إن مقومات القوة الشاملة التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية، قد مكنتها من أن تمارس دوراً تأثيرياً مباشراً في كافة التفاعلات والسياسات التي تجري على الصعيد الدولي، الأمر الذي أدى إلى تعزيز موقعها كدولة قائدة ومهيمنة في النظام الدولي بشكله الحالي.

فقد أدركت الولايات المتحدة الأمريكية لا سيما بعد إنهيار الإتحاد السوفيتي القطب الموازن في المعادلة الدولية خلال فترة الحرب الباردة، بأن الأوضاع مهيأة لأخذ السبق في صياغة نظام دولي جديد يتوائم مع منظورها الإيديولوجي لمصلحتها القومية.

فواقع النظام الدولي بشكله الحالي يعكس لنا مروره بمرحلة إنتقالية تتميز بعدم وجود قطب وحيد مسيطر سيطرة مطلقة، ولكن هناك قطب واحد يهيمن هيمنة نسبية مع الأقطاب الأخرى.

فقد شكل إنهيار الإتحاد السوفيتي فرصة نادرة أمام الولايات المتحدة لترسيخ زعامتها على العالم مستندة في ذلك إلى مقومات القوة التي تحتكم عليها ولا سيما القوة الإقتصادية والعسكرية والتكنولوجية. ففي الوقت الذي تمتاز فيه الولايات المتحدة الأمريكية بحيازتها على إقتصاد ضخم ومتنوع بجميع عناصره، وتحكمها من ناحية أخرى بركائز العالم الإقتصادية متمثلة بمؤسسات (بريتون وودز)، قد أتاح لها فرصة خلق إقتصاد عالمي مفتوح وموحد بقيادتها، نظراً لسيطرتها على سلطة القرار في المؤسسات المالية والنقدية.

ولا تختلف منظمة التجارة العالمية (الكات) عن ذلك، إذ تعد بصورة خاصة مكسباً للولايات المتحدة، وذلك من خلال أستخدامها كأداة للتأثير في السياسات الخارجية للدول الأخرى، ولا سيما الإقتصادية منها كتأمين فتح الأسواق مثلاً لأستيعاب الصادرات الأمريكية، خاصة وأن نمو التجارة يعد من أولويات السياسة الخارجية الأمريكية لمواجهة المشكلات التي يعاني منها الإقتصاد الأمريكي. ولتأثير واقع الترابط بين النشاط التجاري وأهميته بالنسبة للسياسة الخارجية الأمريكية يشير (جيفري مارتن) الوكيل الأسبق لوزارة التجارة الأمريكية إلى: "إن التجارة الخارجية للولايات المتحدة على قدر كبير من الأهمية، إلى درجة أصبحت تعد فيها جزءاً لا يتجزأ من النشاط السياسي الخارجي الأمريكي، وبصورة لم تكن معهودة من قبل".

أما على صعيد التأثير العسكري فالولايات المتحدة الأمريكية تؤكد أن القوة العسكرية تظل عنصراً لا غنى عنها لقوة الولايات المتحدة لمنع مختلف التهديدات، وعند الضرورة للقتال والإنتصار على الأعداء المحتملين، وعلى الرغم من وجود بدائل للقوة المسلحة كسلاح المعونات الإقتصادية وقضية حقوق الإنسان والإرهاب كوسيلة ضغط سياسية، إلا أن خيار القوة العسكرية بقي على الدوام مفضلاً على كل الخيارات الأخرى في العقيدة الإستراتيجية الأمريكية.

فضلاً عما تقدم، فإن تأثير القدرات الأمريكية الإقتصادية منها والعسكرية قد جاء مقترناً بنفوذ وتأثير سياسي عالمي كبير، ولا سيما من خلال الهيمنة الأمريكية الحالية على منظمة الأمم المتحدة.

فانتهاء الحرب الباردة بإنهيار الإتحاد السوفيتي أتاح للولايات المتحدة الأمريكية مجموعة فرص ساعدتها على توظيف قدراتها التأثيرية لصالح تأمين نظام دولي أحادي القطب يؤمن إنفرادها بالقيادة العالمية. وذلك من خلال توظيف الأمم المتحدة وبخاصة مجلس الأمن الذي أصبح يعمل بفاعلية أكبر من السابق في معالجة العديد من المشكلات العالمية، فضلا عن إختفاء ظاهرة الفيتو التي لازمت عمله طيلة الحرب الباردة لإضفاء الشرعية على أنماط سلوكها. الأمر الذي جعل مجلس الأمن وكأنه أداة في يد الولايات المتحدة. وهنا يشير ريتشارد نيكسون الرئيس الأمريكي الأسبق إلى: "إن وضع الولايات المتحدة الأمريكية جنودها تحت قيادة الأمم المتحدة هو أمر غير مقبول، وعلينا أن نطوع الأمم المتحدة لدعم سياساتنا لا أن تكون مسؤولة عنها".

وهكذا، وفي الوقت الذي عملت الولايات المتحدة على تقديم الدعم لمنظمة الأمم المتحدة، والترويج لدور فاعل لها على الساحة الدولية، على الرغم من كون الولايات المتحدة تعد أكبر دولة في العالم مدينة بالتزامات لم تسددها للأمم المتحدة، إلا أن الواقع يشير إلى أن هذا الدعم كان مشروطاً باستخدام المنظمة كوسيلة نافعة لدبلوماسيتها العالمية من ناحية، وبانسياق المنظمة وراء الإستراتيجية الأمريكية العالمية وأهدافها، واتخاذها إطاراً لإضفاء الشرعية الدولية على أنماط سلوكها المختلفة من ناحية أخرى.

من جهة أخرى، فإن القدرات التأثيرية الكبيرة للولايات المتحدة سواء كانت إقتصادية أو عسكرية أو تكنولوجية أو سياسية، إذا كانت تفعل فعلها المؤثر في النظام الدولي، فإنها لا ترتقي إلى أن تؤسس سيطرة مطلقة للولايات المتحدة على وحدات النظام الدولي.

فيكون هيكل النظام الدولي يأتي طبقاً لانعكاسات توزيع الموارد والقدرات على سلوك الوحدات الدولية، وقدرة إحداها أو بعضها على السيطرة على توجهات الفاعلين الآخرين، فيمكن القول بأن النظام الدولي بوضعه الراهن يمكن وصفه بأنه يتخذ هيكلاً بنيوياً مركباً: أحادي القطبية ومتعدد الأقطاب في آن واحد.

فعلى المستوى العسكري، يتخذ النظام الدولي الراهن هيكلاً أحادي القطبية، إذ تمتاز الولايات المتحدة بحيازتها على قدرة عسكرية تعد هي الأقوى والأضخم (ولو نسبياً) مقارنة بقدرات الدول الأخرى، الأمر الذي مكنها من ممارسة دور سياسي دولي مؤثر، ومن ثم فرض هيمنتها العسكرية على العالم.

أما على المستوى الإقتصادي، فالنظام الدولي الراهن يتخذ هيكلاً متعدد الأقطاب، إذ نجد أن القوى الإقتصادية قد توزعت على مراكز قوة متعددة منذ مدة سابقة على إنتهاء الحرب الباردة، ولا سيما بعد أن أصبحت الفجوة التي تفصل الولايات المتحدة إقتصادياً عن القوى الأخرى ليست باتساع الفجوة التي كانت موجودة في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وتأتي في مقدمة هذه الدول كل من اليابان والصين والإتحاد الأوروبي.

أما سياسياً، فقد أخذ العالم يعيش نمطاً جديداً من العلاقات السياسية الدولية إذ تتعدد القوى الدولية الحكومية والشعبية، والقومية وغير القومية، وكلها تفعل فعلها في النظام الدولي، حيث يعتقد أنه بسبب العوامل المؤثرة فيه، لم يعد نظاما بسيطا محكوما فقط بالعامل العسكري والعامل الدبلوماسي، وذلك نتيجة التطورات الإقتصادية والتكنولوجية والإعلامية المعاصرة.

لذلك، وللتعقيد والتداخل اللذان أخذت تتسم بها المشاكل الدولية لم يعد بإمكان دولة واحدة وهي الولايات المتحدة أن تجد الحلول لها وفق إرادتها ومصالحها، وإنما وفق إرادات ومصالح الدول الأخرى. وفي ضوء ذلك، فالهيكلية السياسية المركبة التي يتسم بها النظام الدولي بوضعه الراهن لا تعد هيكلية دائمة بقدر ماهي مرحلة إنتقالية سوف تستمر، ثم تبدأ بالتحول نحو الهيكلية المستقبلية للنظام الدولي والتي ترجح أن تكون قائمة على التعددية القطبية.

وقد يكون من السابق لأوانه تحديد الشكل النهائي لنمط التفاعلات بين الدول الفاعلة في النظام المتعدد الأقطاب، وذلك لأن حداثة النظام غير مواتية لإستقرار نمط التفاعلات الدولية بشكلها النهائي والمستقر، إلا أن هذا لا يمنع من رصد بعض هذه الأنماط.

ففي ظل نظام متعدد الأقطاب إقتصاديا تدين قواه الفاعلة لمذهبية إقتصادية وسياسية متماثلة، فإن إمكانية الصراع الأيديولوجي وبنفس القياسات التي كانت تحكم عمليات المواجهة والصراع في عهد القطبية الثنائية سوف تتراجع لحساب التنافس الإقتصادي العالمي.

وهكذا، وبسبب غياب العامل الأيديولوجي، وبسبب كون العديد من وحدات النظام الدولي الفاعلة تدين بنفس الأيديولوجية التي تحملها الولايات المتحدة الأمريكية، فإنه من غير المرجح أن تخوض الدول المتماثلة ديمقراطياً حروباً مع بعضها البعض، أو حتى تتورط فيما بينها في نزاعات خطيرة كما يحدث بين الدول الأخرى.

ولا شك فإن هذا الإحتمال إنما يبنى في جوهره على ثلاثة أسباب رئيسة: أولها، تنامي الاعتماد الإقتصادي المتبادل، وثانيهما، تزايد القوة التدميرية للحرب، وثالثهما، ظهور ما نسميه اليوم بالنظم الديمقراطية الليبرالية.

ومع عدم إنكارنا بوجود خلافات بين هذه القوى، إلا أن هذه الخلافات ذات طبيعة تنافسية يصعب وصفها بأنها خلافات أيديولوجية أو مذهبية (عقائدية) ذات طبيعة تصارعية، ومن ثم فإن السمة الغالبة التي تتميز بها قواعد إدارة العلاقات بين هذه القوى هي سمة التنافس وليس سمة الصراع. وفي هذا الصدد يشير كنيث والتز Kenneth Waltz إلى "إن الأنظمة التنافسية تحكمها -إذا صح القول- (عقلانية المتنافسين) الأكثر نجاحا".

ومما تقدم نخلص إلى القول، إن القوى الفاعلة في النظام الدولي الذي من المحتمل أن يتخذ بنية هيكلية قوامها تعدد الأقطاب قد وصلت إلى درجة من العقلانية، بحيث أنها تستطيع أن تكيف أزماتها باتجاه الحل والتلاقي وليس باتجاه التصعيد والمواجهة، فضلا عن أن تنافسها فيما بينها سوف يخضع في تقديرنا إلى انضباطية عالية، بحيث لا تقود تلك التنافسات إلى استخدام القوة العسكرية فيما بينها.

ومن خلال تلك الرؤية يمكن القول بأن الإمكانات والقدرات التي تمتلكها الولايات المتحدة الأمريكية وعلى كافة المستويات، مع الإقرار بأنها مؤثرة في الوقت الراهن، فإنها لا يمكن أن تؤمن لها سيطرة مطلقة على تفاعلات النظام الدولي نظراً للتكاليف المرتفعة التي تتطلبها عملية الإستحواذ والهيمنة على مجمل القضايا العالمية، ولعدم توفر المقبولية الدولية للدور الأمريكي المهيمن على الشؤون الدولية، مما يفرض على الولايات المتحدة القبول بمبدأ تحمل الأعباء مع القوى الأخرى الفاعلة في النظام الدولي، وفسح المجال أمام مشاركة الدول الأخرى في إيجاد الحلول للعديد من الأزمات والصراعات الراهنة.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2017Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق