q
في هذه البيئة العالمية الجديدة، قد يحتاج صناع السياسات وخبراء الاقتصاد، حتى أولئك الذين كانوا يدعمون سابقاً فكرة أسعار الفائدة المنخفضة إلى الأبد، إلى إعادة تقييم أفكارهم في ضوء حقائق السوق الحالية. ورغم أنه من الممكن توسيع البرامج الاجتماعية أو تعزيز القدرات العسكرية دون تكبد عجز كبير، فإن...
بقلم: كينيث روجوف

نيويورك ــ حتى في ظل التراجع الجزئي الأخير في أسعار الفائدة الحقيقية والاسمية الطويلة الأجل، فإنها تظل أعلى كثيراً من المستويات البالغة الانخفاض التي اعتاد عليها صُناع السياسات، ومن المرجح أن تظل عند هذه المستويات حتى مع تراجع التضخم. لقد حان الوقت الآن لإعادة النظر في وجهة نظر "الغداء المجاني" السائدة على نطاق واسع في ما يتعلق بالديون الحكومية.

يبدو أن الفكرة القائلة بأن أسعار الفائدة سوف تظل منخفضة إلى الأبد تدعم وجهة نظر مفادها أن أي مخاوف بشأن الديون كانت بمثابة تأييد لسياسة "التقشف". ويعتقد كثيرون أنه يتعين على الحكومات تحمل عجزاً ضخماً أثناء فترات الركود، وتسجيل تراجع في مستوى العجز في الأوقات العادية. ولم يبدو أحد قلقًا بشأن المخاطر المحتملة، وخاصة تلك المتعلقة بالتضخم وأسعار الفائدة.

فقد دافع اليسار عن فكرة إمكانية استخدام الدين الحكومي لتوسيع البرامج الاجتماعية، بما يتجاوز ما يمكن توليده من خلال خفض الإنفاق العسكري، في حين تعتقد الجماعات اليمينية على ما يبدو أن الضرائب موجودة فقط ليتم خفضها. لقد تضمن النهج الأكثر تضليلاً استخدام البنوك المركزية لشراء الديون الحكومية، والتي بدت غير مُكلفة عندما كانت أسعار الفائدة القصيرة الأجل عند مستوى الصفر. وتُعد هذه الفكرة محور النظرية النقدية الحديثة و"أموال الهليكوبتر".

وفي السنوات الأخيرة، طرح حتى أبرز خبراء الاقتصاد الكلي فكرة حمل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي على شطب الديون الحكومية بعد استيعابها من خلال التيسير الكمي، وهو حل بسيط ظاهرياً لأي مشكلة محتملة تتعلق بالديون السيادية. مع ذلك، افترض هذا النهج أنه حتى لو ارتفعت أسعار الفائدة الحقيقية العالمية، فإن أي زيادة ستكون تدريجية ومؤقتة. لقد تم ببساطة رفض احتمال أن يؤدي الارتفاع الحاد في أسعار الفائدة إلى زيادة كبيرة في مدفوعات الفائدة على الديون القائمة، بما في ذلك الديون التي تحتفظ بها البنوك المركزية كاحتياطيات مصرفية. ولكن ها نحن ذا: إن بنك الاحتياطي الفيدرالي، الذي لم يدفع في السابق أي فائدة على هذه الاحتياطيات، يدفع الآن أكثر من 5%. بعيدًا عن بعض الاستثناءات الملحوظة، فإن أولئك الذين دافعوا عن فكرة أن الديون عبارة عن وجبة غذاء مجانية لا يعترفون حتى باحتمال ظهور واقع جديد.

في مؤتمر عُقد مؤخراً، استمعتُ إلى خطاب أحد المعلقين الماليين البارزين الذي كان من أشد المدافعين عن فكرة "أسعار الفائدة المُنخفضة إلى الأبد"، وبدا غير مُدرك أنه تم رفضها رفضًا تامًا. عندما تعرضوا للضغط، أقروا بأنه إذا لم تعُد أسعار الفائدة بسرعة إلى مستوياتها البالغة الانخفاض في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، فإن عجز الميزانية سيُشكل أهمية بالغة في نهاية المطاف. لكنهم كانوا مترددين في الاعتراف بأن أعباء الديون الحالية قد تُشكل مشكلة، لأن هذا من شأنه أن يطعن في تأييدهم السابق للإنفاق في إطار السياسات المالية للادخار.

على نحو مماثل، في تقرير حديث عن المستويات القياسية للديون العالمية، والذي تم تقديمه إلى كبار محافظي البنوك المركزية في العالم في مؤتمر جاكسون هول هذا العام، تجنب سيركان أرسلانالب وباري آيتشنجرين بوضوح مناقشة الآثار المترتبة على أعباء الديون الحالية أو العلاقة بين ارتفاع الديون الحكومية وتباطؤ النمو في دول مثل اليابان وإيطاليا.

من المرجح أن يؤدي الركود المقبل، كلما حدث، إلى انخفاض كبير في أسعار الفائدة، مما قد يوفر فترة راحة مؤقتة لسوق العقارات التجارية الأمريكية المثقلة بالديون، حيث الشعار السائد اليوم هو "العمل على الاستمرار حتى عام 2025". إذا تمكن أصحاب العقارات من تحمل عام آخر من انخفاض الإيجارات وارتفاع تكاليف التمويل، حسب هذه الفرضية، فإن الانخفاض الحاد في أسعار الفائدة في عام 2025 يمكن أن يوقف أزمة الديون الذي يُهدد بإغراق شركاتهم.

لكن حتى لو انخفض التضخم، فمن المرجح أن تظل أسعار الفائدة أعلى على مدى العقد المقبل مما كانت عليه في العقد الذي أعقب الأزمة المالية في عام 2008. وهذا يعكس مجموعة متنوعة من العوامل، بما في ذلك ارتفاع مستويات الديون، وتراجع العولمة، وزيادة الإنفاق الدفاعي، والتحول الأخضر، والمطالبات الشعبوية بإعادة توزيع الدخل، والتضخم المستمر. وحتى التحولات الديموغرافية، التي كثيرا ما يُستشهد بها كمبرر لاستمرار أسعار الفائدة المنخفضة، قد تؤثر على البلدان المتقدمة بشكل مختلف مع زيادة الإنفاق لدعم الشيخوخة السكانية السريعة.

رغم أن العالم قادر بكل تأكيد على التكيف مع أسعار الفائدة المُرتفعة، فإن التحول لا يزال مستمراً. وقد يشكل هذا التحول تحدياً كبيراً بشكل خاص بالنسبة للاقتصادات الأوروبية، نظرًا لأن أسعار الفائدة البالغة الانخفاض كانت بمثابة الرابط الذي يحافظ على تماسك منطقة اليورو. بدت سياسات الإنقاذ التي اعتمدها البنك المركزي الأوروبي "بالقيام بكل ما يتطلبه الأمر" غير مُكلفة عندما كانت أسعار الفائدة قريبة من الصفر، ولكن من غير الواضح ما إذا كانت الكتلة قادرة على مواجهة الأزمات المستقبلية إذا ظلت أسعار الفائدة الحقيقية مرتفعة.

كما زعمتُ سابقًا، فإن اليابان سوف تناضل من أجل التحول بعيدًا عن سياسات أسعار الفائدة "انخفاض معدلات الفائدة إلى الأبد"، مع اعتياد حكومتها ونظامها المالي على التعامل مع الديون باعتبارها خالية من التكاليف. وفي الولايات المتحدة، قد تؤدي نقاط الضعف في قطاع العقارات التجارية، فضلاً عن زيادة الاقتراض، إلى موجة أخرى من التضخم. علاوة على ذلك، في حين تمكنت الاقتصادات الناشئة الكبرى من التعامل مع أسعار الفائدة المرتفعة حتى الآن، فإنها تواجه ضغوطًا مالية هائلة.

في هذه البيئة العالمية الجديدة، قد يحتاج صناع السياسات وخبراء الاقتصاد، حتى أولئك الذين كانوا يدعمون سابقاً فكرة "أسعار الفائدة المنخفضة إلى الأبد"، إلى إعادة تقييم أفكارهم في ضوء حقائق السوق الحالية. ورغم أنه من الممكن توسيع البرامج الاجتماعية أو تعزيز القدرات العسكرية دون تكبد عجز كبير، فإن القيام بذلك من دون زيادة الضرائب ليس بالأمر السهل. ومن المرجح أن نكتشف ذلك بالطريقة الصعبة أكثر من أي وقت مضى.

* كينيث روجوف، كبير الاقتصاديين في صندوق النقد الدولي سابقا، وأستاذ الاقتصاد والسياسة العامة في جامعة هارفارد حاليا، من مؤلفاته: هذا الوقت مختلف: ثمانية قرون من الحماقة المالية، وكتاب: لعنة النقدية
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق