المسلمون ظلوا طوال قرن كامل يتعاملون مع موضوع الصراع الإسلامي الصهيوني بردود الفعل، باستثناء بعض مواقف الفعل المنفردة، وهذا يدل على أن كثيراً من المسلمين لم يدركوا عمق المشكلة في الواقع، بل في حدود التنظير والأعمال الإعلامية والبحثية. وهو الأمر الذي سمح للمشروع الصهيوني بالتوسع والتمدد والتضخم...

أرض الميعاد

تشكل أرض فلسطين، الجغرافيا المركزية للعقيدة الصهيونية؛ فهي «أرض الميعاد» ونواة «إسرائيل الكبرى»، وهي الحلم الذي يدغدغ المشاعر التاريخية للصهاينة بالعودة وبنهاية مرحلة الشتات. وهي في مجملها أوهام تأسست على أساطير تاريخية كما يقول المفكر الفرنسي المسلم «روجيه غارودي»، وبكلمة أخرى فهي لي لعنق بعض النصوص اليهودية التاريخية.

ومن هنا جاءت تسمية (الصهيونية) نسبة إلى جبل (صهيون) في فلسطين، وهو جبل مقدس لديهم، وقد أطلق هذه التسمية اليهودي الألماني «ناتان بيرنياوم» في عام 1890، ويقصد بها الحركة والأيديولوجية التي تعبر عن هدف الشعب اليهودي في العودة إلى فلسطين، وهذا الهدف القومي التاريخي يمثل - كما يزعمون - إرادة إلههم (يهوه) الذي اصطفى «فلسطين وطناً لبيته وسكانه»؛ فقد جاء في سفر التكوين: «قال الرب لإبرام: اذهب من أرضك وعشيرتك ومن بيت أبيك إلى الأرض التي أربك، فذهب إبرام كما قال الرب، فأتوا إلى أرض كنعان وظهر الرب لإبرام وقال: لنسك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير، نهر الفرات»(1). وحينها حلّ العبرانيون في فلسطين كمهاجرين أو مغتربين كما يقول النص التوراتي: «وتغرب إبرام في أرض الفلسطينيين أياماً كثيرة»(2).

وقد حدد المؤتمر الصهيوني الأول في مدينة بال بسويسرا عام 1897 هدف «المنظمة الصهيونية العالمية» التي تأسست بقرار من المؤتمر بهذه العبارة: «إنّ هدف الصهيونية هو إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين يضمنه القانون العام»(3). وسوغت المنظمة - نظرياً - كل أساليب العدوان والعنف لتحقيق هذا الهدف، بما في ذلك الهجرة الجماعية والغزو والاحتلال والاستيطان ومصادرة أراضي السكان الأصليين وتشريدهم واستباحة المقدسات والأعراض والقتل والتعذيب، كما قررت المنظمة أن تكون فلسطين أرضاً يهودية خالصة(4)، وأن تكون أراضي الدول المجاورة (لبنان، سوريا والأردن) عمقاً أمنياً وامتداداً حيوياً لها، تمهيداً لتحقيق هدف «إسرائيل الكبرى: من النيل إلى الفرات».

والتقت المصالح الصهيونية - البريطانية في بدايات القرن العشرين عند نقطة إيجاد وطن قومي لليهود في فلسطين، وهو ما أعلنه «آرثر جيمس بلفور» وزير خارجية بريطانيا عام 1917، لتكون الدولة اليهودية الجديدة في فلسطين عبارة عن خندق استعماري بريطاني في قلب العالم العربي والإسلامي، لحماية أهداف بريطانيا في المنطقة. ثم تحقق هذا الوعد (البريطاني وليس الإلهي) بإعلان «بن غوريون» عن قيام (دولة إسرائيل)، والذي بدأه بكلمة: «أرض إسرائيل هي مهد الشعب اليهودي». محققاً بذلك الأسطورة التاريخية التي تبدأ بعودة العبرانيين لأرض الميعاد وتنتهي بإبادة الكنعانيين والفلسطينيين والشعوب العربية المجاورة. وأعادت الحركة الصهيونية حينها تأكيدها على أن القدس (أورشليم) هي عاصمة (إسرائيل) الأبدية، وهو خيار تاريخي لا تمتلك العصبية اليهودية باتجاهاتها العلمانية والدينية خياراً آخر له.

تهويد فلسطين

«تهويد فلسطين» هو العنوان الرمزي للإستراتيجية العليا للحركة الصهيونية، والتي بدأت بتنفيذها منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، أي أعقاب انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول مباشرة. وهذا لا يعني عدم وجود خطوات سابقة بهذا الشأن؛ فقد قام بعض أصحاب رؤوس الأموال اليهود في بريطانيا وأمريكا بدعم مشاريع بناء الأحياء والمستوطنات والكنائس اليهودية في فلسطين ابتداءً من عام 1842، بينها حوالي (27) مستوطنة في القدس وحدها، ونشط هذا التحرك بعد مؤتمر بال عام 1897، تصاحبه صيحات رواد المنظمة الصهيونية، ولا سيما «هرتزل» و«نوردو» بتفريغ فلسطين من سكانها ونقلهم إلى البلدان المجاورة. وأخذ الاستيطان شكلاً منظماً في أعقاب وعد بلفور عام 1917 برعاية حكومة بريطانيا وبدعم مباشر من سلطة الانتداب البريطاني الذي بدأ في فلسطين عام 1920.

وكان الغزو البشري اليهودي يتصاعد تصاعداً مطرداً، حتى بلغ عدد اليهود في فلسطين عام 1925 حوالي (75) ألف نسمة، أي ما نسبته 10% فقط من عدد سكان فلسطين، وقفز العدد إلى (250) ألف عام 1929، ثم ما يقرب من (350) ألف عشية تقسيم فلسطين عام 1947 بقرار منظمة الأمم المتحدة. وخلال حرب 1948 والعام الذي يليه ارتفع العدد إلى (600) ألف نسمة، وهو ما يعادل 31% من عدد السكان.

وتسبب قرار التقسيم وإعلان قيام دولة (إسرائيل) إلى تهويد القسم الذي أصبح جزءاً من الكيان الصهيوني، ومنه القدس الغربية (التي تشكل حوالي 84% من مساحة مدينة القدس). وبالتدريج أصبح الفلسطينيون أقلية في هذه المناطق، وهم الذين يطلق عليهم فلسطينيو 1948 أو عرب الداخل. وتمدد الكيان الصهيوني على القسم الذي أقرت الأمم المتحدة بقاءه عربياً، فاحتلت سلطاته قطاع غزة ومناطق الضفة العربية خلال حرب 1967، بل وتجاوزت حدود فلسطين لتحتل شبه جزيرة سيناء (المصرية) ومنظمة الجولان (السورية)، ثم وحدت شطري القدس تحت سيطرتها، وطبقت في هذه المناطق أيضاً إستراتيجية التهويد، مستخدمة كل أساليب العدوان والشر.

واستمر عدد الفلسطينيين بالتناقض من خلال التشريد والهجرة المعاكسة، وعدد اليهود بالتصاعد، حتى بلغت نسبة العرب في فلسطين المحتلة (أراضي العام 1948) حوالي 17% واليهود 83% عام 1989، وهي النسبة التي كانت عكسية عام 1947(5). وبرغم هذه الحقائق التي يقر بها الجميع، حتى أولئك الذين زرعوا الصهاينة في فلسطين ودعموهم بالمطلق، غلا أن زعماء الحركة الصهيونية يجنون على التاريخ والجغرافية وهم يرفعون شعار: «فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، وهو ما ترجمته «غولدا مائير» في عام 1969 بقولها: «ليس هناك من شعب فلسطيني، وليس الأمر كما لو أننا جئنا لنطردكم من ديارهم والاستيلاء على بلادهم، انهم لا وجود لهم»(6). وبالطبع فإن إستراتيجية التهويد لا تقتصر على تهويد الأرض والسكان، بل تستهدف أيضاً التهويد الثقافي والتعليمي، وتهويد الأماكن التراثية والمقدسات الإسلامية، ويبرز ذلك بشكل أكثر وضوحاً في مدينة القدس وغيرها من المدن المقدسة كالخليل.

الاعتداءات الصهيونية على الإنسان والمقدسات

جاء الغزاة الصهاينة إلى فلسطين وهم يحملون البنادق ويبيتون الشر لأهلها وأرضها ومقدساتها. ففي مطلع القرن العشرين الميلادي بدأ اليهود الصهاينة بتسليح أنفسهم وتنظيم صفوفهم، وانتهت هذه الإرهاصات إلى مبادرة الوكالة اليهودية في فلسطين إلى تأسيس منظمة عسكرية سرية في عام 1907 شعارها: «سقطت يهودا بالدم والنار، وستنهض بالطريقة نفسها»، وحملت اسم «هاشومير» بعد عامين، ثم أعيد النظر في برامجها ونشاطها عام 1920 لتظهر في إطار منظمة عسكرية جديدة أكثر قوة وعنفاً هي منظمة «هاغانا»، ثم اندمجت المنظمتان عام 1948 ليتشكل منهما جيش الكيان الصهيوني.

