقي نشر المحتوى إلا ويقرأه مراقب السلطة.

بشكل عام نحتاج إلى ضبط المحتوى الرقمي، فهو ملوث وغير صالح للاستهلاك العقلي، لكن السؤال الذي يطرح على أصحاب السلطة بمختلف تسمياتهم، هل هناك تعارض بين تشكيل لجان المراقبة ومواد الدستور التي اكدت على ضمان حرية الرأي والتعبير؟

من يستطيع أحد إيجاد تعريف جامع مانع لمصطلح الآداب العامة التي سوف يعاقب على إثرها نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي؟

الإشكالية الأساسية ليست بانتشار المحتوى غير الرصين في مواقع التواصل العراقية، بل في غياب أصحاب الفكر والوعي عن الولوج إلى هذه المواقع بسبب الظروف السياسية في البلاد.

هناك لجان مراقبة لدى بعض الأحزاب والجماعات السياسية المتشددة تدقق في المحتوى الفكري الرصين لمواقع التواصل، فإن وجدت فكرة لا تروق لها استهدفت صاحب الفكرة إما بالتهديد أو القتل، وفي أقل الأضرار تشن هجوماً شرساً على صاحب الفكر التنويري.

هناك تهديدات حقيقية لأصحاب الفكر المتنور تدفعهم لهجرة مواقع التواصل الاجتماعي وإلى الأبد، ما فسح المجال وبشكل كبير لأصحاب الحسابات الفارغة وممن يستجدون الإعجابات بابتكار أشياء غريبة وبدون أي هدف سوى حصد المشاهدات والإعجابات.

إذا كانت السلطات العراقية حريصة فعلاً على معالجة ما ينشر في مواقع التواصل الاجتماعي، فهي تستطيع فعل ذلك بكل سهولة عبر توفير الحماية الاجتماعية والسياسية والقانونية لصناع الفكر والمحتوى الرقمي عالي القيمة.

أما تشكيل اللجان وتشريع قوانين المراقبة فهي مخالفة للدستور أولاً، ولا تحل المشكلة ثانياً، بل تكشف عن نواياً مبطلنة من أصحاب السلطة لإحكام قبضتهم على الفضاء العمومي العراقي بحجة حماية المجتمع.

أي لجنة تراقب النشر تحمي النظام ولا علاقة لها بحماية قيم المجتمع.

 

اضف تعليق