التعارف الذي يتحقق في الحج من حيث كميته ونوعيته، سعته وشموليته، وعلى اختلاف صوره وأنماطه، لا يمكن أن يتحقق في مكان وزمان آخر، وعلى مستوى كافة الأمم والمجتمعات والحضارات الأخرى. من المفاهيم الحيوية والفاعلة لو أحسنا فهمه وإدراكه على حقيقته وجوهريته، ولو أحسنا التعامل معه بذهنية الانفتاح والتواصل.

يفترق الحج عن باقي العبادات الواجبة الأخرى كالصوم والصلاة بتحديد عنصر المكان، فهو يشترك مع الصوم في عنصر الزمان فللحج أشهر معلومات لا يجوز فيها التقديم والتأخير، والصوم له زمان واحد عند كافة المسلمين وهو شهر رمضان ولكن ليس له مكان يقصده الناس للصوم كالحج. وهكذا الصلاة التي لها أوقات معلومة لكن بدون أن يشترط فيها الاجتماع في مكان معين.

أما الحج فله أشهر معلومات وله أيضاً مكان خاص يقصده المسلمون كافة لأداء مناسك الحج في مكة المكرمة والمشاعر المقدسة. وفي هذا المكان يتحقق أكبر وأعظم اجتماع عبادي للمسلمين تظهر فيه كل تجليات ومظاهر ورموز مفهوم الأمة الواحدة بكل تنوعاتها وتعددياتها العرقية والقومية، اللغوية واللسانية، المذهبية والاجتهادية.

ويكون الحج بهذه الصورة مصداقاً لقوله تعالى ﴿إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ﴾ الأنبياء 92، وهؤلاء الناس يأتون من كل فج عميق كما وصف ذلك القرآن الكريم في آية النداء للحج ﴿ وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ الحج 27، وهو النداء الذي تحقق في الحج حيث أصبح الناس يأتون إلى مكة المكرمة وهم يقطعون مسافات طويلة، ومن أمكنة بعيدة ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات.

وما من مكان في أصقاع هذا العالم وفيه بعض المسلمين إلا ويأتون لأداء مناسك الحج وهذا هو المقصود من كل فج عميق. والمسلمون هم الأمة الوحيدة من بين أمم العالم التي لها مثل هذا الاجتماع السنوي في الحج بهذه الكثافة العددية، وبهذا التنوع البشري، وبهذه الطقوس والمناسك. وفي هذا اللقاء تتاح للمسلمين أعظم فرصة لتحقيق التعارف فيما بينهم، التعارف الذي اعتبره الشيخ محمد علي السايس في كتابه (تفسير آيات الأحكام) من مصاديق قوله تعالى (ليشهدوا منافع لهم) فالمراد من المنافع حسب قوله ما يصيبون من خير الدنيا والآخرة، فخير الدنيا ما يصيبون من لحوم الذبائح، وأنواع التجارات، وما تكون في ذلك الاجتماع العظيم من التعارف.

والتعارف الذي يتحقق في الحج من حيث كميته ونوعيته، سعته وشموليته، وعلى اختلاف صوره وأنماطه، لا يمكن أن يتحقق في مكان وزمان آخر، وعلى مستوى كافة الأمم والمجتمعات والحضارات الأخرى. والتعارف من المفاهيم الحيوية والفاعلة لو أحسنا فهمه وإدراكه على حقيقته وجوهريته، ولو أحسنا التعامل معه بذهنية الانفتاح والتواصل. وهو المفهوم الذي كشفت عن أهميته وقيمته آية التعارف في قوله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا... ﴾ الحجرات 13، فهذه الآية قدمت مفهوم التعارف باعتباره مفهوماً إنسانياً يخاطب به الناس كافة شعوباً وقبائل، تجمعات صغيرة ومجتمعات كبيرة، وهكذا على مستوى الأمم والحضارات.

وقد توصلت بعد تأملات مستفيضة في هذه الآية الكريمة إلى فكرة أو نظرية أطلقت عليها تسمية (تعارف الحضارات). لأن التعارف جاء في سياق مخاطبة الناس كافة بكل تنوعاتهم ومكوناتهم وتعددياتهم الذين يتوزعون في أمم ومجتمعات وحضارات تفصل بينهم البحار والمحيطات، الصحاري والجبال، والمسافات الطويلة والبعيدة، لا ليعيشوا في عزلة وقطيعة، وتتقطع السبل بينهم، ولا ليتصادموا أو يتنازعوا، وإنما (ليتعارفوا). فالتعارف هو دعوة للخروج من فضاء الذات والوصول إلى فضاء آخر. وهو دعوة للتغلب على كل المعوقات والموانع التي قد تقف في طريق الوصول والتواصل مع الآخر الإنساني. والتعارف من بعد آخر هو أعمق وأعلى درجة من الحوار لأن التعارف يعني تكوين الفهم والمعرفة بالآخر، وهو الذي يؤسس أرضيات الحوار، ويحافظ على ديناميته واستمراريته، ويفكك من جهة أخرى أرضيات ومناخات القطيعة والصدام.

والحج هو أكبر وأوسع فضاء لتعارف الأمة مع ذاتها بين مللها ونحلها، وكل تعددياتها وتنوعاتها، وهذا التعارف هو الذي يرسخ مفهوم الأمة الواحدة العالمة بشؤونها وقضاياها، العارفة بزمنها وعصرها. والأمة التي تجهل نفسها ولا تسعى إلى تكوين المعرفة والتعارف مع ذاتها وعالمها وعصرها فإنها أمة تكرس الانقسام في داخلها، والتجزئة في واقعها، وتفرض العزلة على نفسها، والعزلة عن عصرها. لذلك ينبغي علينا أن نضاعف من قيمة التعارف ونبالغ في التأكيد عليه لأننا مع ما أصابنا من تخلف تحولنا إلى أمة يصدق عليها وصف إننا أمة تجهل نفسها، ولا تبذل جهداً كبيراً في التغلب على هذا النمط من الجهل، وليس معروفا عنها المبادرة والسبق والسعي في اكتساب المعرفة، وطلب العلم، وتحصيل الحكمة، وهذه المسلكيات والسلوكيات هي من أبرز مظاهر الأمم المتحضرة، لأن التحضر يقترن بالعلم والمعرفة، والتخلف يقترن بالجهل والأمية. وقد وصل الاختلال الحضاري في واقعنا لدرجة أصبح الغرب يتقدم علينا حتى في المعرفة عن أنفسنا، وفي السعي نحو امتلاك هذه المعرفة، والتحكم بها، وما لم تتغير هذه المعادلة فإننا لن نستطيع أن نغير واقعنا، ونتقدم خطوات نحو البناء والتحضر.

والارتباط بين التعارف والحج له قيمة وحيوية متبادلة، فالتعارف يساهم بصورة كبيرة في تحقيق مقاصد الحج العامة والكلية وعلى مستوى الأمة برمتها. فالحج مظهر من مظاهر القوة والعزة يتحسسها المسلمون بهذا الاجتماع البشري العددي الكبير، لكن هذه القوة والعزة لا تأثير لهما ولا فاعلية بدون التعارف والذي هو مصدر الإحساس بهذه القوة والعزة.

والحج مظهر من مظاهر الوحدة والتآلف لكن بدون التعارف تفقد الوحدة والتآلف تجلياتهما وإشعاعاتهما. والحج مظهر من مظاهر العدل والمساواة لكن بدون التعارف لا يكون للعدل والمساواة عظمتهما. والحج مظهر من السعي والعمل لكن بدون التعارف لا يتحول السعي والعمل إلى تربية وسلوك على مستوى الأمة. والحج مظهر من مظاهر الأمن والسلام والتسامح، والتعارف هو الذي يعزز هذه المظاهر ويرسخها في الأمة. لأن الحج هو تربية للأمة بكل أجيالها وشرائحها، وبكل تنوعاتها وتعددياتها.

من جهة أخرى فإن الحج يضفي على التعارف أجواء العبادة والقداسة والتسامح لذلك فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج كما نص على ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ البقرة 197، وفي تفسير بعض المفسرين القدماء أن الرفث يراد منه الجماع ومقدماته وقول الفحش، والفسوق جميع أنواع المعاصي، والجدال جميع أنواع الخصام. لذلك فإن التعارف في الحج غالباً ما يتصف بالصفاء والصدق والتسامح وهي الصفات المعنوية والأخلاقية التي بدورها تكسب التعارف حالة من الشفافية والقيمية وتجعله متجذراً في النفوس، وراسخاً في الأذهان.

وللتعارف صور وأنماط، مستويات ودرجات، ونمط التعارف الذي نحتاجه في هذا العصر ويكون متصلاً بالحج هو التعارف الذي يرتبط بنهضة الأمة وتقدمها، والذي حاول المصلح الإسلامي عبدالرحمن الكواكبي قبل ما يزيد على قرن أن يلفت النظر إليه، ويقدم حوله صورة نموذجية من خلال كتابه المعروف (أم القرى) والذي وصفه الشيخ محمد رشيد رضا في صحيفته في المنار بأنه لم يكتب مثله في الإصلاح الإسلامي، واعتبره أحمد أمين في كتابه (زعماء الإصلاح في العصر الحديث) بأنه بحث مبتكر يدل على كبر عقل الكواكبي وقوة تفكيره، وسعة إطلاعه، وصدق غيرته على العالم الإسلامي. ولا شك أن هذا الكتاب قد تميز بأطروحة فريدة من بين مؤلفات المصلحين حيث حاول الكواكبي من خلاله أن يقدم تحليلاً شاملاً لمشكلات الأمة بمنهجية تستوعب تعدد البيئات والقوميات واللغات، وتنوع المجتمعات والثقافات في نطاق العالم الإسلامي، من أجل صياغة برنامج مشترك لنهضة إسلامية شاملة في الأمة.

فقد حاول الكواكبي في هذا الكتاب أن يقدم صورة لمؤتمر إسلامي عام يعقد في مهد الهداية، في مكة المكرمة خلال موسم الحج وقبل أداء المناسك، على أن يدرس هذا المؤتمر أسباب تأخر المسلمين وسبل النهوض بهم. المؤتمر الذي حضره كما تخيل الكواكبي اثنان وعشرون مندوباً عن الأقطار الإسلامية والجاليات المسلمة، وعقد أعماله في 12 اجتماعاً إلى جانب اجتماع الوداع. والمندوبون المشاركون كما وصفهم الكواكبي هم: السيد الفراتي، الفاضل الشامي، البليغ القدسي، الكامل الإسكندري، العلامة المصري، المحدث اليمني، الحافظ البصري، العالم النجدي، المحقق المدني، الأستاذ المكي، الحكيم التونسي، المرشد الفاسي، السعيد الإنكليزي، المولى الرومي، الرياضي الكردي، المجتهد التبريزي، العارف التتاري، الخطيب القازاني، المدقق التركي، الفقيه الأفغاني، الصاحب الهندي، الشيخ السندي، الإمام الصيني، وتم اختيار الأستاذ المكي رئيساً للمؤتمر، والسيد الفراتي مقرراً وضابطاً لا عماله، والسيد الفراتي هو الكواكبي نفسه.

والحقائق الأساسية التي يكشف عنها هذا الكتاب، وكأن الكواكبي يريد أن يلفت النظر إليها، وهي:

أولاً: إن المشكلة التي تعاني منها الأمة هي مشكلة عامة وشاملة، أو كما وصفها الكواكبي على لسان الأستاذ الرئيس في الاجتماع الثاني بالفتور العام، أي أن هذا الفتور شامل لكل أعضاء الجسم الإسلامي فيناسب أن يوصف بالعام، وربما يتوقف الفكر كما يضيف الكواكبي في الوهلة الأولى عند الحكم بأن الفتور عام ويشمل كافة المسلمين، ولكن بعد التدقيق والاستقراء نجده شاملاً للجميع في مشارق الأرض ومغاربها. وقد ظل الكواكبي يشرح بالتفصيل وعلى لسان المندوبين هذا الفتور العام والشامل في الأمة لكي يعرف الجميع مشكلة الجميع.

ثانياً: إن الأمة بحاجة إلى اجتماع عام يضم أهل الحل والعقد ومن كل الملل والنحل للتداول في قضايا الأمة العامة ومشكلاتها الكبرى وكيفية النهوض بها، على أساس مبدأ الشورى والتعارف والإتحاد.

ثالثاً: لكي تتغلب الأمة على هذا الفتور العام وتغير من أوضاعها، ومن موقعها في هذا العالم، فهي بحاجة إلى نهضة في كل أجزائها وأطرافها، وفي كل مللها ونحلها. نهضة عامة وشاملة يشترك فيها الجميع، ويتحمل مسؤوليتها الجميع، ويتشاور ويتفق عليها الجميع.

رابعاً: هذه النهضة تتطلب الاتفاق على برنامج عام يشترك الجميع في بلورة تصوراته ومكوناته، وضرورة أن يتحول هذا المؤتمر إلى جمعية تعمل في سبيل تطبيق هذا البرنامج من أجل النهضة الإسلامية الشاملة في الأمة.

والخلاصة أن الحج هو توحيد ووحدة، توحيد لله سبحانه وتعالى، ووحدة للأمة المسلمة. وعلى قاعدة توحيد الله تتوحد الأمة، وتوحيد الله في الأمة يفترض أن يتجلى في وحدتها. والوحدة لا تتحقق بدون التعارف. والحج هو أكبر وأعظم فضاء لتعارف الأمة مع نفسها من أجل نهضتها وتقدمها5.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org

اضف تعليق