إذا استمر الاتحاد الأوروبي على مساره الحالي، فسوف يضر بالجدارة الائتمانية التي تتمتع بها سندات الحكومات الأوروبية. عندما تجاهلت رئيسة وزراء المملكة المتحدة السابقة ليز تـرَس على نحو مماثل كل التحذيرات وسَـعَـت إلى زيادة ديون بريطانيا الوطنية المرتفعة بالفعل من خلال اقتراحها الكارثي بخفض الضرائب في العام المنصرم...
بقلم: هانز فيرنر سين

ميونيخ ــ من الواضح أن الاتحاد الأوروبي، الذي تضرر بشدة من جائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19)، أصبح في احتياج إلى المال. ولأن باولو جينتيلوني، مفوض الاقتصاد في الكتلة، لا يمكنه الحصول عليه بشكل مباشر من البلدان الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فهو يريد أن يقترضه. لا يبدو أن الغرض على جانب كبير من الأهمية. المهم في الأمر هو أن تحصل المفوضية على المال ــ قدر كبير منه ــ حتى لو كان ذلك يعني تكديس جبل من الديون.

في عام 2020، لعب جينتيلوني دورا رئيسيا في إنشاء صندوق جيل الاتحاد الأوروبي التالي (NextGenerationEU)، برنامج الطوارئ الذي عمل على تمكين الاتحاد الأوروبي من اقتراض أكثر من 800 مليار يورو (858 مليار دولار أميركي) للتعامل مع التأثيرات المترتبة على جائحة كوفيد-19. في شهر مايو/أيار الماضي، كان يريد جمع الأموال لمساعدة أوكرانيا، وفي أكتوبر/تشرين الثاني، اقترح إصدار دين مشترك لمساعدة المواطنين الأوروبيين في سداد فواتير الغاز. والآن، وسط موجة من إصدارات الديون المشتركة، تخطط المفوضية الأوروبية لمنافسة قانون خفض التضخم الذي أقره الرئيس الأميركي جو بايدن بقيمة 369 مليار دولار، والذي يشمل إعانات دعم مشاريع الطاقة النظيفة. ورغم أن الخطة الجديدة قد لا تنطوي على اقتراض جديد، فإنها تقترح إنشاء "صندوق سيادي أوروبي" جديد للاستثمار في التكنولوجيات الخضراء.

ليس من المؤكد أن الفوائد المترتبة على هذه البرامج ستبرر تكاليفها. على سبيل المثال، لا توجد علاقة ارتباط واضحة بين توزيع أموال برنامج جيل الاتحاد الأوروبي التالي وشدة فاشيات كوفيد-19 المحلية. ولكن هناك علاقة ارتباط عكسية بين مساعدات برنامج جيل الاتحاد الأوروبي التالي ونصيب الفرد في الناتج المحلي الإجمالي، حيث تلقت بعض البلدان الأكثر فقرا التي كانت الأقل تأثرا بالفيروس مبالغ هائلة من المال.

تكمن مشكلة فورة الاقتراض الحالية بقيادة المفوضية في أن قواعد الاتحاد الأوروبي ذاتها تمنعها من قبول الدين. تنص المادة 311 من المعاهدة بشأن عمل الاتحاد الأوروبي بوضوح على أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يمول نفسه "من موارده الخاصة بالكامل ". لهذا السبب، كان لزاما على البلدان الأعضاء أن توافق بالإجماع على إنشاء صندوق جيل الاتحاد الأوروبي التالي.

تتمثل مشكلة رئيسية أخرى في الافتقار إلى الوضوح بشأن من سيتحمل تكلفة هذا الدين. كثيرا ما يقول الساسة وأهل الاقتصاد إن أعباء ديون الاتحاد الأوروبي ستقع حتما على عاتق أجيال المستقبل من دافعي الضرائب، التي سيتعين عليها سدادها. ورغم أن هذا لا يخلو من بعض الحقيقة، فإن المدخرين اليوم سيدفعون الثمن الأعلى.

كمثل الحال في أغلب أجزاء العالَـم المتقدم، تعاني أوروبا من عودة الركود التضخمي. في بيئة تتسم بالركود التضخمي، تتسبب الأحداث غير المتوقعة (مثل الحرب الدائرة في أوكرانيا وجائحة كوفيد-19) في خلق صدمات عرض تُـــتَـرجَـم إلى ارتفاع الأسعار بسبب الطلب الفائض. وإصدار ديون جديدة يؤدي إلى زيادة الطلب، وبالتالي تغذية التضخم.

في حين يبدو أن نمو الأسعار بدأ يتباطأ، فلا يزال التضخم في منطقة اليورو عند مستوى 8.5% ــ أعلى بأربع مرات من هدف البنك المركزي الأوروبي 2% ــ وقد يرتفع مرة أخرى. وحتى أحدث معدلات التضخم الأساسي، التي تستبعد أسعار الغذاء والطاقة المتقلبة، بلغت 6.2%، وهذا أعلى كثيرا من المتوقع.

أثناء عقد الركود التضخمي في سبعينيات القرن العشرين، استغرق الأمر بعض الوقت قبل أن تترسخ دوامة الأجور والأسعار. ومع غياب أي نهاية في الأفق للحرب في أوكرانيا فضلا عن خروج جيل طفرة المواليد من قوة العمل على نحو مضطرد، من المرجح أن يظل التضخم المرتفع باقيا معنا.

الواقع أن استمرار التضخم المرتفع يجعل المتقاعدين الذين ادخروا بمثابرة من أجل سنوات الشيخوخة، إلى جانب المدخرين الذين وضعوا أموالهم في أصول مضمونة القيمة الاسمية مثل التأمين على الحياة، الضحايا الحقيقيين لمديونية أوروبا. وقد تكون التأثيرات التوزيعية عميقة، إن لم تكن كارثية.

في مذكراته بعنوان "عالَـم الأمس"، وصف الكاتب النمساوي ستيفان زفايج بوضوح كيف تسبب التضخم المفرط في عشرينيات القرن العشرين في إفقار البورجوازية الصغيرة ودفعها إلى التطرف. كتب زفايج: "لا شيء جعل الألمان مفعمين بالكراهية وجاهزين لهتلر مثل التضخم". أيد المؤرخ الأميركي جيرالد فيلدمان هذه الملاحظة في كتابه الرائد الصادر في عام 1997 عن التضخم الألماني بعنوان "الفوضى العظمى".

من المؤكد أن الارتفاع التضخمي اليوم ليس كمثل أزمات التضخم المفرط في أوائل القرن العشرين. لكن كل النوبات التضخمية تبدأ صغيرة. تتلخص الحيلة هنا في القضاء عليه في مهده قبل أن يخرج عن نطاق السيطرة. وكما كان الرومان ليقولوا: "قاوم البداية".

الواقع أن خطط المفوضية الأوروبية لجمع المليارات من خلال إصدار سندات الاتحاد الأوروبي الطويلة الأجل موضع شك قانونيا وغير مسؤولة اقتصاديا. فمن الواضح إن هذا الاقتراض، الذي يُـبـحَـث له عن مبررات جديدة على نحو متواصل، تضخمي. علاوة على ذلك، قد يتسبب هذا النهج الذي تتبناه المفوضية في تقويض الاستقرار الأوروبي وتعريض العملة الموحدة للخطر.

إذا استمر الاتحاد الأوروبي على مساره الحالي، فسوف يضر بالجدارة الائتمانية التي تتمتع بها سندات الحكومات الأوروبية. عندما تجاهلت رئيسة وزراء المملكة المتحدة السابقة ليز تـرَس على نحو مماثل كل التحذيرات وسَـعَـت إلى زيادة ديون بريطانيا الوطنية المرتفعة بالفعل من خلال اقتراحها الكارثي بخفض الضرائب في العام المنصرم، تسببت في إفزاع المستثمرين وانهيار الجنيه الإسترليني، وسرعان ما اقتيدت إلى باب الخروج.

واظب القائمون على البنوك المركزية في أوروبا والولايات المتحدة على رفع أسعار الفائدة بقوة خلال الأشهر الثمانية عشر الأخيرة. والاستمرار في متابعة خطط جينتيلوني من شأنه أن يقوض هذه الجهود. إن أي دين جديد اليوم سيكون تضخميا، ومن المحتمل بالتالي أن يكون مدمرا لاستقرار اليورو.

كل هذا لا يعني أن صناع السياسات لا ينبغي لهم أن يناصروا قضايا نبيلة. ولكن في بيئة يغلب عليها الركود التضخمي، فإن الطريقة المناسبة لدعم هذه القضايا تتمثل في الضرائب أو خفض نفقات أخرى ــ وليس الاستدانة. إذا كانت المفوضية الأوروبية في احتياج إلى المال، فينبغي لها أن تسأل برلمانات البلدان الأعضاء الوطنية. وإذا رفضت، فلا يجوز للاتحاد الأوروبي أن يقترض. أي تصرف خلاف ذلك من شأنه أن يعرض حلم الوحدة الأوروبية للخطر.

* هانز فيرنر سين، أستاذ فخري للاقتصاد في جامعة ميونيخ، هو الرئيس السابق لمعهد إيفو للبحوث الاقتصادية ويعمل في المجلس الاستشاري لوزارة الاقتصاد الألمانية. ومؤلف كتاب "فخ اليورو: حول انفجار الفقاعات والميزانيات والمعتقدات"
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق