أخذ الدستور العراقي بمبدأ اللامركزية في إدارة المحافظات والإدارات المحلية واعتبرها أحد مكونات النظام الاتحادي في جمهورية العراق، الا ان المشرع الدستوري العراقي رغم تبنيه نظام اللامركزية والاقرار بمبدأ الوجود القانوني للوحدات المحلية في صلب الوثيقة الدستورية تماشياً مع الاتجاهات الحديثة في دسترة مفاهيم الإدارة المحلية...

أخذ الدستور العراقي بمبدأ اللامركزية في إدارة المحافظات والإدارات المحلية واعتبرها أحد مكونات النظام الاتحادي في جمهورية العراق، الا ان المشرع الدستوري العراقي رغم تبنيه نظام اللامركزية والاقرار بمبدأ الوجود القانوني للوحدات المحلية في صلب الوثيقة الدستورية تماشياً مع الاتجاهات الحديثة في دسترة مفاهيم الإدارة المحلية من خلال إيراد مبادئ ذات قيمة دستورية يتعين على مجلس النواب العراقي الالتزام بها عند وضع النظام القانوني للإدارات المحلية، إلاّ أنه وقعَ في حومة تناقض شديد وخلط بين مفهوم اللامركزية السياسية وبين مفهوم اللامركزية الإدارية الذي يعد أحد أساليب التنظيم الإداري ويتعلق بالوظيفة التنفيذية في الدولة وهي موجودة في كل أنواع الدول البسيطة والمركبة.

وترتب على هذا الخلط والتناقض إشكاليات قانونية في اختصاص الوحدات المحلية وغموض العلاقة مع الحكومة المركزية وبالتالي إخفاق الوحدات المحلية في إدارة شؤونها الذاتية وتلبية الحاجات الضرورية للجماعات المحلية كما يفترض وهذا الاخفاق دفع الجماعات المحلية الى نبذ هذه المجالس واعتباراها مفسدة وهدر للمال العام والمطالبة بالغائها كونها قد دخلت دائرة المحاصصة السياسية بسبب طبيعة النظام الانتخابي.

حيث أخذ المشرع العراقي بمبدأ انتخاب رؤساء وأعضاء الهيئات المحلية في المحافظات غير المنتظمة في إقليم وأحال تنظيم ذلك الى القانون، وبالفعل أصدر المشرع قانون انتخاب مجالس المحافظات والاقضية والنواحي رقم (36) لسنة 2008? ثم صدر لاحقاً قانون انتخاب مجالس المحافظات والاقضية رقم (12) لسنة 2018 الذي الغى القانون الأول باستثناء المادة (23) منه لحين إجراء الانتخابات المحلية في محافظة كركوك والذي عدل بموجب قانون التعديل الاول رقم (14) لسنة 2019 ثم عدل للمرة الثانية بموجب قانون التعديل الثاني رقم (27) لسنة 2019 والان انجز البرلمان القراءة الثانية للتعديل الثالث المقترح.

إلا إن القانون المذكور تضمن العديد من مواطن القصور التشريعي وكرر نقاط الضعف التي كانت مؤشرة في القانون السابق ولم يعالجها في التعديلات، وسنحاول الإشارة الى مواطن الضعف والقصور في القانون المذكور على النحو الآتي:

1- وجود تكرار في استخدام بعض العبارات في القانون ومنها (يمارس كل ناخب حقه في التصويت للانتخابات بصورة حرة ومباشرة وسرية وفردية ولا يجوز التصويت بالوكالة) ثم أعاد المشرع وذكر عبارة (التصويت شخصي وسري)، وأيضاً عاد وذكر عبارة (يمارس كل ناخب حقه بنفسه في الدائرة الانتخابية التي يكون فيها مسجلاً) في حين أن عبارة شخصية التصويت ومنع التصويت بالوكالة تغني عن عبارة ممارسة الناخب حقه بنفسه.

2- نص القانون بأنه يستهدف تحقيق المساواة في المشاركة الانتخابية وضمان عدالة الانتخابات وحريتها ونزاهتها، كما نص على ممارسة هذا الحق دون تمييز بسبب الجنس أو العرق أو القومية أو الأصل أو اللون أو الدين أو المذهب أو المعتقد أو الرأي أو الوضع الاقتصادي أو الاجتماعي، إلا أن القانون ناقض نفسه عندما نص على تخصيص (كوتا) لبعض مكونات الشعب العراقي في محافظات معينة كبغداد ونينوى والبصرة وواسط وميسان ومحافظة كركوك، فضلاً عن ذلك فإن وجود (كوتا) المكونات يؤدي الى صعوبة تعامل النظام الانتخابي مع توزيع الحصص المحددة في المقاعد النيابية للمكونات المشمولة بالكوتا، وهذا ايضاً يتناقض مع مبدأ تخصيص مقاعد في مجالس المحافظات على أساس التمثيل غير السياسي لمكونات غير سياسية، إضافة لصعوبة تمكين تمثيل مجموعات الاقليات في الانتخابات وخصوصاً ان التصويت يجري من ناخبين مختلفين ليس شرطاً ان يمثلون نفس المكون وبالتالي يصعب القول ان المرشح الفائز ضمن مقعد محجوز هو ممثل الاقلية المحددة بالقانون.

حق الانتخاب

3- بالرغم من أن القانون المذكور نص على ممارسة حق الانتخاب لكل عراقي توفرت فيه الشروط المنصوص عليها في القانون دون تمييز بسبب الجنس، إلاّ أن القانون المذكور ميز بين الجنسين عندما خصَ النساء بحصة من المقاعد (كوتا)، وهو نفس اتجاه المحكمة الإتحادية العليا الذي ذهبت اليه في قرارها التفسيري المرقم (13/ت/2007) في 31/7/2007 التي اعتبرت فرض نسبة تمثيل للنساء في قانون المحافظات لا يتعارض والمادة (14) من الدستور، بل هي منسجمة مع المادة (49/رابعاً) من الدستور التي تستهدف تحقيق نسبة تمثيل للنساء لا تقل عن الربع من عدد أعضاء مجلس النواب وهو ما يجب العمل به في مجلس المحافظة المنتخب نظراً لوحدة الهدف والاختصاص في المجال التشريعي وأن ذلك لا يتقاطع مع المبدأ المنصوص عليه في المادة (14) من الدستور.

وهذا يتطلب سلسلة اجراءات للوصول الى (الكوتا النسائية) والنظام الانتخابي لا يستجيب بشكل فعال للوصول الى النسب المذكورة، ومن وجهة نظرنا أن تحديد حصة تمثيل النساء في المجالس المحلية مفيد لخلق مشاركة أوسع للمرأة في الإدارة المحلية، ولكن من جانب آخر تكون هناك صعوبات للوصول الى النسبة المذكورة بسبب ضعف إقبال العنصر النسوي على المشاركة في الانتخابات وتعقيد الاجراءات في النظام الانتخابي لتحقيق النسبة المذكورة كما أن ذلك يؤدي الى فوز بعض العناصر النسوية التي تفتقر للمؤهلات بدعم من حزبها لغرض ضمان الحصول على الكوتا النسائية بصرف النظر عن مؤهلات وامكانيات الفائزات من النساء، فالعبرة ليست بوجود نسبة تمثيل للنساء لملئ المقاعد بقدر ما يكون هذا التمييز محققاً لهدفه وهو ضمان مشاركة واسعة وفعالة في الإدارة وصنع القرارات المحلية، وإلاّ يغدو هذا التمييز غير مبرراً واخلال واضح لمبدأ المساواة.

4- إن القانون المذكور لا يحقق مشاركة حقيقية فعالة لأنه يسمح بالتلاعب بإرادة الناخبين المحليين وذلك بتحويل المقعد النيابي إلى أحد المرشحين من خلال تبني أسلوب القرعة المستند الى الحظ في حالة حصول قائمتان على نتائج متساوية تؤهلهمها للحصول على مقعد واحد وكان هذا المقعد الاخير، أو من خلال اعتماد التسلسل المعتمد من الحزب أو التنظيم السياسي للمفاضلة بين مرشحين أو أكثر حصلوا على أصوات صحيحة متساوية وكان ترتيبهما الاخير ضمن الدائرة الانتخابية، أو من خلال تحويل مقعد عضو المجلس الذي فقده لأي سبب الى مرشح آخر حاصل على أعلى الاصوات لحزب أو تنظيم سياسي حاصل على الحد الاعلى للأصوات ولم يحصل على مقعد.

إذ أن تحويل المقعد معناه تحويل اصوات الناخبين من مرشح الى آخر وهذا يخالف عدالة ونزاهة العملية الانتخابية كما تنطوي على تحريف للإرادة الحقيقية للناخبين من خلال تحويل اصواتهم لمرشح آخر لم ينتخبوه، وهذا ما أكدته المحكمة الإتحادية العليا في قرارها المرقم (67/إتحادية/2012) في 22/1/2012 الذي جاء في حيثياته (… ان عملية تحويل صوت الناخب من المرشح الذي انتخبه الى مرشح آخر من قائمة اخرى لم تتجه إرداته لانتخاب مرشحها تشكل خرقاً ومخالفة لأحكام المادة (20) من الدستور والمادة (38/أولاً) منه التي كفلت هي الأخرى ضمان حرية التعبير عن الرأي، ويشكل خرقاً لاحكام المادة (14) من الدستور التي كفلت المساواة بين الطرفين أمام القانون…).

5- اعتمد المشرع نظام التمثيل النسبي وفقاً لنظام القائمة المفتوحة ويحق للناخب التصويت للقائمة أو للقائمة وأحد المرشحين كما يجوز الانتخاب الفردي، والمبدأ الاساسي للتمثيل النسبي هو أن يضمن تمثيل الاقليات في كل دائرة انتخابية تبعاً للنسب الصحيحة للأصوات الحاصلة، فهذا النوع من التمثيل يسمح باعطاء مقاعد للاغلبية والاقلية في آن واحد إلاّ أن تطبيقه شديد التعقيد، كما أن هذا الاسلوب يعمل على تكريس تعددية الاحزاب وضمان لكل أقلية مهما كانت هزيلة تمثيلاً لها، كما يسمح بتمثيل الاحزاب الصغيرة.

ومن عيوب هذا النظام أن الناخب سيصوت لقائمة الحزب الذي يؤمن ببرنامجه وبذلك يكون التنافس في الانتخابات على أساس حزبي لا على أساس شخصيات المرشحين، لأن الاحزاب السياسية هي من تقدم قوائم بمرشحيها وفقاً لترتيب معين في الدوائر الانتخابية ووفقاً لعدد المقاعد في الدائرة، ولذلك فإن هذا النظام يتعارض مع مبدأ تكافؤ الفرص لأنه يحرم المستقلين أو الاشخاص الذين لا ينتمون الى أحزاب سياسية من المنافسة لأن الاحزاب من تضع القوائم، كما أنها تسلب إرادة الناخب عندما يصوت على قائمة رغم عدم رضاه عن بعض الاشخاص الموجودين فيها.

6- أن المشرع العراقي لم يعتمد القسمة على الاعداد الفردية الصحيحة وإنما اعتمد طريقة (سانت ليغو) المعدلة التي لا تعتمد أرقام صحيحة وإنما (1.4) أو (1.6)? حيث اعتمد المشرع العراقي القسمة على أول عدد فردي (1.7) وهذه الطريقة تقلل من فرص الاحزاب السياسية الصغيرة في التمثيل وهي أصلاً مطبقة في نيوزلندا والنرويج والسويد بهدف جعل عملية توزيع المقاعد لصالح القوائم الكبيرة، وأن زيادة العدد الأول إلى (1.7) من شأنه ضمان خسارة مقاعد الاحزاب الصغيرة لحساب الكتل السياسية الكبيرة، وهذا من شأنه أن يخل بمبدأ المشاركة والعدالة في التمثيل داخل المجالس المحلية.

7- عدم استجابة القانون المذكور وإيفاءه بالحدود الدنيا للمشاركة السياسية للشباب بأن تكون شفافة وقائمة على الاحترام وخاضعة للمساءلة وملائمة للشباب ووثيقة الصلة بهم وشاملة للكافة وطوعية وآمنة، وهذا يقتضي موائمة السن الأدنى للاقتراع مع سن الاهلية الادنى للترشيح للانتخابات المحلية، وتخصيص حصص للشباب في قوانين الانتخابات طالما أنه أخذ بالكوته النسائية، فالقانون الحالي اشترط في المرشح أن يكون عراقياً كامل الاهلية أتم الـ (30) الثلاثين من عمره في السنة التي يجري فيها الانتخابات.

وهذا قيد غير مبرر يحرم الشباب الواعي سياسياً من ممارسة العمل السياسي ففي فرنسا يسمح لمن بلغ سن (25) سنة الترشيح لرئاسة الجمهورية وفي قانونا نمنعه من تمثيلنا في المجالس المحلية، كذلك نجد أن القانون حدد سن الناخب باتمام (18) الثامنة عشرة من عمره في السنة التي تجري فيها الانتخابات، في حين نجد بعض الدول تعتمد حدود دنيا تصل الى سن (16) سنة من الارجنتين والنمسا والبرازيل وكوبا و(17) سنة أندونيسيا وجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية، وأغفل المشرع أيضاً وضع الآليات اللازمة لمشاركة شفافة وفاعلة لذوي الاعاقة في الحياة السياسية وهم يمثلون نسبة كبيرة تصل الى (3) ثلاث ملايين معاق أي ما يعادل نسبة (10%) من عدد السكان لعام 2011.

8- ان قانون المحافظات غير المنظمة في إقليم وقانون الانتخابات الخاص بمجالس المحافظات والاقضية لم يتضمنا الاطر القانونية لمباشرة الديمقراطية المحلية شبه المباشرة كالاستفتاء المحلي، والمبادأة الشعبية والتدخل المباشر في مجريات الحياة المحلية، والاعتراض الشعبي، والعزل الشعبي بتجريد الممثل المنتخب من وكالته القانونية وقبل انقضاء مدتها الشرعية والاستشارة كقناة تواصل مزدوجة بين السكان والمجلس المحلي… ومن الله التوفيق.

.............................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق