الصحفي في العراق يخرج يوميا لا يبحث عن الأشياء التي تهم حياة الناس، فهذه ليست وظيفته، ولا هو يتقصى عن الأخطاء الحكومية، في اطار مهمته الرقابية كسلطة رابعة، انما ترتكز وظيفته بالبحث عن القضايا التي لها علاقة بالتوجه السياسي لمالك المؤسسة الذي يكون حزبا سياسيا متنفذا في اغلب الأحيان...

الصحفي في العراق يخرج يوميا لا يبحث عن الأشياء التي تهم حياة الناس، فهذه ليست وظيفته، ولا هو يتقصى عن الأخطاء الحكومية، في اطار مهمته الرقابية كسلطة رابعة، انما ترتكز وظيفته بالبحث عن القضايا التي لها علاقة بالتوجه السياسي لمالك المؤسسة الذي يكون حزبا سياسيا متنفذا في اغلب الأحيان.

بالطبع لا توجد مؤسسة إعلامية في كل انحاء العالم لا تخضع لسياسة معينة، فالرسالة الاتصالية التي يريد صاحب المؤسسة التاثير على الجمهور من خلالها لا بد وان تحمل توجها معينا، لكن ان يتم حصر كل عمل المؤسسة في اطار الصراع الضيق لصاحب المؤسسة والحاشية القريبة منه، فانها تقلص قاعدة التاثير لتحصرها في الجمهور الحزبي فقط، بينما تقاس السلطة الرمزية للمؤسسات الإعلامية بحجم جمهورها والتاثير الذي تحدثه في أفكارهم وتوجهاتهم عبر نشر الحقائق.

الأحزاب السياسية في العراق تسيطر كل منها على جزء من مرافق الدولة بشكل مباشر او غير مباشر، والوزارات صارت اقطاعيات حسب الحزب وسلطته، فالقوي يملك الوزرات السيادية بينما الضعيف له وزارات تتناسب مع حجمه، والصراع على توسيع قاعدة السيطرة على اشده، وتاخذ بعض الصراعات على الاقطاعيات الصغيرة بعدا وطنيا، والمثال مشكلة مطار النجف الاشرف الدولي، والذي حسمت السيطرة فيه لحزب متنفذ استغل التظاهرات المطالبة بتحسين الخدمات للانقلاب على السلطة السابقة.

في هذه البيئة شديدة التصارع تبرز الحاجة الى التواصل مع الجمهور لتبرير الممارسات الحزبية وإقناع الجمهور بصوابية قراراته، وتاتي وسائل الاعلام التقليدية (صحافة، إذاعة، تلفزيون)، على رأس القائمة، فيتم تأسيس الكثير منها، ويتم توظيف الصحفيين ليقوموا بادوار تقارب الدور الحزبي رغم ان الكثير منهم مستقلون.

ولا تعطي وسائل الاعلام العراقية المملوكة للأحزاب أي قيمة للاحداث التي تقع في طول البلاد وعرضها، الا اذا ارتبطت بقيمة التبرير لسياسات الحزب حتى وان كانت فاشلة، او النبش في ملفات الأحزاب الأخرى في اطار التسقيط السياسي أيضا، والصحفي الذي يتمرد على هذا النوع من التقصي يتم استبعاده، فاي جزء من الموضوعية بضاعة غربية لا يجب تداولها.

تحجب الحقيقة ويبتعد الناس عن الواقع المعقد، والذي لا يستطيع احد ان يكشفه سوى وسائل اعلام قادرة على العمل ليلا ونهارا من اجل تقصي ما يجري داخل الازقة والشوارع والمناطق المنسية في العاصمة او اقصى مناطق العراق، لان شعور الحكومة بالمراقبة الدائمة يدفعها لتصحيح مسارات عملها، اما اذا وجدت الحكومات ان وسائل الاعلام تذوب في المنظومة الحزبية تماما، فهنا يمكن إرضاء الحزب الذي يملك المؤسسة للتخلص من أي عملية رقابة.

لكن عملية حجب الواقع لا يمكن ان تستمر طويلا، لان رائحة الفساد نتنة جدا، ومن لا يعالجها منذ بدايتها تصيبه هو أيضا، ليكون ابرز ضحاياها، فملف الكهرباء الذي تجاهلته وسائل الاعلام المملوكة للأحزاب طوال السنوات الماضية، باستثناء التقارير الإخبارية السطحية، جعلت المناخ يقوم بدورها، لفشل المؤسسة الحزبية والإعلامية معا، فالصيف صار الصحفي الاستقصائي الأول الذي يكشف حجم المعاناة الشعبية في عموم العراق.

واخر الازمات التي عجزت وسائل الاعلام العراقية عن تغطيتها وكشفها للجمهور منذ بدايات تفاقمها، هي تجذر المشكلات في محافظة البصرة، من ازمة انتشار الأسلحة الخفيفة والمتوسطة بين العشائر، وغياب سلطة القانون، لتختم في ازمة الملوحة وتسسم الاف المواطنين امام انظار الجميع.

كل تلك الازمات كان يمكن التقليل منها ومعالجتها منذ ولادتها، فالكشف عن نوع المرض اول خطوة نحو تحديد العلاج، اما اللجوء الى الجرعات المخدرة، والمسكنات، فهي وسيلة الضعفاء الذي يخشون مواجهة الواقع، ليستولي عليهم بالنهاية ويقتلهم، وما يحتاجه العراق في السنوات المقبلة هو تحديد ملامح الداء من اجل تشخيص الدواء المناسب، ومن بين اشد الحاجات لرصد الامراض الاجتماعية هو إعطاء الدور لوسائل الاعلام وإنتزاعها من سيطرة الأحزاب.

ولا يمكن إعادة الهيبة لوسائل الاعلام دون تظافر جهود الصحفيين والنقابات والاتحادات الصحفية، والأحزاب التي ترى في قوة الاعلام انحسارا لنفوذها لا تعرف الفوائد التي تجنيها في المستقبل، لان وجود صحافة قوية وقضاء قوي يساعد على وجود حكومات قوية تستطيع ممارسة مهامها وتطور افاق الاستثمار في البلاد بمختلف انواعه.

............................................................................................
* الآراء الواردة في المقال قد لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية.

اضف تعليق