q
لا ينبغي تصوير الكتابة في اتجاه الأفق الكوني، على أنها تحليق في الهواء، أو سباحة في الفضاء، أو ضرب في الخيال، أو أنها لا ثمرة لها، كما لا ينبغي تصويرها أيضا على أنها محاولة للهروب أو الانسحاب من الأفق القريب إلى الأفق البعيد، وإنما هي لتأكيد حاجتنا للتواصل...

كلما اتسعت معارف الإنسان كما وكيفا، ونضجت إدراكاته الفكرية، كلما اتسعت عنده دائرة الأفق، برغبته أو بدون رغبته، لأنه عندئذ يكون أميل فكريا وذهنيا إلى هذا الاتساع في الأفق، وتحصل عنده الرغبة إلى ذلك، ويظل هذا الاتساع في حالة حركة مع تجدد وتقدم معارف الإنسان، وبشكل تجعله ينتقل من أفق إلى أفق آخر، من الأفق الأصغر إلى الأفق الأكبر، ومن الأفق القريب إلى الأفق البعيد، وهكذا إلى أن يصل للأفق الكوني، الذي ما بعده أفق خارج عالم الكون.

وهذا ما يدركه الإنسان الذي مر بمثل هذه الأطوار، من جهة اتساع المعرفة وتجددها وتقدمها، وإذا كانت هناك فواصل زمنية وفكرية بين طور الإنسان المثقف، وطور الإنسان المفكر، وطور الإنسان الفيلسوف، فإن هذه الأطوار تقاس في أحد أبعادها بدرجة اتساع دائرة الأفق، فالمثقف دائرة الأفق عنده قد تتسع عادة ما بين مجتمعه وأمته، والمفكر قد تتسع دائرة الأفق عنده ما بين أمته والإنسانية كافة، ويصل هذا الأفق إلى مداه مع الفيلسوف الذي تتسع دائرة الأفق عنده ما بين الإنسانية وعالم الشهادة إلى ما وراء عالم الشهادة.

الأمر الذي يعني أن المعرفة هي التي تقود الإنسان وتحلق به من أفق إلى أفق آخر، وتكبر بفكره ونظرته وأفقه، إلى درجة تتسع باتساع الكون، وتجعله يتخذ من الكون ساحة للتأمل والنظرة، وساحة للحركة والعمل.

هذا في حالة اتساع المعرفة، أما في حالة تدني المعرفة ونقصها وضعفها، فإنها تهبط بالإنسان من أفق إلى أفق أدنى، وتصغر بفكره ونظرته وأفقه، وقد يصل به الحال إلى درك يكون فيه كالأنعام، وحتى أقل من ذلك.

وقد صور لنا القرآن الكريم في آيتين كريمتين مثل هذا الانحدار والانحطاط الذي يكون فيه الإنسان كالأنعام وأضل من ذلك، الآية الأولى في قوله تعالى (ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم أذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) – الأعراف:179-.

والآية الثانية في قوله تعالى (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا) – الفرقان: 44-.

وفي المجال الإسلامي تتأكد دائرة الأفق الكوني، وذلك من جهتي المعرفة والوظيفة، من جهة المعرفة فإن الإسلام يفتح على الإنسان والإنسان المسلم خاصة، دائرة الأفق الكوني كسبا وعطاء، كسبا حين جعل من الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، وأنى وجدها من جهة المكان تتسع باتساع الكون، وحين دعا القرآن الإنسان للنظر في السماوات والأرض في قوله تعالى (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض) – يونس:101-.

والنظر حسب قول الراغب الأصفهاني في مفردات ألفاظ القرآن، يعني: تقليب البصر والبصيرة لإدراك الشيء ورؤيته، وقد يراد به التأمل والفحص، وقد يراد به المعرفة الحاصلة بعد الفحص.

وهكذا حين دعا القرآن إلى السير والنظر في الأرض في آيات كثيرة، منها قوله تعالى (أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة)، هذه الآية وردت وتكررت في عشر سور قرآنية، وهي تعني أن يتخذ الإنسان الأرض ساحة للسير والنظر، في دلالة بليغة على ما نعنيه بالأفق الكوني.

وعطاء لأن الإسلام يدعو لنشر وإشاعة العلم والمعرفة بين الناس كافة، وعلى امتداد مساحة الأرض، ويطالب الإنسان المسلم أن يكون مصدر إشعاع للعلم أين ما كان، وفي أي زمان كان. ومن جهة الوظيفة فالإسلام الذي جاء خطابا للناس كافة، فإنه يدعو الإنسان المسلم لأن يتواصل مع الناس كافة.

وفي عصر العولمة التي جعلت العالم يظهر في صورة قرية صغيرة، أصبح الأفق الكوني ليس أفقا ممكنا فحسب، وإنما أفقا قابلا للتحقق بالفعل، وقابلا لأن يكون سلوكا يوميا وعاديا في حياة الناس.

لهذه الحقائق وغيرها، لا ينبغي تصوير الكتابة في اتجاه الأفق الكوني، على أنها تحليق في الهواء، أو سباحة في الفضاء، أو ضرب في الخيال، أو أنها لا ثمرة لها، كما لا ينبغي تصويرها أيضا على أنها محاولة للهروب أو الانسحاب من الأفق القريب إلى الأفق البعيد، وإنما هي لتأكيد حاجتنا للتواصل مع هذا الأفق الكوني لثمراته الجمة.

* الأستاذ زكي الميلاد، باحث في الفكر الإسلامي والإسلاميات المعاصرة-رئيس تحرير مجلة الكلمة
http://www.almilad.org

اضف تعليق