انتخابات الرئاسة الاخيرة شدت الاهتمام نحوها لأنها أعادت تجديد الصراع بين الاسلام والعلمانية في تركيا، كما يقول أنصار الجبهتين في خارج تركيا أكثر مما كان يفكر به الاتراك انفسهم، فقد راهنت قوى الاسلام السياسي السني على الرئيس اردوغان وحزبه حزب العدالة والتنمية، واعتبرت عودته رئيسا لتركيا من جديد...

كانت انتخابات الرئاسة التركية التي جرت يوم 14- آيار الحالي، الحدث الأكثر استقطابا للاهتمام، منذ أن شهدت تركيا التغيير الأهم العام 2002 عندما فاز حزب العدالة والتنمية الاسلامي المعتدل في الانتخابات العامة، وصعود الاسلاميين الاتراك الجدد إلى سدة السلطة بعد ثمانين عاما من التحول نحو العلمانية الخشنة.

انتخابات الرئاسة الاخيرة شدت الاهتمام نحوها لأنها أعادت تجديد الصراع بين الاسلام والعلمانية في تركيا، كما يقول أنصار الجبهتين في خارج تركيا أكثر مما كان يفكر به الاتراك انفسهم، فقد راهنت قوى الاسلام السياسي السني على الرئيس اردوغان وحزبه حزب العدالة والتنمية، واعتبرت عودته رئيسا لتركيا من جديد استفتاء على منجزها ورؤيتها وبرامجها وشعاراتها، لقد استنفر الاسلاميون الجهود ومارسوا تعبئة فريدة، عبر جميع ادوات التأثير ربما شعور منهم بأنهم يدافعون عن انفسهم وعما يمكن تسميته المنجز الأهم الذي تحقق، وفي الوقت ذاته كان هذا الاستنفار دفاعا عن اخر (موديلات) الحكم السياسي الاسلامي، بعدما لم يتبق من حكومات (الاسلاميين) نموذجا حيا إثر ربيع اسلامي قصير سرعان ما تحول إلى خريف قاس.

عاش المواطنون الاتراك حملات انتخابية ضخمة لم تشهدها تركيا في تاريخها، وكان عليهم الاختيار بين نموذج تنموي، اقتصادي وسياسي كبير تكرس بشخص الرئيس رجب طيب اردوغان وسياساته الداخلية والخارجية، وبين نموذج معارض وحد جميع خصوم هذه السياسات، بما فيهم اصدقاء وحلفاء إسلاميون لاردوغان (علي بابا جان، احمد داود أوغلو)، لكنهم اختلفوا معه في منتصف الطريق ولم يترددوا في التحالف مع زعيم حزب الشعب الجمهوري العلماني المعارض (كمال كليتشدار أوغلو ) ورموز علمانية أخرى للاطاحة بصديقهم القديم، (حزب السعادة الاسلامي وريث الزعيم التاريخي نجم الدين اربكان (1926 - 2011)، وقف ايضا مع الجبهة المناوئة لاردوغان).

ما شغل الأتراك المعنيين بالانتخابات ليس المعركة الأيديولوجية، التي يعيشها اسلاميو الخارج المتحمسين لاردوغان، بل أوضاعهم الاقتصادية والمعيشية، وصورة المستقبل القريب، خيارات تركيا في بيئة مضطربة.

المشكلات الكثيرة التي تضغط على أعصاب المواطن وتصبح هاجسا يدفعه لترجيح هذا الزعيم على آخر أو هذه السياسة في قبال اخرى، هي موضع اهتمام صناع الخطط والسياسات والبرامج الانتخابية، تقدمت تركيا كثيرا، لكن صورتها المبهرة الجميلة ومنجزاتها الكبيرة، التي تحققت على يد حزب العدالة والتنمية طيلة 21 عاما لم تكن كافية لاقناع نصف الاتراك أو اقل من ذلك على الاستمرار في دعم اردوغان رغم ما بذله من جهود، وما أطلقه من شعارات.

فليس جميع الاتراك يفكرون بما يفكر به المعجبون باردوغان من اسلاميي الخارج عربا أو غير عرب، فللأتراك همومهم ومعاناتهم ومشكلاتهم اليومية حتى لو تجاوز ناتج تركيا الاجمالي عتبة الترليون دولار، وغدت تنتج طائراتها واسلحتها وصواريخها وبوارجها بنفسها، وترسل 265 مليار دولار من الصادرات إلى 180 دولة في العالم، حسابات الداخل التركي غير حسابات الخارج، وتفكير غالبية الاتراك بما فيهم انصار كثر لحزب العدالة والتنمية لا ينصب على المعارك الأيديولوجية وسياسات الهوية، التي استغرقنا (نحن) فيها طويلا ولم تحقق نتائج تذكر، لاينكر الاتراك ان تركيا اليوم غير تركيا عام 2002، لكنهم كغيرهم من شعوب الدول الديمقراطية لا يتوقفون كثيرا عند الماضي ولا تأسرهم اهتمامات تصرفهم عن التفكير بمستقبلهم القريب.

إنهم بلا شك مهمومون بتحسين مستوياتهم المعيشية، وبالاستقرار الامني والسياسي، وبمنع انعكاس الأزمات الخارجية والحروب الجارية على مقربة منهم (حرب أوكرانيا، ازمة سوريا) على رفاههم وحرياتهم، الفرد التركي مهتم كثيرا باقتصاده الشخصي وليس باقتصاد بلاده الكلي، يراقب اسعار الصرف اليومية ويهتم بالسياسات المالية، والضرائب واسعار الطاقة والمساكن والنقل والصحة ومشاكل الزلزال الاخير، بينما حاول اسلاميو الخارج المأسورين بالكاريزما الاردوغانية، فرض رؤيتهم على الناخب التركي وتدخلوا بشكل صريح وعلني في بيان طويل وقعه عشرات الشخصيات الاسلامية، (اكثرهم محسوبين على الاخوان المسلمين أو قريبين منهم)، داعين الاتراك إلى التصويت لصالح اردوغان وحزبه، لأن في فوز خصومه عودة إلى السياسات العلمانية المتطرفة وخسارة تركيا لصورتها زعيمة للعالم الاسلامي ونموذجا تنمويا وثقافيا صاعدا، يجسد قدرة الاسلاميين على الانجاز.

ما حمل الاسلاميين على هذه التعبئة هو قلقهم من سقوط (صورة النموذج) اكثر من قلقهم على تبني تركيا ستراتيجيات تلائم مصالح اكثرية شعبها، يرونها لاتنسجم مع ما يريدونه هم لا ما يريده المواطن الترك، وفي ذلك مفارقة واضحة، اذ ان الخارج لا ينبغي له أن يؤثر في خيارات الناخب الداخلي، الذي يختار وفق ما تقتضيه مصالحه وفي ضوء حساباته وميوله واتجاهاته، ايا يكن الفائز في الانتخابات الرئاسية التركية فان تركيا على موعد مع مرحلة جديدة في تاريخها الحديث، اذ ان الاتراك سيختارون بين العودة إلى سياسات تكرس نموذج التحديث والتنمية والسياسات الحذرة التي دابت عليها أحزاب تركيا طيلة الحقبة الجمهورية الاتاتوركية، أو يمضون على سياسات اردوغان الداخلية والخارجية، وبذلك يكرسون الحقبة الاردوغانية بكل سماتها واشكالياتها وخصوماتها ونجاحاتها.

.............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق