العراق لا تبنيه أحزابٌ لم ترتق في فكرها وسلوكها وبُناها وأهدافها وممارساتها الى مصاف الأحزاب البرامجيَّة التنمويَّة التي تنزع عباءة الزعيم والاتباع والقيادات التاريخيَّة الملهمة وتفهم الوظيفة المعاصرة للحزب في دولة جربت الحزبيَّة الثوريَّة والجماعات المقاتلة والمنظمات السريَّة، فلم تصعد في سلم الممارسة السياسيَّة غير درجة أو درجتين وما زلنا نحبو...

زخر تراث العلوم السياسيَّة بالعديد من التنظيرات عن الأحزاب السياسيَّة، ولم ينته القرن العشرون إلا عن تراكم كبير من الأدبيات التي تناولت الأحزاب في ماهيتها وبنيتها التنظيميَّة وهيكليتها ووظائفها وأهدافها وأنواعها، تعرف الأدبيات السياسيَّة الحزب بأنه: تجمع بين رجال ذوي رأي واحد لتضمن لها تأثيراً حقيقياً فعلياً في إدارة الشؤون العامة، وفي تعريف ثان: هو مجموعة من الناس اتحدوا للعمل بمجهودهم المشترك على تحقيق الصالح العام على أساس مبدأ بذاته يتفقون كلهم عليه.

وفي تعريفٍ ثالثٍ: مجموعة من الناس ينتظمهم تنظيمٌ معينٌ وتجمعهم مصالح سياسيَّة ومبادئ معينة ويهدفون الى الوصول الى السلطة والمشاركة فيها.

ويلاحظ أنَّ جميع التعريفات هذه تتضمن عناصر مشتركة أو ما يسمى بثلاثية غرامشي؛ وهي العنصر البشري، وعنصر التلاحم والترابط، والعنصر الوسيط الذي يربط العنصر البشري بعنصر التلاحم، وهو بلا شك الفكرة أو المبدأ وما يتولد منه من مشاعر وروابط إنسانيَّة تزيد تلاحم المجموعة وتمدها بطاقة العمل وإرادة السعي لتحقيق الأهداف والصبر على المكاره والصعوبات والتضحية والمقاومة في سبيل تحقيق مبادئ الحزب.

يقول خبراء السياسة إنَّ الأحزاب في الدول الديمقراطيَّة تعبّرُ عن أوجه الصراع والتنافس بين الجماعات المختلفة، لكنه صراعٌ مضبوطٌ بقوة القانون والأعراف السياسيَّة والقيم الناشئة منها، بحيث لا يتحول هذا الصراع والتنافس الى قوة تهدد السلم الاجتماعي وتعيق تنمية وتطور البلاد وتحقيق المصالح العامَّة، فهي (الأحزاب) وسائل للعمل وليس غايات بذاتها، إنها أوعية لضبط التنافس وتحويله الى برامج عمليَّة تعبر عن مصالح الجماعات، وتالياً هي مصالح المجموع العام بلحاظ المشتركات والغايات التي يعبر عنها العقد الاجتماعي، والدولة الناظمة والدستور الجامع للرؤى المختلفة والمصالح المتعددة.

فالحزب جهازٌ منظمٌ يريد الوصول الى السلطة لا بهدف الاستيلاء عليها واحتكارها بل بهدف تحقيق المصالح والمبادئ التي تعتنقها الجماعة الحزبيَّة، على سعة هذه المصالح ومقدار تمثيلها لقطاعٍ اجتماعيٍ كبيرٍ، فأدوات الحزب في الترويج لهذه المصالح والمبادئ والتعبئة لها، يعتمد على قوة الإقناع وحذاقة الأساليب ومتانة الأفكار وموضوعيَّة القضايا والمصالح التي يدعو الى تحقيقها، فوظيفة الحزب إذاً هي توسيع مشاركة الناس السياسيَّة وتمثيل إرادتهم والدفاع عن أولوياتهم ومطامحهم، وهي أولويات وطموحات لا تزيد عن الرفاه والأمن والترقي العام والدفاع عن السيادة والدعوة الى القيم التي تؤمن بها الأمة أو جزء منها، (أمة الوطن والدولة).

وحتى يضمن الحزب استقرار مؤسساته وانسجام أعضائه لا بُدَّ من ضوابط وقيمٍ داخليَّة ودستورٍ عملي وتراتبيَّة تنظيميَّة وإمكانيات ماديَّة وعمليَّة، تعكسُ صورة الحزب الداخليَّة لأعضائه أولاً ولجمهوره العام ثانياً، ولهذه انقسمت الأحزاب الى أحزابٍ نخبويَّة وأخرى جماهيريَّة، وتنوعت الأشكال بين حزبٍ شمولي ونظريَّة تغييريَّة ثوريَّة ورؤية فكريَّة وأيديولوجيَّة وبرنامج سياسي انقلابي، وبين أحزابٍ برامجيَّة ذات رؤية إصلاحيَّة وإجرائيَّة، كما قد تتنوع الأحزاب بين حزبٍ حديدي وآخر مرنٍ شفاف.

ويفرق علماء السياسة بين أحزاب الدول الديمقراطيَّة وبين الأحزاب التي تنشأ لأغراض المقاومة والتحرير في البلاد التي لم تعش تجارب ديمقراطيَّة، ولم تشهد ممارسات سياسيَّة علنيَّة، بسبب تحكم قوى الاستعمار والإمبرياليَّة بها، فأحزاب المقاومة والتحرير التي تستقطب المشاعر والإرادات العامَّة، تتحول غالباً بعد التحرير الى حزبٍ شمولي يريد قيادة البلاد وحمل الناس على الانتظام في صفوفه، بدعوى قيادة مرحلة ما بعد الاستعمار وتصفية تركاته الثقيلة وآثاره السياسيَّة والثقافيَّة، وهذا التفريق بين أحزاب الدول والتجارب الديمقراطيَّة وبين أحزاب ما كان يسمى بـ"العالم الثاني والثالث".

يعودُ في أساسه الى الاختلاف في مهام وغايات العمل الحزبي، فالحزب (الديمقراطي) في أهدافه وبِنْيته وشعاراته وغاياته ويعمل في العلن تحت ضوء الشمس وسقف القانون، وينمو في أجواء التعدديَّة والحريَّة وفلسفة الحقوق، غير الحزب الذي ينشأ في أجواء العمل السري والبطولة الفرديَّة والكاريزما القياديَّة والأيديولوجيا الثوريَّة، في الأول يتربى الفرد سياسياً ويتعلم قيم العمل السياسي وفق نموذج وموديل غير نموذج العمل السري وأجواء القلق والخوف والمطاردة والصراع والعداوات الأيديولوجيَّة، هذا ما يفسر تحول أغلب الأحزاب الوطنيَّة بعد مرحلة تسلم السلطة الى أحزابٍ قائدة تمارس الشموليَّة السياسيَّة والفكريَّة وتحتكر السلطة بأساليب مختلفة وتنظر لمنهجها وأساليبها وقياداتها بمنظار الطهوريَّة الثوريَّة والشرعيَّة التاريخيَّة والمنجز الاحتكاري.

الفرق كبيرٌ بين أحزابٍ تريد الوصول الى السلطة بأصوات الناس واختيارهم وفق برنامجٍ سياسي يتضمن الحريَّة العمليَّة للناخب، وبين حزبٍ يخاطب غرائز ومشاعر وذاكرة وأفكار وقيم الناس بمنهج التعبئة الصراعيَّة، صحيحٌ أنَّ الأحزاب في جوهرها أجهزة تتسابق الى السلطة، لكنْ شتَّان بين حزبٍ لا يعيش الديمقراطيَّة داخل مؤسساته ولا يغرسها عملياً في صفوف أعضائه، وبين حزبٍ مغايرٍ يسعى الى حياة سليمة ودولة عصريَّة، فيتبنى الديمقراطيَّة منهجاً داخلياً قبل أنْ يدعو الناس لها خارجياً.

المشكلة الكبرى في العمل الحزبي والممارسة السياسيَّة في البلاد التي عاشت الشموليَّة والاستبداد دهراً، أنَّ التسلطيَّة تصبح سمة عامَّة للسلوك السياسي الفردي والجماعي، والوصاية على الجمهور والاستعلاء المبطن عليه، نزعة ثابتة في الخطاب السياسي، والصراع بديلاً عن روح المنافسة والقبول بحقوق متناظرة للآخر.

إنَّ التربية الحزبيَّة في بلداننا (غير الديمقراطيَّة واقعاً) هي تربية إقصائيَّة تبنى على كراهية الآخر وتبخيسه، ولا تعترف بالتعدديَّة الفكريَّة والسياسيَّة والحزبيَّة منهجاً عملياً، بل تخضع لها اضطراراً، فالحرية في أحسن أحوالها قيمة ذاتيَّة وليست قيمة موضوعيَّة، والتشاركيَّة في إدارة الشأن العام ليست قناعة بل هي واقعٌ مفروض، والتداوليَّة شعارٌ أكثر منه قيمة جوهريَّة، هناك فرقٌ كبيرٌ بين التعاقديَّة الاجتماعيَّة وبين الرعويَّة الاجتماعيَّة، الأولى تتعامل مع المواطن الفرد بأنَّ له حقوقاً وعليه واجبات وهو سيدٌ مختارٌ يمنح الشرعيَّة بإرادته ويسحبها بإرادته وقناعاته وفقاً لمصالحه، أما في الثاني فالفرد كائنٌ منتظمٌ في سلسلة الولاية فهو رعيَّة تابعٌ لراعٍ يمارس الأبويَّة بكل التزاماتها غير التعاقديَّة، لأنها مؤسسة على حق الطاعة، وهذا هو فيصل التفرقة بين أحزابنا وأحزاب الدولة الديمقراطيَّة.

والتفرقة هنا تصبح مائزاً عملياً بين أحزاب بهوية واضحة رائدها بناء الدولة بصورتها الواقعيَّة وليس المتخيلة والطوباويَّة، وأحزاب لا تريد الخضوع لمنطق الدولة وتسعى الى ابتلاع هذه الدولة ومؤسساتها والاعتياش منها وعليها بمسوغات فكريَّة واعتباطات سياسيَّة.

العراق لا تبنيه أحزابٌ لم ترتق في فكرها وسلوكها وبُناها وأهدافها وممارساتها الى مصاف الأحزاب البرامجيَّة التنمويَّة التي تنزع عباءة الزعيم والاتباع والقيادات التاريخيَّة الملهمة وتفهم الوظيفة المعاصرة للحزب في دولة جربت الحزبيَّة الثوريَّة والجماعات المقاتلة والمنظمات السريَّة، فلم تصعد في سلم الممارسة السياسيَّة غير درجة أو درجتين وما زلنا نحبو في ميدانٍ فسيحٍ من التجارب الحزبيَّة الانقساميَّة وممارسات أزمنة النظام المستبد.

.....................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق