q
بدأ الغاز الطبيعي المسال يسحب البساط -على ما يبدو- من مصادر الطاقة المتجددة، عبر جذب انتباه المستثمرين الذين فطنوا أخيرًا إلى أهمية هذا الوقود الأحفوري بوصفه ملاذًا آمنًا لرؤوس أموالهم، وسطع نجم تلك الصناعة الإستراتيجية في العام الماضي، ولا سيما في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، التي قادت إلى أزمة طاقة...
بقلم: محمد عبد السند

بدأ الغاز الطبيعي المسال يسحب البساط -على ما يبدو- من مصادر الطاقة المتجددة، عبر جذب انتباه المستثمرين الذين فطنوا أخيرًا إلى أهمية هذا الوقود الأحفوري بوصفه ملاذًا آمنًا لرؤوس أموالهم.

وسطع نجم تلك الصناعة الإستراتيجية في العام الماضي (2022)، ولا سيما في أعقاب الحرب الروسية الأوكرانية، التي قادت إلى أزمة طاقة تجاوزها الأوروبيون من خلال الاستعاضة بتلك السلعة عن إمدادات الطاقة الروسية.

ومن هذا المنطلق، يُخطط عمالقة الطاقة العالمية، بدءًا من شركة النفط الأنغلو هولندية شل، إلى شيفرون كورب الأميركية، لتسريع وتيرة الاستثمارات في صناعة الغاز الطبيعي المسال، حسبما أوردت شبكة "بلومبرغ" الأميركية.

تزايد مشتريات الغاز

تواصل الصين إبرام اتفاقيات لشراء الغاز الطبيعي المسال، في نهج سيستمر لما بعد أواسط القرن الحالي (2050)، وهو ما ينطبق أيضًا على البلدان الأوروبية، وفق معلومات جمعتها منصة الطاقة المتخصصة.

وتمضي الولايات المتحدة الأميركية قدمًا نحو تنفيذ مشروعات جديدة تجعلها أكبر بلد مصدر للغاز المسال في المستقبل القريب.

ويمثّل هذا الزخم نقطة تحول لصناعة الغاز؛ إذ يُنظر إلى الأخير الذي يُعد الشكل الأنظف من الوقود الأحفوري، على أنه جسر قصير موصل إلى موارد الطاقة الخضراء.

وكثيرًا ما سعى أنصار البيئة إلى التخلص من الغاز تدريجيًا وسط مخاوف من أن تكون آثاره البيئية أسوأ مما يُعتقد، والآن تبدو الفكرة القائلة إن "الطلب على الغاز سيلامس ذروته قريبًا" آخذة في التلاشى.

ويوضح الرسم البياني التالي -من إعداد منصة الطاقة المتخصصة- ترتيب مصدّري الغاز المسال إلى أوروبا في الربع الأول من عام 2023، اعتمادًا على بيانات منظمة أوابك:

الطلب مستمر لعقود

قال كبير الزملاء في مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية (منظمة بحثية مقرها واشنطن) بين كاهيل: "مشترو الغاز الطبيعي المسال يتطلعون نحو هذه السوق، ويشعرون بثقة كاملة بأن الطلب على الغاز سيستمر لعقود مقبلة".

وغيّر الغزو الروسي لأوكرانيا، وما تلاه من أزمة طاقة وصعود قياسي في الأسعار، الآفاق طويلة الآجل للغاز الطبيعي المسال.

فقد تدافعت الدول الأوروبية لاستبدال هذا الغاز بالوقود الروسي، بينما تبرم الاقتصادات الناشئة اتفاقيات طويلة الأجل لتجنب شُح الطاقة في المستقبل.

فعلى سبيل المثال أبرمت الصين اتفاقية مدتها 27 عامًا، مع قطر، يوم 20 يونيو/حزيران (2023)؛ لتعزيز أمن الطاقة في البلد الأكثر تعدادًا للسكان في العالم.

وفي 22 يونيو/حزيران (2023)، أبرمت شركة ألمانية اتفاقية ضخمة لشراء الغاز الطبيعي المسال من الولايات المتحدة الأميركية، تمتد حتى عام 2046، حتى رغم طموحات برلين في تحقيق أهداف الحياد الكربوني قبل هذا التاريخ.

وجرى الاتفاق على قرابة 60 مليار متر مكعب من سعة إنتاج الغاز الجديد، منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في 24 فبراير/شباط (2022)، ما يزيد على الضعف، مقارنة بالعقد الماضي، بحسب بيانات صادرة عن وكالة الطاقة الدولية، طالعتها منصة المتخصصة.

سلعة مُربحة

قال محلل الطاقة في مؤسسة كريدي سويس غروب سول كوفانيك، إن مضاعفة الغاز تُحدث فرقًا إيجابيًا بالنسبة للمساهمين، موضحًا أن هذا الوقود الأحفوري كان مربحًا خلال السنوات القليلة الماضية، بينما تضمّنت جهود تحول الطاقة تحديات عدة.

كان الغاز -وما زال- محركًا رئيسًا للإيرادات بالنسبة إلى شركات الطاقة، مثل شل وبي بي البريطانية، على مدار السنوات القليلة الماضية.

وانخرطت الشركات المنتجة لسنوات عدة في استثمارات الطاقة المتجددة التي لا تحقق سوى هوامش منخفضة، قبل أن يعيدوا التفكير في تلك الاستثمارات نتيجة عائداتها المالية المنخفضة -في الوقت الحالي على الأقل-.

وفي هذا الصدد قال المدير التنفيذي في شل وائل صوان، خلال كلمته للمستثمرين، في شهر يونيو/حزيران (2023): إن "الغاز الطبيعي المسال سيؤدي دورًا أكبر في منظومة الطاقة في المستقبل، مقارنة بما هو عليه الحال الآن".

وأضاف: "يمكن نقل الغاز المسال بسهولة إلى الأماكن التي تشتد فيها الحاجة إليه، والأكثر من هذا أن الانبعاثات الكربونية من الغاز الطبيعي تقل بنحو 50% في المتوسط، عن الانبعاثات الصادرة عن الفحم، عند استعمالهما لتوليد الكهرباء".

الرسم البياني أدناه -من إعداد منصة الطاقة المتخصصة- يُظهر إجمالي الصادرات العالمية للغاز المسال ربع السنوية (2022-2023):

استثمارات العمالقة

تُخطط شل لزيادة استثمارات الغاز الطبيعي بنحو 25% هذا العام (2023) إلى ما إجمالي قيمته 5 مليارات دولار أميركي، والإبقاء على حجم الإنفاق عند المستوى نفسه حتى أواسط العقد الحالي (2025).

وفي العام الماضي، انضمّت عملاقة الطاقة الأميركية إكسون موبيل، إلى مواطنتها كونوكو فيليبس في ضخ استثمارات قدرها 30 مليار دولار أميركي، بُغية التوسع في الغاز الطبيعي المسال في قطر، في أكبر استثمارات تشهدها تلك الصناعية الحيوية.

ويبرز الغاز سلعة إستراتيجية -أيضًا- بالنسبة إلى خطط النمو التي تستهدفها عملاقة الطاقة الإيطالية إيني، وهو ما كان الدافع الرئيس وراء الاتفاقية التي أبرمتها الشركة في 23 يونيو/حزيران (2023)، لشراء مجموعة نيبتون إنرجي غروب ليمتد.

وفي رومانيا وافقت أكبر شركتي غاز طبيعي، هذا الأسبوع، على استثمار 4 مليارات يورو (4.4 مليار دولار أميركي) في مشروع غاز بالبحر الأسود بعد مناقشات استمرت عقودًا.

وتعين شركتا شيفرون وإكسون المزيد من العمال لبناء أنشطتيهما في تجارة الغاز في لندن وسنغافورة.

وفي الولايات المتحدة الأميركية، تلقى مشروعات تطوير محطات الغاز المسال رواجًا كبيرًا في الوقت الراهن، مع توقيع المشترين في دول؛ من بينها ألمانيا واليابان- كلتاهما لديه أهداف الحياد الكربوني- عقودًا طويلة الأجل مع المصدرين.

وكشفت رائدة الطاقة الفرنسية توتال إنرجي النقاب، في يونيو/حزيران (2023)، عن خطط لبناء محطة لتصدير الغاز المسال في أميركا؛ إذ وافقت على شراء حصص من الأسهم في كل من المشروع، والشركة المطورة له.

كما تدخل توتال إنرجي في مباحثات مع المملكة العربية السعودية للاستثمار في مشروع غاز طبيعي ضخم في البلد العربي.

وما زال هناك جدل ساخن بشأن كمية الغاز، والاستثمارات المطلوبة؛ إذ يعتمد الطلب على تلك السلعة على الأرجح على مدى نجاح الدول في خفض الانبعاثات الكربونية.

خفض الطلب والحياد الكربوني

قالت وكالة الطاقة الدولية إنه يتعين خفض الطلب على الغاز خفضًا دراماتيكيًا بحلول نهاية العقد، كي يتمكن العالم من تحقيق أهداف الحياد الكربوني بحلول أواسط القرن الحالي (2050)، بما يتسق مع اتفاقية باريس للمناخ 2015.

وفي العام قبل الماضي (2021) قالت الوكالة إنه يتعين وقف كل مشروعات التطوير الجديدة في حقول النفط والغاز والفحم لإنجاز سيناريو تحول الطاقة.

ويحتاج المنتجون والمؤسسات المالية إلى الالتزام بإنهاء التمويلات والاستثمارات في أنشطة التنقيب عن حقول النفط والغاز الجديدة، والتوسع في احتياطيات النفط والغاز، حسبما قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، خلال تصريحات صحفية في نيويورك في يونيو/حزيران (2023).

وأضاف غوتيريش: "نحن مقبلون على كارثة، ويجب أن تكون أعيننا مفتوحة على مصراعيها".

الغاز في مرمى الانتقادات

يثير استعمال الغاز الطبيعي موجةً من الجدل بسبب انبعاثات غاز الميثان (منتج ثانوي للغاز) الذي يَحتجز كمية حرارة تزيد 80 مرة عن غاز ثاني أكسيد الكربون في أول 20 سنة من وجوده في الغلاف الجوي.

ومن ثم فإن تسرب الغاز بأكثر من نحو 3% يجعل الوقود أسوأ كثيرًا بالنسبة للمناخ، مقارنة بالفحم، وفق ما خلصت إليه دراسة نشرتها الأكاديمية الوطنية للعلوم؛ ما يفند المزاعم القائلة إن الغاز الطبيعي المسال نُسخة نظيفة من الوقود الأحفوري.

ولتسويق الغاز الطبيعي بوصفه بديلًا نظيفًا للفحم، يعمل عمالقة الطاقة في تناغم من أجل خفض انبعاثات غاز الميثان.

وفي هذا السياق تستهدف شركات شل وإكسون موبيل ومزيد من المنتجين الآخرين تحقيق انبعاثات غاز ميثان تقترب من "الصفر" بحلول نهاية العقد الجاري (2030)، في إطار مبادرة أطلقتها تلك الكيانات في عام 2022.

وقال الزميل في مركز سياسات الطاقة العالمي بجامعة كولومبيا إيرا جوزيف: "من خلال أخذ مسألة خفض انبعاثات غاز الميثان، على محمل الجد، يعتقد عمالة الطاقة أن بمقدورهم المساهمة بإيجابية في التغيرات المناخية، والإبقاء على رواج أصولها تجاريًا".

اضف تعليق