هناك قاعدتان مشهورتان في الفلسفة:

القاعدة الأولى تقول: (تعرف الأشياء بأمثالها).

والقاعدة الثانية تقول: (تعرف الأشياء بأضدادها).

وكلتا القاعدتين صحيحتان، فالإنسان لا يعرف خصوصيات النهار إلا إذا جاء الليل، ولو كان النهار مستمراً لم يعرف الإنسان حقيقة النهار، والعكس صحيح أيضاً، كما أن الإنسان لا يعرف حقيقة العطش إلا بعد معرفة حقيقة الارتواء، وبالعكس، إلى غير ذلك من الأمثلة.

ومن هنا قيل في قاعدة أخرى: (حكم الأمثال فيما يجوز وفيما لا يجوز واحد)، فالأمور المتماثلة كلها تجوز عليها أشياء معينة، كما لا تجوز عليها أشياء معينة، فالأبيض والأبيض كلاهما يفرّق نور البصر وكلاهما لا يقبض نور البصر، كما أن الأسود والأسود كلاهما يقبض نور البصر وكلاهما لا يفرق نور البصر، إلى غير ذلك من الأمثلة.

ومن هنا.. إذا أردنا أن نعرف عاقلاً، فقد نعرفه بالقياس إلى عاقل آخر، فكلاهما موزون الحركات، وكلاهما لا تبدو عليه ملامح الاضطراب والفوضى في كلامه وسلوكه، وأكله وغير ذلك.

وقد نعرف العاقل بالمجنون، كما أن المجنون يعرف بالعاقل، فإذا رأينا عاقلاً متّزن الحركات علمنا أن المجنون هو ليس كذلك، وإذا رأينا مجنوناً فوضوي الحركة، علمنا بأن العاقل ليس كذلك.

وإذا قبلنا بهذه المعادلة البسيطة، نسأل:

هل العالم في عصرنا هذا، عالم عقلاء أم عالم مجانين؟!

ولعلّ هذا السؤال يثير الاستغراب، إذ من البديهي أنه عالم العقلاء، والمجانين هم أفراد قلائل يعيشون في دور المجانين أو في المصحّات العقلية.

لكن هذا هو ظاهر من الأمر، ولعل التعمّق في الأمر ينبئ عن غير ذلك.

ثم لنتساءل: من هو المجنون ؟ حتى نعرف أن العالم بمجموعه مجنون أم عاقل، ومن هو العاقل؟ حتى نعرف هل أن العالم بمجموعه عاقل، أم لا؟!

إن المجنون: هو الذي يمارس الأعمال العشوائية، مما يضرّ نفسه ويضرّ الآخرين، أما العاقل، فهو الذي يمارس الأعمال بحكمة مما ينفع نفسه وينفع الآخرين.

فاذا كان الافراد والجماعات والانظمة السياسية في عالم اليوم، يدّعون أنهم عقلاء، لماذا إذن؛ قُتل الملايين من البشر خلال نصف قرن في حربين عالميتين، تركت العالم ممزقاً ومدمراً، مليئاً بالدماء والدموع والأشلاء والمعوقين وغيرها من الخسائر الفادحة(1)؟

وتُعد المنظمة الدولية مثالاً آخراً على مناقضة العقل، فالأمم المتحدة، باتت مكاناً لهدر حقوق الدول الضعيفة لصالح الدول القوية، فهي تجعل دولة يبلغ عدد سكانها ألف مليون إنسان – مثلاً- مع دولة ذات مائة ألف إنسان على قدم المساواة في التصويت داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة. هذا النوع من التعامل اللامتكافئ والبعيد عن الإنصاف والعدل، يثير التساؤل والاستفهام.. فهل من المعقول والصحيح أن نساوي بين مائة ألف إنسان وبين ألف مليون إنسان؟ أليس هذا يعد هدراً لتسعمائة ألف انسان في تلك الدولة ذات العدد السكاني الكبير؟ ألا تشبه هذه المعادلة، أن نعطي لإنسان واحد عشرة أقراص من الخبز، ثم نعطي رغيفاً واحداً لألف إنسان!

ولنا مثالٌ آخر على صعيد المال.. نلاحظ، ويلاحظ العالم معنا، تكدّس المليارات عند أفراد معدودين، بينما الملايين يتضورون جوعاً، ويموت الآلاف من الأطفال بسبب المجاعة وسوء التغذية، فهل هذا من العقل؟

فلو كان هنالك أب يعطي أحد أبنائه عشرة أقراص من الخبز، ويترك عشرة آخرين من أولاده جائعين حتى الموت، فهل يُعد هذا الأب عاقلاً؟ وإن كان عاقلاً، فمن يكون المجنون؟!

ثم نلاحظ أمراً غريباً آخراً في عالم العقلاء، حيث تُشيّد المستشفيات الفخمة، وتجهّز بأحدث المعدات الطبية، والمختبرات المتطورة، بل ويعكف العلماء والنوابغ لإنتاج الأدوية والعلاجات لأمراض عديدة، وأكثر من ذلك، يشيدون الجامعات وكليات الطب ومراكز البحث والدراسة لتخريج أطباء وعلماء أكفاء.. كل ذلك، من اجل مواجهة أمراض تصيب الانسان في عينه او جهازه الهضمي او اعصابه او دمه او غير ذلك، لكن لا نلبث أن نشهد أعمال تؤدي الى الموت والدمار الذي يعمّ الملايين من البشر.

إن هذا يشبه الى حدٍ بعيد، بأب يذهب بابنه الى إلى الطبيب لمعالجته من وعكة صحية، ويعتني به بشكل فائق حتى يبرأ، ثم بعد ذلك يأخذ السكين ويبتر يد ولده الآخر، أو يقلع أحد عيناه، أو يصم أذنه، أو يجدع أنفه، أو يبتر رجله..! فهل يصدر هكذا تصرف من انسان عاقل؟

في عالم العقلاء اليوم، تُحرق المحاصيل الزراعية، أمثال القمح والسكّر والأرز، وتلقى في البحر ملايين الأطنان من الحليب المجفف.(2)

فهل هذا العمل وغيره، يصدر من أناس تصدق عليهم صفة العقل ؟ ثم ألا تكون هكذا تصرفات وأعمال دليلاً على أن العالم الذي نعيش فيه قد فقد توازنه ؟

القرآن الكريم يصوّر عالم الجنون

لنقرأ القرآن الحكيم، فهو يؤكد على حقيقة أن الابتعاد عن قيم السماء، تؤدي بالانسان الى الانحراف نحو العبثية والسَفَه، وقد جاء ذلك في آيات متعدّدة، منها قوله سبحانه: (ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين) (سورة البقرة: 130).

بمعنى ان السفيه، هو ذلك الذي يرغب عن ملّة شخصٍ مصطفى في الدنيا وصالح في الآخرة.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى: (سيقول السفهاء من الناس ما ولاّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها قل لله المشرق والمغرب يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم) (البقرة: 142).

بل إن الذي ينتقد الصالحين والمصلحين، هو الآخر يُعد سفيهاً، فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ وماذا بعد العقل إلا السفاهة؟

وفيما يتعلق بالتصرف بالأموال، تقول الآية الكريمة: (ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياماً وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفاً) (النساء: 5).

فالذين يتصرفون في أموالهم بشكل غير حكيم، يُعدون سفهاء أيضاً، ويُحظر على الإنسان أن يعطي أمواله لهكذا أشخاص، فمجرد امتلاك الانسان للمال، لا يعطيه الحق التصرف بها كيفما شاء. وقد جاءت مفردة (أموالكم) في الآية الكريمة، لأن الله تعالى جعل المال كله، للبشر كلهم، فإذا أعطي المال للسفيه وتصرف فيه تصرفاً غير صحيح، كان في ذلك، حدوث نقصان في مجموع أموال البشر. لنفرض أن هنالك ألف إنسان وهنالك ألف دينار، فاذا حصل سوء تصرف من هذه الفئة من الناس بمقدار مائة دينار – مثلاً- بأن ألقوها في البحر، فمعنى هذا، حصول نقص في رأسمال ألف إنسان.

وفي آية أخرى يقول الله تعالى: (وانّه كان يقول سفيهنا على الله شططاً) (الجن: 4)، أي الذي يقول على الله الشطط فهو سفيه.

وفي رواية: مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، على جماعة، فقال: على ما اجتمعتم؟ قالوا: يا رسول الله.. هذا مجنون يصرع، فاجتمعنا عليه، فقال: ليس هذا بمجنون، ولكنه المبتلى، ثم قال: ألا أخبركم بالمجنون حق المجنون؟ قالوا: بلى يا رسول الله، قال: المتبختر في مشيه، الناظر في عطفيه... يتمنى على الله جنته وهو يعصيه (3).

وعندما ينحرف الانسان عن الطريق الصحيح، فان انحرافه هذا ينعكس عليه شخصياً، كما لو تناول المسكر، او ارتكب جريمة الزنا، فذلك يسبب له أمراضاً نفسية وجسمية واجتماعية، أما على الصعيد العام، فان مجنون الشهرة والعظمة والهيمنة، فانه يضر بنفسه وبملايين الناس، لذا ورد في الحديث الشريف: (إذا فسد العالِم فسد العالَم).

فالعالِم المنحرف، لا يضر آخرته فحسب، وإنما يضر دنياه قبل آخرته، كما يضر الآخرين(4).

من هنا نعرف؛ أن عالم اليوم، عالم المجانين، وليس بعالم العقلاء.. عالم المرضى وليس بعالم الأصحاء.. عالم المنحرفين، وليس بعالم المستقيمين.

وبذلك يتبين أن من غير الصحيح القول: (إن كل مجتمع واصل طريقه، واستمر في اجتياز المراحل، فهو مجتمع سليم)، إذ يجب ملاحظة الروح العامة السائدة في هذا المجتمع، وهل إنها مطابقة للمقياس الصحيح أم لا..؟ فإن كانت كذلك، كان المجتمع سليماً، أما إذا لم تكن مطابقة كان المجتمع منحرفاً ومريضاً ومجنوناً.

ولا يحتاج الأمر إلى أن ننتظر مدة من الزمن حتى يصطدم هذا المجتمع بصخرة الحقيقة، لنعرفه جيداً، إنما هنالك علامتان للمجتمع المريض:

العلامة الأولى: أن نرى المجتمع وقد ظهرت فيه النواقص.

والعلامة الثانية: اللحظة التي يتعرض فيها الى السقوط والانهيار.

وكلا الأمرين موجودان في مجتمع اليوم، فهو مثله، كالسيارة المعطوبة التي تحمل معها اسباب انحرافها عن الطريق وانقلابها واحتراقها.

والمجتمع الذي نعيش فيه، تخيّم عليه الأزمات المتفجرة، فهناك الحروب، وهناك الثورات، وهناك سباق التسلّح بشكل جنوني.. كما هناك اللف والدوران والمكر والخداع والغش والاحتكار.. فهنالك الرأسمالية المنحرفة، والتمايز الطبقي، إلى حد أن بطوناً تُتخم وبطونا تُحرم.. قسم يذهبون إلى القبور بسبب التخمة، وقسم يذهبون إلى القبور بسبب الفقر والجوع. وهذا هو واقع الاجتماع الآن.

أما على صعيد المستقبل، فان المجتمع آخذ في الانحدار نحو نقطة النهاية والدمار، حيث فناء الحضارة التي حققها الإنسان طيلة القرون طويلة.. وهذا دليل آخر على انحراف المجتمع، وعدم تعقله.. ثم أليس هذا الواقع يلحُّ على عقلاء العالم للتفكير في كيفية العلاج والخلاص لكل العالم، لا لأمة خاصة أو مدينة خاصة أو جماعة خاصة أو ما أشبه..؟

* مقتطف من كتاب الصياغة الجديدة للمرجع الراحل الامام السيد محمد الشيرازي

.............................
(1)- بعد الحرب العالمية الاولى والحرب العالمية الثانية، بدأت سلسلة من الحروب الاقليمية في العالم، وقفت خلفها القوى الكبرى، بما سُمي آنذاك، بـ(حروب بالنيابة)، فانتعشت مصانع انتاج الاسلحة الخفيفة والثقيلة، وايضاً اسلحة الدمار الشامل، وابرز الشواهد على الحروب بالنيابة واستخدمت فيها الاسلحة الكيماوية بشكل واسع ومريع، الحرب العراقية – الايرانية التي استمرت ثمان سنوات وحصدت حوالي مليون ونصف انسان، ما عدى الجرحى والمعوقين.
(2)- نقلت مواقع النت مؤخراً خبراً مفاده أن مزارعين في هولندا اعترضوا على تدني اسعار الحليب في اسواقهم، وعدم دعم الدولة لهم، فاقدموا على إفراغ الحليب من خزانات ضخمة وعديدة على الارض.
(3)- بحار الأنوار: ج66، ص233، دار المعارف ـ بيروت.
(4)- كما نلاحظ اليوم، علماء الاقتصاد، وما يسدوه من خدمات لأصحاب الرساميل الضخمة، ومن بيدهم مقدرات الشعوب، أو علماء الكيمياء والفيزياء الذين يسهمون بشكل مباشر في انتاج أسلحة الدمار الشامل والصواريخ البعيدة المدى، وقسّ على ذلك..

اضف تعليق