وفضلاً عن الأعمال الإرهابية التي مارستها هذه العصابات، ومن ثم عرف بـ «جيش الدفاع الإسرائيلي» داخل فلسطين، فإن الحركة الصهيونية العالمية مارست إرهاباً منظماً آخر خارج فلسطين، لكنه استهدف هذه المرة اليهود أنفسهم، فقد التقت المصالح الصهيونية مع مصالح حكومات بعض الدول الكبرى عند نقطة إجبار اليهود على الهجرة إلى فلسطين، ومن ذلك التنسيق الصهيوني مع النازية في ألمانيا، ومع الشيوعية في الاتحاد السوفيتي، والصليبية الاستعمارية في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية: لاستفزاز اليهود في أوروبا والمنطقة العربية والإسلامية، من خلال محاصرتهم سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، والقيام بأعمال عنف وإرهاب ضدهم: بهدف ترحيلهم عنوة إلى فلسطين، ولا سيما بعد أن رفض كثير من اليهود الموزعين على دول العالم المختلفة فكرة الهجرة إلى فلسطين، حتى اضطر هؤلاء للجوء إلى فلسطين هرباً من الاضطهاد المفتعل. وبهذا المخطط تمكنت الحركة الصهيونية العالمية من حشد اليهود في فلسطين.

وفي داخل فلسطين، تعرض الإنسان والمقدسات إلى أبشع أعمال العنف والإرهاب والعدوان على يد العصابات الصهيونية المسلحة القديمة والجديدة، والسلطات المدنية والعسكرية الصهيونية. ولا شك أن الكتب والبحوث والإحصاءات التي تحدثت عن الجرائم والمجازر التي قام بها الصهاينة في فلسطين تعد بالآلاف، وقد لا نأتي بجديد في هذا المجال، ولكن نختصر الطريق إلى الحقيقة من خلال عرض نماذج للاعتداءات التي قام بها الصهاينة على المقدسات الإسلامية في القدس والخليل، وتحديداً على المسجد الأقصى والحرم الإبراهيمي، على اعتبار أن اليهود يطلقون على المسجد الأقصى اصطلاح «شناعة الحزب»، ويعنون بذلك معبد الأصنام والتماثيل، مهو مصطلح قديم أسقط المسجد الأقصى، فيما يعتبرون الحرم الإبراهيمي حرمهم وكنيسهم الذي لا يحق للمسلمين دخوله.

مخطط هدم المسجد الأقصى

وهو مخطط قديم، وله علاقة ببعض أساطير الإيديولوجيا الصهيونية، إذ تعتقد هذه الأساطير بأن هيكل النبي سليمان(ع) يقع تحت المسجد المقدس، وأن المسجد بني على أنقاض الهيكل. واليهود ينظرون إلى إعادة بناء الهيكل نظرةً قومية وليست دينية، على اعتبار أن سليمان عندهم ملك قومي ابن ملك قومي، وليس نبياً ابن نبي.

وبدأ الصهاينة بتنفيذ هذا المخطط بمصادرة العقارات المحيطة بالمسجد وهدمها أو تصديعها تحت مختلف الذرائع، ثم أخذ المخطط طابعاً جاداً ومعلناً بعد نكسة حزيران/ يوليو 1967؛ ففي أواخر هذا العام بدأ الهدم والتنقيب في المساحة الملاصقة لحائط البراق (المبكى)، وعلى امتداد الأسوار الغربية والجنوبية لحرم المسجد، وكان (حي المغاربة) هدفاً مباشراً للهدم، وبلغ عمق الحفريات حوالي (14) متراً.

وفي عام 1969 استمرت عمليات الهدم من حيث انتهت، وبلغت (80) متراً على طول سور الحرم، وفي العام التالي أخذت الحفريات تمتد بطول (180) متراً أسفل المنطقة المارة بأسوار الحرم وأبوابه، وعلى شكل أنفاق. وبحلول عام 1972 وصل التنقيب إلى أسفل ساحة المسجد، ورافقها الاستيلاء على مبنى المحكمة الشرعية الإسلامية الملاصقة للمسجد، وتحويل جزء منها إلى كنيس. وفي الأعوام التالية اخترقت الحفريات المساحة التي تقع أسفل السور الغربي، وصولاً إلى السور الجنوبي باتجاه السور الشرقي، وتوقفت عند الأروقة السفلية وأروقة المسجد الجنوبية الشرقية، ورافقها إزالة مقبرة تاريخية للمسلمين تضم رفاة بعض الصحابة. وفي عام 1977 بلغت عمليات التنقيب المساحة التي تقع تحت مسجد النساء داخل المسجد الأقصى، فضلاً عن تعميق ساحة البراق. ثم تبعتها حفريات جديدة تحت السور الغربي، والبدء بشق نفق يبدأ في شرق المسجد الأقصى، وتقرر أن يصل إلى غربه، وكذلك حفريات أخرى تحت الجدران الجنوبية بحثاً - هذه المرة - عن مدافن لملوك بني إسرائيل. وحاولت وزارة الأديان الصهيونية (المعنية بعمليات التنقيب - الهدم) في عام 1981 أن توصل حفرياتها بنفق إسلامي قديم تحت السور الغربي للحرم.

وتوقفت الحفريات بضع سنوات؛ حتى عام 1986؛ حين استؤنفت بصورة واسعة، أدت إلى إغلاق بعض المنشآت العربية العامة والخاصة، وطرد أعداد كبيرة من السكان العرب خارج القدس القديمة (التي تضم المسجد الأقصى). واتخذ «آرييل شارون» الذي كان وزيراً حينها؛ أحد البيوت المصادرة القريبة في المسجد الأقصى منزلاً شخصياً له، لتأكيد عملية تهويد منطقة الحرم القدسي.

وفي التسعينات أيضاً شهدت عمليات الحفر والتنقيب مرحلة أخرى؛ إذ وسعت مساحة الأنفاق تحت المسجد، وتم إيصال قسم منها إلى الجانب المقابل، فيما تم تفريغ كميات هائلة من التراب في مناطق الحفر، الأمر الذي كان سيؤدي إلى انهيار أجزاء من المسجد فيما لو استمرت عملية التفريغ على هذه الوتيرة.

حرق المسجد الأقصى

وهو العمل الإجرامي الكبير الذي قامت به العصابات الصهيونية في آب/ أغسطس من عام 1969، وأدى إلى اشتعال النيران في أروقة المسجد. ومن أجل التغطية على جريمتها، فإن السلطة الصهيونية سجلت الجريمة ضد فاعل واحد صهيوني (من أصل أسترالي) الذي نفذ العملية.

محاولات اقتحام المسجد الأقصى

تكررت محاولات اقتحام المسجد الأقصى ابتداءً من عام 1979؛ حين حاولت جماعة (أمناء جبل الهيكل) بزعامة الحاخام «غورشون سلمون» اقتحام المسجد الحرام، وأعقبتها محاولات جماعة (هاتحيا) وجماعة (كاخ) بقيادة الإرهابي «مائير كاهانا»، وهي المحاولات التي شجعت المؤتمر الديني اليهودي الذي عقده الحاخامات الصهاينة في القدس في نيسان/ أبريل 1980 لاتخاذ قرار بالسيطرة على المسجد الأقصى، تمهيداً لتدميره وإعادة بناء هيكل سليمان على أنقاضه. وتسببت محاولات جماعة الحاخام «كاهانا» في تدنيس المسجد الأقصى إلى وقوع صدامات عنيفة في ساحته بين الفلسطينيين المدافعين عن حرماتهم ومقدساتهم والإرهابيين الصهاينة المهاجمين.

وكانت محاولتا نسف المسجد الأقصى وقبة الصخرة في آب/ أغسطس وتشرين الأول/ اكتوبر من عام 1982 من قبل جماعة (كاخ) أهم المحاولات التي جرت في عقد الثمانينات. أما المحاولة الأبرز التي أعقبتهما فهي محاولة شارون (الوزير الصهيوني حينها) في أيلول/ سبتمبر 2000 بدخول المسجد الأقصى مع الكثير من أنصاره وحراسة وتغطية عسكرية مكونة من (3000) جندي صهيوني، وهي المحاولة التي أدّت إلى استشهاد وجرح العشرات من الفلسطينيين، وكانت نتيجتها المباشرة اندلاع (انتفاضة الأقصى).

وفي السياق نفسه تدخل محاولات بعض الصهاينة المتدينين أداء طقوسهم اليهودية داخل المسجد الأقصى، وهو ما حدث لأول مرة وبشكل رسمي في آب/ أغسطس 1989، حين أدى بعض اليهود طقوسهم على أبواب المسجد الأقصى. وبعدها بعشر سنوات تقريباً افتتح رئيس وزراء الكيان الصهيوني موقعاً جنوب المسجد الأقصى يؤدي فيه اليهود طقوسهم؛ الأمر الذي شجع بعض الزعماء الصهاينة للمطالبة بتقسيم المسجد الأقصى رسمياً بين اليهود والمسلمين. وقد سبقها محاولات غير رسمية، حين طاف ثلاثة صهاينة داخل قبة الصخرة عام 1969، ثم أداء زعيمين صهيونيين لطقوس دينية داخل المسجد الأقصى عام 1973.

الاعتداء على المصلين

في تشرين الثاني/ نوفمبر 1979 افتتحت الشرطة الصهيونية مسلسل الاعتداء على المصلين داخل المسجد الأقصى، بعد أن أطلقت الرصاص عليهم. وفي نيسان/ أبريل 1982 أطلق جندي صهيوني النار بشكل عشوائي على المصلين. وخلال انتفاضة الحجارة كانت الاعتداءات تتكرر باستمرار، ولا سيما خلال صلوات الجمعة. وفي آب/ أغسطس عام 1990 اقتحمت الشرطة الصهيونية الحرم القدسي خلال صلاة الفجر وقتلت (22) مصلياً وجرحت ما يقرب (200) آخرين. وبعد اندلاع انتفاضة الأقصى استمرت الاعتداءات على رواد المسجد الأقصى، ابتداءً من منعهم دخول المسجد لأداء الصلاة وانتهاءً بملاحقتهم في ساحات المسجد وإطلاق الرصاص عليهم، وهو الأمر الذي لا يزال مستمراً حتى الآن.

الاعتداءات على الحرم الإبراهيمي

يضم الحرم الإبراهيمي في مدينة الخليل (في الضفة الغربية) رفات أنبياء الله إبراهيم ويعقوب وإسحاق(ع)، ويدّعي الصهاينة أنهم أحق بالسيطرة على الحرم، ومن هنا بدأوا مخططهم بالسيطرة على مدينة الخليل بعد حرب حزيران/ يونيو 1967، إذ زرعوا في العام التالي عدداً من المستوطنات حول المدينة، أعقبة إقامة حي يهودي فيها (حي الدبويا)، وانتهى الأمر إلى مصادرة السلطات الصهيونية (24) ألف دونم من مساحة المدينة (حوالي ثلث مساحة المدينة)، وخلال ذلك كان الصهاينة يدخلون الحرم الإبراهيمي لأداء طقوسهم الدينية، وتحول الأمر إلى قرار رسمي في عام 1972، واستغلت جماعة (كاخ) القرار لاستباحة حرمة المقام الإبراهيمي واقتحامه أثناء أداء المسلمين الصلاة، الأمر الذي شجع السلطات الصهيونية بالسماح لليهود بأداء طقوسهم أثناء أداء المسلمين الصلاة في الحرم الإبراهيمي. وبالتدريج تم تقليص ساعات حضور المسلمين في الحرم وإطلاقها لليهود، وتحويل الجزء الأكبر منه - ومنه المسجد الداخلي - إلى كنيس يهودي، ومشاركة اليهود المسلمين في مصلاهم، تمهيداً لتهويد الحرم نهائياً. وخلال ذلك مارس الصهاينة مختلف الأعمال الإرهابية ضد رواد الحرم الإبراهيمي، كالتهديد والمضايقة والملاحقة والاعتداء بالضرب والقتل، وكانت المذبحة التي تعرض لها المصلون في الحرم على يد المستوطنين الصهاينة في شباط/ فبراير 1994 هو العمل الإرهابي الأبرز، الذي شهدته مدينة الخليل، فقد قتل في هذه العملية (29) مصلياً وجرح العشرات.

المسلمون بين الفعل ورد الفعل

ظلت الاعتداءات الصهيونية على الإنسان والمقدسات تتصاعد بمرور السنين، وخاصة ضد فلسطينيي القدس والضفة الغربية وقطاع غزة. ولم يكتف - كما كانت دائماً - بالإنسان الفلسطيني والمقدسات في فلسطين، بل تعدته منذ عام 1956 لتشمل الإنسان في دول الجوار أيضاً (مصر، سورية، لبنان، والأردن). وبرزت مؤشرات عقيدة العدوان الصهيونية بشكل أكبر في لبنان أعوام 1982 و1996 و 2006 و2023، هذه الأعوام التي مارس فيها الصهاينة أبشع ألوان الجرائم ضد جنوب لبنان وميادين المقاومة في سائر لبنان.

ولسنا بحاجة إلى تأكيد أهمية موقع فلسطين والقدس عقائدياً وسياسياً في الخارطة الإسلامية، كأي أرض إسلامية مقدسة أخرى، أو غيرها من الأراضي المحتلة، كالجولان وجزء من جنوب لبنان. وتأكيد المسلمين أن فلسطين هي القلب في القضايا الإسلامية يكفي مؤونة البحث في هذا المجال. ولكن هناك نقطة لا بد من التذكير بها، وهي أن احتلال فلسطين يعني احتلال جزء من الوطن الإسلامي، وبالتالي فقدان الوطن الإسلامي جزءاً من استقلاله السياسي والجغرافي، وتعرض الأُمة الى الاستهداف في عقيدتها وهويتها، واستباحة المقدسات التي اؤتمن عليها المسلمون، ولا سيما أن الذي يقوم بهذه المهام ليس عدواً تقليدياً، بل هو مشروع كبير في حجمه، وعميق في نظريته وأهدافه العقائدية والسياسية والتاريخية والجغرافية، فضلاً عن خطورته العظمى التي تتمثل في جرأته وطموحه وجديته، ولا سيما أنه ينفذ مخططه في إطار مفارقة يصعب تصورها فضلاً عن تصديقها، إذ إنّ أصحاب المشروع الذي يتجاوز عددهم (13) مليون نسمة (فيما لو افترضنا جدلاً أن التيار الصهيوني يستوعب جميع اليهود)، يستهدفون وجود وعقيدة وكيان مليار و600 مليون إنسان؛ فهل يمكن تصور هذه المفارقة حتى لو وضعنا لها آلاف المسوغات؟!.

ومن هنا؛ فإنّ جميع الحلول التي تأتي عبر التفاوض أو التعايش مع هذا العدو وصولاً إلى السلام والأمن في فلسطين والمنطقة الإسلامية هي حلول لا تلامس إلا سطح القضية، والمنطقة الإسلامية هي حلول لا تلامس إلا سطح القضية، ولعلها لا تدرك أن فيها عمقاً بالغاً: لكي تغوص فيه وتجد من خلال هذا الحل المناسب. فهذا العدو بقبوله التفاوض أو الصمت - أحياناً - حيال بعض ردود الفعل الإعلامية والسياسية (المحلية أو العربية والإسلامية) فإنه يسخر من خصومه؛ لأنه لن يرضى بما استولى عليه من أرض ومقدسات، ولن يكتفي بما حققه حتى الآن، لكي يقال إنه سيلتزم بعدم القيام بأي عمل عدواني، في حال الدخول معه في اتفاقيات ومعاهدات؛ فالصهيونية لن تتنازل عن هدف «إسرائيل الكبرى».. هذه الإمبراطورية التي يراد لها الانطلاق من العدوان على الأمة الإسلامية جغرافياً وأمنياً وسياسياً باتجاه تدميرها عقائدياً وثقافياً.

والحقيقة أن المسلمين ظلوا طوال قرن كامل يتعاملون مع موضوع الصراع الإسلامي - الصهيوني بردود الفعل، باستثناء بعض مواقف الفعل المنفردة، وهذا يدل على أن كثيراً من المسلمين لم يدركوا عمق المشكلة في الواقع، بل في حدود التنظير والأعمال الإعلامية والبحثية. وهو الأمر الذي سمح للمشروع الصهيوني بالتوسع والتمدد والتضخم، ليس في فلسطين وحدها، بل تعداه إلى معظم الدول المجاورة. فبعد أن أعلنت دولة إسرائيل عن نفسها عام 1948، في أعقاب هزيمة الجيوش العربية، زحفت شيئاً فشيئاً على أراضي فلسطين الأخرى، حتى استولت عليها بالكامل عام 1967، فضلاً عن شبه جزيرة سيناء المصرية والجولان السورية وجزء من أراضي الأردن، في حرب استمرت ستة أيام فقط، هزم الصهاينة الجيوش العربية المشتركة في الحرب مجتمعة. وأعقبت ذلك غزو لبنان عام 1982 ثم مهاجمته ثانية عام 1996، وأعقبتها الحرب الشاملة ضد المقاومة الإسلامية اللبنانية وشعبها في تموز/ يوليو 2006، وصولاً الى الحرب الهمجية الرهيبة على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

المقاومتان الإسلاميتان اللبنانية والفلسطينية: الاستثناء التاريخي

لم يكتف المشروع الصهيوني بالوسائل العسكرية في انتشاره وفرض هيمنته ونفوذه، بل استخدم وسائل أخرى لا تقل خطورة، كالحرب النفسية والدعائية، والتطبيع الثقافي، والنفوذ السياسي والدبلوماسي، والتمدد الاقتصادي. ولم تبخل كثير من أنظمة البلدان العربية والإسلامية في توفير الفرص للمشروع الصهيوني في محاولته لتحقيق أهدافه.

وتسوغ هذه الأنظمة فعلها بتبني ما تسميه بالواقعية السياسية التي فرضت الكيان الإسرائيلي أمراً واقعاً في المنطقة لا بد من التعامل معه، بل وإرضاءه، وهي في الحقيقة واقعية سياسية ترتبط بالتخطيط الأمريكي للمنطقة الإسلامية، تحت أسماء ومسميات كثيرة، ليس أولها ولا آخرها: النظام الإقليمي الأمني في الشرق الأوسط أو (خرائط الطرق) أو الشرق الأوسط الجديد. وهو التخطيط الذي لا يمكن لأنظمة المنطقة التحرر منه؛ لأن نتيجة التمرد عليه أو على جزء من تفاصيله يعد تحدياً للإرادة الأمريكية، وبالتالي إعلان حرب، تنتهي بسقوط المتمرد، وهو ما لا يريده أي نظام يريد المحافظة على رأسه. ومن هنا فالهزيمة العربية ظلت الثابت في معادلة الصراع الإسلامي - الصهيوني بكل أشكاله ومضامينها، منذ بدء الصراع.

والاستثناء التاريخي الوحيد الذي ظل يكسر المعادلة منذ عام 1982 هو فعل المقاومة الإسلامية في لبنان، التي لا تزال حالة نادرة منذ بدء الصراع؛ الأمر الذي يحتم تحوّل هذه الحالة إلى مادة للدرس والبحث على مختلف الأصعدة: الدينية والعسكرية والسياسية والنفسية والعلمية، للإفادة من تجربتها في ميدان الصراع. فالمقاومة الإسلامية في لبنان حطمت بصمودها العنجهية الإسرائيلية عام 1996، وألحقت هزيمة ساحقة بالجيش الإسرائيلي عام 2000، ثمّ عملت مواجهتها الأسطورية لقوات الغزو الإسرائيلي في 2006 إلى تحويل مقولة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر مجرد وهم؛ إذ تمكنت فئة مؤمنة قليلة من أبناء المقاومة الإسلامية اللبنانية من دحر الجيش الإسرائيلي، ثم إجبار الكيان الإسرائيلي على إيقاف الحرب والانسحاب من جنوب لبنان، بعد أكثر من شهر من الجريمة الوحشية المتواصلة التي ارتكبها الصهاينة ضد المدنيين العزّل والبنية التحتية للجنوب اللبناني والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، وهو ما يؤكد نوعية العدوانية الصهيونية المستندة إلى أصول عقيدة راسخة في العقيدة الصهيونية.

كما أثبتت المقاومة الإسلامية الفلسطينية في تشرين الأول/ أكتوبر 2023 خلال عملية «طوفان الأقصى» أنها ظاهرة استثنائية أُخرى، وقلبت موازين القوة على الأرض، وتشي بمستقبل جديد لمعادلات الصراع العسكري والاستراتيجي بين الفلسطينيين والكيان الإسرائيلي. ومن هنا؛ فإن حالة المقاومة الإسلامية اللبنانية بعد العام 2000، والمقاومة الإسلامية الفلسطينية بعد العام 2023؛ هما حالتان للاعتبار ومعيار لقابلية المؤمنين على النصر فيما لو وفروا لأنفسهم شروط النصر، برغم قلة عددهم وضعف إمكاناتهم المادية وتآمر المحيط ضدهم. ولم تكن ردود الفعل العربية والإسلامية بحجم صمود المقاومة وانتصارها، على الرغم من أن موقف الشارع كان أكثر التصاقاً بواقع الصمود والنصر.

موقف فقهاء الأمة

لقد أثبتت وقائع سنوات الصراع في فلسطين، منذ العام 1948 وحتى الآن، بأن الرهان على الأنظمة العربية في دعم الشعب الفلسطيني لاستعادة أرضه وحقوقه، هو مجرد وهم، وخاصة بعد فرض الولايات المتحدة الأمريكية نظامها الإقليمي والسياسي الاستراتيجي في الشرق الأوسط، بعد العام 1991، وهو النظام الذي باتت فيه أغلب الأنظمة العربية جزءاً منه، هذا عدا عن تحوّل العلاقات السرية بين الكيان الإسرائيلي وهذه الأنظمة، الى علاقات دبلوماسية علنية ومعاهدات سياسية وثقافية واقتصادية، وصولاً الى التفاهمات الأمنية؛ الأمر الذي حوّل القضية الفلسطينية الى عبء ثقيل على كاهل هذه الأنظمة، تريد التخلص منه بأي ثمن، خاصة بعد أن ظهور محور قوي جديد عنوانه محور المقاومة، والذي جعل من القضية الفلسطينية مركزاً لعقيدته الإنسانية الدينية السياسية.

كما أن الرهان على الشعوب العربية والإسلامية هو رهان ناقص، لأنها مكبلة بقيود أنظمتها المصطفة ضد المقاومة الفلسطينية وعموم محور المقاومة، ولا يكتمل هذا الرهان إلّا بأخذ فقهاء المسلمين زمام المبادرة، والتحرر من إملاءات الأنظمة، لأن الواقع أثبت أن فتوى الفقيه وكلمته وتوجيهه، هو الأكثر تأثيراً والأقوى تحريكاً.

ويمسك الفقهاء الأمة بمساحات واسعة لتحريك الأمة، وتحكيم الغطاء الشرعي لوسائل المقاومة بكل ألوانها، وتوفير شروط الفعل الإسلامي المنتصر، وهو تحرك في غاية الأهمية على الصعد كافة؛ إذ أن هذا التحرك ربما يتحول آليا من التنظير إلى الفعل فيما لو أصرّ فقهاء الأمة وعلماء دينها على إثارته، ومارسوا من خلال مواقعهم العلمية والدينية والاجتماعية، ضغطاً عقلانياً على المجتمعات السياسية والمدنية الإسلامية، من أجل تنفيذ ما يترتب عليه؛ إذ يأخذ هذا التحرك شكل التثقيف للأحكام والفتاوى الشرعية الجماعية، ومنها ما يمكن اقتراحه:

1- إصدار فتاوى بحرمة أي شكل من أشكال التعامل مع الكيان الصهيوني من قبل المسلمين (أفراد وجماعات وحكومات)، وبمقاطعته ومقاطعة جميع المؤسسات الصهيونية في كل العالم، مقاطعة شاملة: دينية وسياسية واقتصادية وثقافية وإعلامية.

2- إصدار فتاوى بحرمة التعامل مع المؤسسات الاقتصادية والمالية والثقافية والإعلامية التي تدعم الكيان الصهيوني.

3- إصدار فتاوى بوجوب دعم الشعب الفلسطيني والمقاومة الفلسطينية والمقاومة اللبنانية بكل مستلزمات البقاء والصمود؛ لأنهما يعدان خيار تحرير الإنسان والهوية والمقدسات والأرض في فلسطين ولبنان وسورية، وجواز صرف الحقوق الشرعية في هذا السبيل.

4- إصدار فتاوى بقدسية أرض فلسطين بكاملها، ككل الأراضي الإسلامية الأخرى، وحرمة التنازل عن أي شبر منها إلى الصهاينة أو غيرهم، وبأنّ فلسطين والقدس وكل المعالم الإسلامية فيهما هي حق شرعي للمسلمين ولأهلها الأصليين، وليست مساحات قابلة للمساومة، أي أن التنازل عن أي شبر من فلسطين حق لا يمتلكه الفلسطينيون وحدهم.

5- التأسيس لآلية متكاملة تستوعب علماء الإسلام أو أغلبهم؛ بهدف تجميع الأدوار الفردية في دور جماعي موحد، الأمر الذي يكرس موقعهم المركزي في معادلة الصراع الإسلامي - الصهيوني؛ وصولاً إلى الإمساك من جديد بإسلامية المعادلة وأبعادها الشرعية، ولعله الخيار الوحيد من أجل أن تنعتق المعادلة من أسر الأدبيات والأفكار التي تحاصرها منذ عشرات السنين.

ولا يخفي الكيان الصهيوني وحماته، خوفهم من إمكانية تمسك المسلمين بالخيار الإسلامي لقضية فلسطين، وقد عبر عن ذلك «بن غوريون» مؤسس الكيان الصهيوني بقوله: ((نحن لا نخشى الاشتراكيات ولا الثوريات ولا الديمقراطيات في المنطقة، نحن فقط نخشى الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلاً وبدأ بتململ من جديد))(7).

وقد أثبت الواقع - وليس «بن غوريون» - ومن خلال مئات الوقائع؛ أن الإسلام هو الذي يستطيع وحده حسم الموقف لصالح الفئة المؤمنة في معادلة الصراع الإسلامي - الصهيوني؛ وهو ما أثبتته المقاومتان الإسلاميتان اللبنانية منذ ثمانينات القرن الماضي وحتى الآن؛ فقد باتتا القوتان المتفردات في تحريك الشارع الفلسطيني والعربي والإسلامي، وفي تحقيق الإنجازات العسكرية والسياسية والإعلامية لمصلحة القضية الفلسطينية، بدعم محور المقاومة والممانعة، وهم يستنطقون كلام الله ووعده بحق قتلة الأنبياء ((وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُون))(8).

.........................................
الإحالات
(1) سفر التكوين، 12/1.
(2) المصدر السابق 21/34.
(3) ألن بوابيه، «أصول الصهيونية».
(4) للمزيد انظر: أسعد عبد الرحمن. «المنظمة الصهيونية العالمية».
(5) للمزيد انظر: بسام محمد العبادي، «الهجرة اليهودية إلى فلسطين 1880 - 1990م».
(6) من تصريحات لصحيفة صاندي تايمز.
(7) نقلاً عن: عبد الوهاب المسيري، « الايديولوجيا الصهيونية»، ج 1 ص 119.
(8) سورة آل عمران، الآيتان 111 - 112.

اضف تعليق