يذهب المعنيون بالشؤون الدولية في دراستهم للسياسة الخارجية للدول -لاسيما الكبرى منها- إلى التمييز بين الأهداف الدائمة التي تسعى لتحقيقها، والتي تنبع من الفلسفة السياسية التي يقوم عليها النظام السياسي، والمصالح الحيوية التي تتركز حول المنافع والمكاسب التي تستفيد منها الدولة وشعبها، وتشمل النواحي الإقتصادية والسياسية والعسكرية والثقافية وغيرها. ولا شك فأن تحقيق الأولى يساعد في الحصول على الثانية التي تعزز بدورها قوة الدولة اللازمة لحماية أمنها واستقرارها.

وبقدر تعلق الأمر برؤية الصين لمصالحها، فقد إنطلقت السياسة الخارجية الصينية بعد إنتهاء حقبة الحرب الباردة في رؤيتها للتطورات العالمية إستناداً إلى تحليل موضوعي لحقائق الواقع السياسي الإقليمي والعالمي، ورؤية الصين لذاتها ودورها في إطار هذا الواقع، الأمر الذي كان له تأثيره الواضح في حركة السياسة الخارجية الصينية.

وكان من نتائج تلك المراجعة إدراك الصين، إن عالم ما بعد الحرب الباردة يختلف عن ظروف الحرب الباردة من حيث علاقات القوة والمصالح الإستراتيجية لاسيما بين القوى الكبرى في العالم، وأن عالم اليوم يقوم على المنافسة بين أطرافه ولاسيما في الجانب الإقتصادي، ولذلك حرصت الصين على بناء بيئة أمنية إقليمية مستقرة تساعدها على تحقيق النمو الإقتصادي، والإستمرار بعملية التحديث وفقاً لخطوط براغماتية عملية. فضلاً عن إعتماد إستراتيجية صينية جديدة تقوم على مبادئ واضحة لتعزيز موقع الصين العالمي كقطب سياسي وإقتصادي يساعد على إعادة التوازن في العلاقات الدولية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، ولكسر إستراتيجية الإحتواء السياسي والإقتصادي الموجهة ضدها.

ومما ساعد على ذلك أن العامل الإقتصادي أصبح له دوراً بارزاً في تحديد مراكز القوة في النظام الدولي، لاسيما بعد تراجع دور المتغير العسكري في العلاقات الدولية، وبالشكل الذي أصبح معه من الصعوبة بمكان الإشارة إلى إعادة توزيع مراكز القوى دون التطرق إلى الأوليات الإستراتجية المتضمنة إعادة توزيعها على أساس إقتصادي وليس عسكري، ومن هنا برز في الساحة الدولية العامل الإقتصادي كأساس مهم لبيان قوة الدولة في ظل المتغيرات الدولية الجديدة.

لقد إنطلقت الصين في سياستها الخارجية من قناعة مفادها: إن طبيعة المتغيرات الدولية بعد إنتهاء الحرب الباردة فرضت بروز إهتمامات جديدة على صعيد العلاقة بين القوى الكبرى في النظام الدولي، تمثلت في دعم القاعدة الإقتصادية والتكنولوجية، مما أدى إلى ظهور مفهوم الإعتماد المتبادل والترابط بين الدول، ليصبح هذا الترابط مقوماً من مقومات القوة التي لم تكن موجودة في حسابات القوة التقليدية. وإحدى الخصائص التي يتميز بها عالم اليوم هو كونه عالم تتشابك فيه المصالح وتتنوع فيه الحاجات، وتتداخل إلى درجة أوجدت نوعاً من الإستحالة في أن تعيش وحداته بمعزل عن الإعتماد على الآخرين.

فضلاً عن ذلك، فإن طبيعة العلاقات الدولية المعاصرة أصبحت لا تتوافق مع إنموذج النزاعات بين الدول، إنطلاقاً من أن التطورات المرتبطة بالثورة الصناعية، وتزايد التبادل العالمي قد ساهم في إنشاء شبكة متشعبة من الترابط المتبادل بين مختلف الدول، كما فرض مهام إجتماعية وإقتصادية جديدة على الدولة، التي إتضح أنها غير قادرة بمفردها على تلبية هذه المتطلبات الجديدة. وهو ما جعل علاقات المشاركة والتعاون في تحمل الأكلاف والمسؤوليات الدولية وتوزيع المنافع تتم عبر التعاون بصيغة توزيع المصالح وليس بصيغة علاقات عدوانية كما كانت خلال حقبة الحرب الباردة.

وعليه فإن مصلحة الصين وفق فلسفتها الجديدة القائمة على النهوض السلمي تحتم عليها إبراز نفسها على أنها ليست منافسة للقوى الأخرى ولاسيما الولايات المتحدة الأمريكية، وإنما مساهمة في الحفاظ على الإستقرار الإقليمي والعالمي.

ولا شك فإن الرؤية الصينية هذه إنما تُعد جزءاً لا يتجزأ من الدبلوماسية الأمنية الجديدة التي تتبعها الصين تجاه القضايا العالمية، والتي تنطلق من فرضية مفادها: أن النزعة العامة للشؤون الدولية تتجه صوب السلام والتطور، وتنامي العولمة الإقتصادية وتعددية الأقطاب وحلحلة عامة للتوترات.

وفي هذا الصدد فقد حث الرئيس الصيني (دنج زياوبنج) الحكومة الصينية آواخر عام 1993 على التعامل مع الإدارة الأمريكية وفق مبدأ التوافق لا التعارض بقوله: "زيدوا الثقة، وقللوا المشكلات، طوروا التعاون، وتجنبوا المواجهة".

كما إنطلقت السياسة الخارجية الصينية في علاقاتها الخارجية من أن الصين تمثل نمطاً مختلفاً ومستقلاً عن القوى الكبرى الأخرى في المحيط الدولي، من خلال التركيز على أنها دولة نامية تتفهم إحتياجات هذه الدول من الناحية التنموية والإقتصادية، فضلاً عن كونها مؤهلة للدفاع عن مصالحها في المحافل الدولية.

كما أكدت الصين على أن سياستها تجاه مختلف القضايا العالمية تختلف عن توجهات السياسة الأمريكية، والتي تعتمد أسلوب (العصا والجزرة)، بخلاف الصين التي تعتمد شعار (تحقيق الربح والمنفعة المتبادلة، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول).

بل ذهبت الصين إلى أبعد من ذلك، عندما اعتمدت مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى مهما كانت المبررات، إذ أكد القادة الصينيون في هذا الإطار أن مسألة حقوق الإنسان هي مسألة نسبية، ويجب أن يسمح لكل بلد بممارستها حسب تعريفهم الخاص بهم، وظروفهم الإجتماعية والثقافية السائدة. فضلاً عن معارضة الصين فرض أي دولة، وبأي شكل من الأشكال لنظامها السياسي وآيديولوجيتها على الدول الأخرى.

ولا شك فإن الصين استندت في سياستها الخارجية على المبادئ الخمسة للتعايش السلمي التي اعتمدتها كركيزة أساسية في سياستها الخارجية، وضرورة عدم التدخل في شؤون الدول الداخلية، فهي لا تهدف إلى إقامة تحالفات أو مواجهة عسكرية أو إستهداف لأي من الدول، بخلاف السياسة الأمريكية المتبعة في العالم.

وبهذا فقد انتقدت الصين السياسة الأمريكية الرامية إلى نشر الديمقراطية والحكم الرشيد في العالم وفقاً للإنموذج الأمريكي، ودعت بدلاً من ذلك إلى ضرورة الحفاظ على الحقوق الثقافية والإقتصادية الخاصة بالشعوب، والتي تسمح للدول أو الحكومات بالسير وفقاً للمنهج الخاص منها، والذي يخدم متطلبات التنمية في مجتمعاتها، وإلى احترام سيادتها، وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. كما دعت إلى خلق نظام عالمي جديد تشترك فيه جميع الدول سواء كانت غنية أو فقيرة، قوية أو ضعيفة، وعلى رفض إنفراد دولة واحدة بالهيمنة على العالم، في إشارة إلى نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية ومصالحها في العالم.

وفي هذا السياق فقد حددت الصين موقفها من التهديدات الإرهابية، ولاسيما بعد أحداث 11 أيلول 2001 بالعمل على مواجهة تلك التهديدات بصورة مشتركة عبر التعاون مع القوى الأخرى، وعدم إتخاذ ذلك مبرراً للتدخل في شؤون الدول بصورة إنتقائية، مع التأكيد على ضرورة منح الأمم المتحدة دوراً قيادياً في الجهود العالمية لمحاربة الإرهاب، (وأن كان الهدف الصيني منه هو كبح التحركات الأمريكية)، إذ أشار مندوب الصين الدائم في الأمم المتحدة بعد أحداث أيلول 2001 إلى: "إن الأمم المتحدة المنتدى المهم للدول لتتعاون مع بعضها البعض في محاربة الإرهاب، ويجب أن تلعب دوراً قيادياً في الجهود الدولية المبذولة في هذا الجانب، وضرورة عدم المزج بين الإرهاب ودولة بعينها أو دين بعينه، كما لا يجوز تبني معايير مزدوجة في الحرب على الإرهاب".

كما أعلنت الصين أنه في عهد العولمة، لم تعد سياسة دولة بمفردها قادرة على النجاح في التأقلم جيداً مع أمن الطاقة، فالتعاون الأوثق في مجال أمن الطاقة يُعد ضرورياً بشتى السبل لأي دولة في العالم.

ومما تقدم يتضح، أن السياسة الخارجية الصينية أصبحت قائمة على مبدأ الإبتعاد عن التورط في المشكلات والنزاعات العالمية، أو اللجوء إلى استخدام القوة العسكرية في معالجة تلك المشكلات، والإعتماد بدلاً من ذلك على (القوة الناعمة) من خلال توظيف الأدوات الدبلوماسية والثقافية كمبدأ رئيس في سياستها الخارجية. وفي تقديرنا فإن هذا الإحتمال إنما يبنى في جوهره على ثلاثة أسباب رئيسة: أولهما تنامي الإعتماد الإقتصادي المتبادل، وثانيهما، تزايد القوة التدميرية للحرب، وثالث الأسباب هو ظهور ما نسميه اليوم بالقوى العقلانية.

وإزاء تلك السياسة الصينية القائمة على أساس كسب المزيد من مقومات القوة، والتعاون مع القوى الأخرى ولاسيما الكبرى منها لتحقيق التوازن العالمي، فقد اختلفت المدارس السياسية والفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية في النظر إلى القوة المتنامية للصين، إذ يرى البعض بأن هذه القوة تمثل تهديداً للولايات المتحدة ومنافساً لها على المكانة الدولية، كما كان الإتحاد السوفياتي السابق، ومن ثم يجب مواجهتها وإحتوائها.

في حين يرى آخرون أن الصين لا تمثل هذا التهديد ويدعون بدلاً من ذلك إلى الإرتباط والحوار والتعاون معها، وعلى الرغم من هذا الإختلاف، إلا أن ثمة إجماع على أن الصين تمثل أكبر تحدي للولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرون.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2017Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق