لا خيار لهذه المجالس إذا أرادت الإستمرار والنجاح، في امتحانها الثاني او الأخير، غير التركيز على تطوير الخدمات واعتبارها هدفها الأكبر ومعيارها في مهمة إختيار المحافظين، وإبعاد المصالح الفئوية والحزبية، وحفظ الأمن والإستقرار الذي يعد أهم منجز حكومي، وهو اختبار صعب في ظل التنافس السياسي...

في كل دورة انتخابية تتخذ المفوضية العليا المستقلة للانتخابات اجراءات مشددة واكثر تعقيداً من السابق، بهدف تطمين الناخبين وغلق منافذ التزوير ومنع التلاعب بالنتائج وسرقة الاصوات، حتى وصلت العملية الانتخابية الى ماهي عليه الآن بفعل تراكم الخبرات والتجارب، وبلغت، ولكني من جانب آخر اتساءل: هل تتخذ مفوضيات الانتخابات في دول مثل اليابان، على سبيل المثال، الاجراءات نفسها التي شاهدناها في بلادنا، و التي تبدأ من سجل الناخبين والاقتراع بالبطاقة البايومترية مع وثيقة تعريفية اخرى وتمر بمراحل التحقق الالكتروني وبصمات الاصابع والحبر البنفسجي والتفتيش الدقيق ومنع حمل اجهزة الهاتف في المراكز الانتخابية؟

ثم تتم الاستعانة بطائرات مروحية لنقل البيانات الى العاصمة في اجواء اغلاق شبه تام واستنفار للقوات المسلحة والاجهزة الامنية لحماية الصناديق، ولتأمين نقل الصناديق؟! ترى ماذا سيقول عنّا المراقبون الدوليون وهم يشاهدون كل هذه الاجراءات الاحترازية التي لم يشاهدوها في بلدانهم؟! بالطبع سيشيدون بكل هذه الخطوات الاحترازية وبنجاح العملية الانتخابية.

فقدان الثقة

لكن الانطباع الآخر الذي لا نحسب حسابه، هو دهشتهم من مستوى فقدان الثقة وحجم الفساد الذي يجبر الحكومة والمفوضية العليا على القيام بكل هذه الخطوات المكلفة مادياً وتقنياً ولوجستياً وأمنياً من اجل تحقيق هدف واحد هو الخروج بانتخابات نزيهة.

بينما لا تتخذ دول كثيرة نصف هذه الاجراءات، فاليابان التي يزيد عدد نفوسها على 126 مليون نسمة تجري ثلاثة أنواع من الانتخابات (لمجلس النواب ولمجلس المستشارين وانتخابات محلية) في 47 محافظة، لكنّ أحد المطلعين على تجارب الدول ومفوضياتها اشار الى أن الاجراءات المتبعة في اليابان اقل بكثير مما نشاهده في انتخابات العراق، والسبب الوحيد هو (الثقة) التي تسود هذه الامبراطورية الدستورية، الثقة بالمرشحين والناخبين والدولة والمجتمع على حد سواء، والتي تجعل الموظف الياباني يحمل صندوق الاقتراع بسيارة اجرة الى مركز العد والفرز، من دون أن يشكك به أحد من المرشحين والناخبين او يهدده أحد في طريقه المفروش بالأمان والورود.

ومن دون مخاوف من انحياز هذا الموظف وبيعه اوراق الاقتراع لهذا الطرف او ذاك، أضرب مثلا باليابان وليس بدول العالم الثالث لأنها بلاد الشمس ونحن بلاد الشمس ايضا منذ (الاله شمش) المحفورة صورته في مسلة حمورابي، ولأننا نتحدث اكثر من اليابانيين عن الدين والوطن والامانة والنزاهة والاخلاق الحميدة ومحاربة الفساد، والقضية لا علاقة لها بشبكة النقل والقطارات السريعة وإنما بالبيئة الصالحة التي تساعد على نجاح كل شيء وتجعل الياباني عبارة عن ضمير الكتروني يراقب نفسه بنفسه ويعكس للمراقبين الدوليين حرصه على سمعة دولته وشعبه اكثر من حرصه على اجراء العمليات الانتخابية، فتحية لمفوضيتنا العليا التي تعمل في ظل هذه الاجواء الصعبة من التجاذبات والتشكيك وفقدان الثقة، وتتحمل ما لا تتحمله اختها المفوضية اليابانية المستريحة.

الامتحان الاخير

من جانب اخر، إجراء انتخابات مجالس المحافظات والإعلان عن نتائجها يعني بدء العد التنازلي للمحافظين الحاليين و إقتراب موعد التغيير بانتخاب المحافظ الجديد ونائبيه بأغلبية مطلقة بعد شهر كحد أقصى من تاريخ انعقاد أول جلسة لمجلس المحافظة، لكنّ المختلف هذه المرة أن عيون الناس ستبقى مفتوحة على مجالس المحافظات أكثر من ذي قبل، وللمرة الأولى ستكون الحكومات المحلية تحت ضغط المراقبة الشعبية والسياسية، وتحت مجهر المقارنة مابين سنوات غيابها العشر وعودتها، والمقارنة بين حصر السلطة والصلاحيات بيد المحافظ كرئيس تنفيذي وبين جدوى المشاركة معه بالقرار والرقابة عليه وتقييده،وأي الخيارين هو الأكثر جدوى لأبناء المحافظات وأقرب لتحقيق الإستقرار وتوفير الخدمات، وأي المحافظين الأفضل، السابق المنفرد بالسلطة أم الجديد الذي سيختاره ويراقبه ويحاسبه مجلس المحافظة المنتخب؟

والحق يقال فإن بعض المحافظين يستحقون التجديد بحسابات الإنجاز والتطوير الذي أحدثوه في محافظاتهم على مستوى الإعمار والإستقرار والخدمات، وكيف إنتهزوا فرصة غياب مجالس المحافظات ليعملوا بشكل مكثّف مستفيدين من فرصة امتلاكهم للقرار وحافز العمل والإنجاز الذي سجّل بإسمائهم من دون شريك منافس، ومن المحافظين من لايستحقون البقاء في مناصبهم يوماً اضافياً لسوء الأداء وتراجع الخدمات ونسب إنجاز المشاريع في محافظاتهم، فصلاً عن ضعف نتائجهم الإنتخابية.

ولا خيار لهذه المجالس إذا أرادت الإستمرار والنجاح، في امتحانها الثاني او الأخير، غير التركيز على تطوير الخدمات واعتبارها هدفها الأكبر ومعيارها في مهمة إختيار المحافظين، وإبعاد المصالح الفئوية والحزبية، وحفظ الأمن والإستقرار الذي يعد أهم منجز حكومي، وهو اختبار صعب في ظل التنافس السياسي وقد يشكّل مقتلاً لهذه التجربة إذا فشلت هذه المرة وصولاً الى تعديل دستوري قد يلغي وجودها الى الأبد عند الفشل، او يثبّتها دستورياً إذا تجاوزت الإمتحان وعقدة التشكيل بهدوء دون تسخين للأجواء السياسية بالصراع على المناصب بدل التسابق على تقديم الخدمات.

........................................................................................................................
* الاراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق