المقدمة

تقدم البحث على ضوء الآية الكريمة، عن العلاقة بين الدولة وبين الشعب، وكيف ينبغي أن تكون هذه العلاقة، وما هو الحق وما هو الواجب، وما هو الإطار لعلاقة الدول بالشعوب، والضوابط والحدود والقيود، التي تحكم هذه العلاقة.

وذلك يبين ضرورة تعرف الشعوب على الصلاحيات الواسعة، والامتيازات الهائلة التي تمتلكها الحكومات، وعلى القدرات والوسائل والسبل المتنوعة التي تستخدمها الحكومات ـ وخاصة المستبدة منها ـ في قمع الشعب واغتصاب حقوقه، وبالتالي المطلوب هو ضبط العلاقة الحقوقية بين الحاكم والمحكوم.

الغاية

إنّ الغاية من البحث، هي بيان المفهوم العرفي للأمر الإلهي بـ (الحكم بالعدل بين الناس)، وفي (حدود الحكم على الناس)، وفي (مصاديق العدل) فيها. وإيضاح ما ينبغي للشعب معرفته، من الحقوق المسلوبة عنه المصادرة لصالح الحكومة المستبدة، ومنطق هذه الحكومة، مع التطرق للإجابة عن الأسئلة الفقهية، ذات الصلة بالموضوع.

المبحث الأول بصائر قرآنية
الفرق بين (الحكم على الناس) و(بين الناس)

هنالك مجموعة من البصائر القرآنية في هذه الآية الكريمة، نشير إلى بعضها في هذه العجالة:

البصيرة الأولى:

يقول الله سبحانه وتعالى: [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ]، لكنه لم يقل جلّ اسمه (وإذا حكمتم على الناس)، أي أنه تعالى جاء بكلمة (بين) دون كلمة (على)، فما هو الوجه في ذلك؟.

وهل ثمة فرق بين الكلمتين؟.

ثم ما هي حدود الحكومة بين الناس؟.

وفي الإجابة على ذلك نقول بإيجاز: إن الحكومة (بين الناس)، تختلف عن الحكومة (على الناس)؛ لأن الحكومة على الناس هي مرتبة أعلى، فهي تقتضي أن تكون هنالك فوقية، أو ولاية مجعولة لهذا الشخص، إما من قبل الله سبحانه وتعالى، أو من قبل الأمة، أو أية جهة أخرى ذات صلاحية، حقيقية أو مزعومة أي زعمت بأنها ذات صلاحية لتفويض الولاية، ولاية الناس إليه، إلى تلك الجهة، أو إلى ذلك الشخص.

فالحكم على الناس، وكون الحاكم حاكماً على الناس، يستبطن الولاية التي من شؤونها أن تسلب الناس بعض حرياتهم وحقوقهم، وإن كان ذلك فرضاً بالحق.

وتوضيح ذلك: إنه لا شك في أن (الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم) كقاعدة عامة، لكن من الذي يستطيع أن يسلبهم حرياتهم أو بعضها، أو حقوقهم أو بعضها؟.

تلك الجهة هي التي لها صلاحية حقيقية، وهي: الخالق الإله سبحانه وتعالى، أو من لها الصلاحية لذلك في نظر العقلاء لو أمضاها الشارع، أو عندهم حتى لو لم يمضها الشارع بزعمهم، فتلك الجهة تجعل لذلك الشخص، أو لهذه الهيئة، حاكمية على الناس.

عليه فإن الحكومة على الناس هي مرتبة فوقية عليا، أما الحكومة (بين الناس) مرتبة أدنى منها، إذ لا يوجد فيها مفهوم الفوقية، هذا بلحاظ كلمتي (على) و (بين) بما هما هما، وإن كان الحكم يتطلب مرتبة من الولاية حتى في مصداقه النازل.

والمثال على ذلك يتجلى في شخصين حدث بينهما نزاع، فتراضيا إلى قاضٍ يسمّى في الفقه بـ (قاضي التحكيم)، فعلى هذا الإنسان الذي يحكم (بين الناس) أن يحكم بالعدل.

فلو كان هنالك مشتكي ومشتكى عليه، ومدعي ومدعى عليه، فأحد الطرفين الذي هو المدعي أو المتهم، يرفع الدعوى إلى القاضي، مع رضا الطرف الآخر بهذا القاضي نفسه لكي يحكم بين الاثنين.

وإذن فالحكومة بين الناس، قد يكون منطلقها تراضي الطرفين أو الأطراف، وهذه ولاية نازلة. وقد يكون منطلقها نصب جهة عليها للحاكم، فلا تكون صلاحيته للحكومة مستمدة من المحكوم عليه أو له.

إذن الحكومة بين الناس، هي في مستوى ومرتبة أدنى، من مرتبة الحكومة على الناس.

ثم هي (أدنى) من جهتين: (الاعتبار) و(الصلاحيات)؛ فإن (اعتبار) قاضي التحكيم أقل وأدنى من اعتبار القاضي أو الحاكم المنصوب، وصلاحيات قاضي التحكيم أو الحاكم كذلك أقل، إذ قد يقال مثلاً بأن للطرفين نقض حكم قاضي التحكيم، وليس لهما نقض حكم القاضي المنصوب، على تأمل وتفصيل في ذلك وغيره يترك للبحوث التخصصية.

الأولوية في (الحكم على) من (الحكم بين)

والمقصد من ذلك، هو التدبر في وجه الحكمة من استخدام مفردة (بين) دون (على)، فلم يقل: (وإذا حكمتم على الناس أن تحكموا بالعدل)، بل قال: [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ].

ربما يقال ـ في الجواب على ذلك ـ: إن الأمر بالعدل عندما تعلق بالحاكم بين الناس، فإنه وبشكل أولى يتعلق بالحاكم على الناس، أي إذا كان المطلوب من (الحاكم بين الناس) أن يعدل، وهو الذي لا يمتلك تفويضاً قوياً، ولا مرتبة غليظة من الاعتبار، أو شديدة من الاعتبار، فإن المطلوب من (الحاكم على الناس) ـ وهو الأقرب لأن يطغى ويظلم وهو ذو الإصلاحيات الأكثر والاعتبار الأكبر ـ بشكل أولى أن يعدل.

وبعبارة أخرى: إذا كان هذا الشخص الحاكم بين الناس، قد أوصي إليه بوصية إلهية، واُمر أمراً صريحاً بالعدل، [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ]، فكيف لو كان حاكماً على الناس و(حكم على الناس)؟.

فإنه بشكل أولى يكون مأموراً بالعدل، وذلك نظير قوله تعالى: [فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ][1]، فإذا كان قول أفٍّ للأبوين منهياً عنه، فكيف بأن يفعل الإنسان ما هو أكثر من ذلك! بأن يرفع يده عليهما (لا سمح الله)، وحتى بمجرد شروعه بذلك، فهو أسوأ من أن يقول أفّ.

والحاصل: إن المرتبة الأدنى قد أمر الله فيها بالعدل، فكيف بالمرتبة الأعلى!.

البصيرة الثانية: نطاق ودائرة الحكم بين الناس

تتعلق بدائرة الحكومة ونطاقها؛ إذ قد يُسأل: ما هي دائرة الحكومة بين الناس؟.

هل الدائرة ضيقة في حدود المدّعي والمدعى عليه، والمتهَم والمتهِم؟.

فيما إذا كانا من عامة الناس، في اختلاف في مال أو إرث، أو أرض، في دعوى أحد الطرفين ملكيتها؟.

كلا؛ فإن نطاق [إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ]، هو نطاق واسع، فإن هذه الجملة تشمل عناوين ومصاديق عديدة.

أ-منها عنوان النزاعات الموجودة بين شخص من عامة الناس وشخص آخر.

ب-ومن المصاديق أيضاً، ما لو حكم القاضي بين رئيس الدولة أو الملك أو القائد أو أي مسئول كبير، وبين شخص من عوام الناس[2]، رفع شكوى على الرئيس أو الملك أو على رئيس الوزراء.

ذلك أن الملاحظ، أن القاضي عندما يراجعه شخصان، فإنه قد يقضي بينهما بالعدل، لو كان الطرفان من عامة الناس، أي لو لم تكن كفّة القوة لصالح أحد الطرفين، لكن كثيراً من القضاة، عندما يرى هذا الطرف ذا مكانة ومنزلة ومقام، فإنه يقضي لصالحه، وذلك جبناً أو خوفاً أو طمعاً في شيء حالي أو شيء يريده منه مستقبلاً.

والحال أن [إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ]، أمر عام شامل له عرض عريض، ويشمل كافة أمثال هذه الدعاوى، وهذه النزاعات، وهذه الاختلافات، وتلك الأنماط من القضايا والدعاوي.

ج-ويشمل ذلك أيضاً النزاع الذي يحدث (بين حزبين) أو (بين عشيرتين) أو (بين هيئتين)، وليس فقط بين شخص وشخص، إذ كثيراً ما يقع نزاع أو خلاف بين عشيرتين، أو حزبين، حتى في توزيع المناصب أو المقاعد الوزارية، وكثيراً ما تحدث صراعات بين الأحزاب أو القوى المتحالفة أو المؤتلفة أو غير المتحالفة في الحكومة.

وذلك مع قطع النظر عن أن مثل هذا النزاع، أخلاقياً يعد رذيلة أولاً، ومع قطع النظر عن أن هذا النزاع يسقطهم جماهيرياً ثانياً؛ إذ أن الناس الذين انتخبوا هؤلاء الحكام أو الوزراء أو المسئولين، أو أعضاء مجلس الأمة أو أية جهة أخرى، انتخبوهم ليخدموا الوطن والشعب، وليس لكي يتنازعوا على الحصص، وكأنها إرث توارثوه!

ومع قطع النظر عن أنه كثيراً ما يكون في مثل هكذا نزاعات ـ إن لم يكن في كل الأحيان ـ سحق حقوق الناس، فهو محرم من هذه الجهة أيضاً ثالثاً.

والحاصل أن اللازم على هذه الأطراف المتنازعة أن يرجعوا إلى (القضاء)، وعلى القاضي أن يحكم بالعدل بشفافية، و بفترة زمنية سريعة مما تتناسب مع القضية، وعلى الأطراف أن يخضعوا دون أن يحاولوا استخدام نفوذهم لعرقلة سير القضاء العادل.

وهو ما نشاهده في كثير من البلاد التي تتمتع بديمقراطية نسبية، حيث إن القضية المنازع فيها تستغرق أشهراً أو سنين، وفي البلاد المستبدة الأمر مختلف تماماً، فلا نجد هذا المضمون فيها أصلاً، فهو سالبة بانتفاء الموضوع.

إذ متى وجدنا حاكماً أو قائداً أو ملكاً أو حزباً حاكماً، يترافع أمام القضاء في مقابل شخص من عامة الناس أو من المعارضة؟.

والحاصل أن القاضي، مهمته هي الفصل في كافة أنواع الخصومات، ليس فقط الخصومات الجزئية المحدودة، بل حتى الخصومات ذات الأنماط العامة من النزاع، فإنها أيضاً يجب إرجاعها إلى القاضي ليبت في الأمر، وينتهي الأمر بحزم القاضي، إذا كان القاضي ممن يريد أن يعمل بالحق.

ولا بأس بأن نشير إلى حساسية موقعية القضاء والقضاة والخطر الديني المكتنف بهم؛ لأن (القاضي) على شفا حفرة من النار، وإذا حكم بالباطل، انهار به في نار جهنم، فكيف بالحاكم والرئيس.

وإذا كان القاضي في القضايا الشخصية، على كفّ عفريت، وعلى شفير جهنم، فكيف برئيس الجمهورية أو الملك، أو مثلاً رئيس الوزراء، الذين تكون بذمتهم وبعهدتهم مصائر الكثير من الناس، والذين يتحدد مصير البلاد بقراراتهم، سواء في البلاد المستبدة أو حتى المسماة بالديمقراطية، إن كانت حقيقية.

ومن الضروري التأكيد على (حسم) الخلافات والنزاعات التي تحدث أحياناً بين بعض الهيئات أو بعض المؤسسات أو بعض المراكز، وما أشبه ذلك، بسرعة وشفافية دون إبطاء أو مماطلة أو تأخير أو تسويف؛ وذلك لإغلاق الباب أمام المتصيدين بالماء العكر، الذين يعيشون كمصاصي الدماء على النزاعات.

وأيضاً لإغلاق أبواب الغيبة والتهمة والنميمة، وذلك هو ما يشاهد في مختلف أنواع النزاع بين هيئتين، أو بين حزبين أو عشيرتين، أو بين رئيس الشركة ومرؤوسيه، أو بين الثري والفقير، أو بين القوي وذي الوجاهة مع الضعيف والإقطاعي حسب تعبيرهم السابق سواء أ كان قد تملّك الأراضي والمزارع، بحق أو بباطل، وبين المزارعين العاملين في أرضه وأملاكه، فالواجب إذن: [إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ].

المستشارون والمحامون بين الحق والباطل

هذا بالنسبة إلى (الحكام) و(القضاة) بأنفسهم، والأمر كذلك في من ترتبط به القضية بوجه من الوجوه، مثل (المستشار) و(المحامي)، إذ يشملهم ملاك الآية الشريفة[3]، بل يشملهم قوله تعالى: [إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا]، فإن (المشورة) (أمانة)، وكذا (الوكالة والمحاماة) مسئولية وأمانة.

إن وضع (المحامين) خطير جداً؛ ذلك أن المحامين ترفع لهم عادة الكثير من القضايا التي بعضها حق وبعضها باطل، لكن لا يحق للمحامي مقابل الإغراء المادي ـ مهما كان كبيراً ـ أن يدافع عن الملفّ الذي يتوكل فيه إن كان باطلاً.

وإنني أعرف بعض المحامين من الأخيار، الذين يلتزمون بذلك حقيقة بالحكم بالعدل، والله قد بارك في رزقه، رغم أنه عرض عليه التوكيل في ملف باطل مقابل أموال طائلة أحياناً، لكنه غض الطرف عنها.

الجدير ذكره أن هذا المحامي الملتزم، يحرص منذ البداية أن يراجع الملف، فإذا رأى الحق مع الشخص الراغب بتوكيله ـ والذي عرض عليه القضية ـ يقبل أن يتوكّل بالقضية ليترافع بالنيابة عنه، ويكون وكيله والمحامي عنه.

وإذا رأى هذا المحامي النزيه، أن القضية ليست كذلك يعتذر نهائياً، بالرغم من أنه قد تمارس عليه ضغوط كثيرة، لكنه لا يخضع، وقد بارك الله تعالى في حياته وبارك في ذريته.

فليست الأموال فقط هي الملاك والمقياس والمناط، إذ ربما تجد شخصاً يحصل على أموال أكثر، كالمحامي الانفتاحي ـ كما يسمونه ـ لجهة أنه ينفتح على الباطل، لكن الله يسلب منه البركة في حياته.

وقد تكون حياته العائلية جحيماً، ولا يتذوق أبداً طعم السعادة، وقد ينقلب عليه أولاده، أو لا سمح الله يشطون عن الدرب، وينحرفون عن الجادة، ليتحولوا إلى قتلة أو مرابين أو سُراق أو أعوان ظلمة أو ضلال، وقد يبتلون بأمراض خطيرة، أو ما أشبه ذلك، وبذلك نجده يفقد دنياه وآخرته.

والأمر كذلك تماماً في (المستشارين)، حيث يجب عليهم تجنب إعطاء المشورة لأية جهة تطلب منهم ذلك إذا لم تكن على الحق، وإذا وقعت المشورة في طريق إبطال الحق وإحقاق الباطل.

المبحث الثاني: حقوق الدولة
(الحكومة) الخادم الذي تحول سيداً ومالكاً

تتمةً للمباحث السابقة، نعرج إلى حقيقة خطرة جداً، في إطار بحثنا حول هذه الآية القرآنية الكريمة، وهي:

إن الناس غالباً لا يعرفون مدى التأثير الكبير والهائل، الذي تمتلكه الدولة في التحكم في مصائر العباد والبلاد. فإن الناس يعلمون أن الدولة لها تأثير ولها هيبة ـ إذا كانت للدولة بالفعل هيبة ـ ولها مكانة ولها سطوة وما أشبه ذلك. لكنهم لا يعلمون عمق تغلغل الدولة في كافة شؤونهم، ومناحي حياتهم.

ولكي نعرف حقيقة أن الدولة متغلغلة في شؤون البلاد والعباد، وأنها أصبحت (السيد) على الشعب بدل أن تكون (الخادم)، نضرب لكم المثل الآتي.

فلو أن أحدهم استخدم خادماً لمنزله، فإن عليه أن يلتزم بحدود (الخدمة)، والتي تنحصر في أن عليه أن يتسوق مثلاً لتأمين الحاجات البيتية، وكذلك لو أستخدم سائقاً لتأمين تنقلاته، لكن أَوَ ليس من الغريب لو وجدنا هذا الخادم أو السائق، أصبح يتحكم في مصير البيت وأهله، وكأنه هو (السيد) وهم (الخدم)!

وكذلك الحال في (الضيف)، فإن حدود الضيف معلومة، كأن يبيت في الغرفة المعينة مثلاً، ويتحرك في حدود معينة، وليس له أن يتصرف في البيت كما يرغب، وأن يتحكم في كل شيء، ويتجاهل رب البيت، بل يفرض عليه حجراً كي لا يعلم شيئاً عن تصرفاته في أملاكه وحساباته.

إن ذلك الخادم أو الضيف، قد تحول من مجرد خادم أو ضيف إلى غاصب للدار والبيت.

الحكام المستبدون هم من هذا القبيل، بل أسوأ بكثير إذ أضافوا إلى ذلك غصب الثروات، ومصادرة الحق والتحكم في كل مصير البلاد، كما استحدثوا السجون والتعذيب الوحشي، وقتل الأبرياء والأحرار بإعدامات علنية أو باغتيالات سرّية!

وعلى سبيل المثال ذلك الذي أسمى نفسه معمّر، لكن الناس عرفوا الذي في عمقه بعد زمن، وأنه (المدمّر) لا (المعمّر).. لقد كان مشغولاً بتدمير البلاد طوال 42 عاماً، الآن ظهر شيء من ذلك فقط على السطح، وكذلك سائر الطغاة في شرق البلاد الإسلامية وغربها.

فمن الضروري أن يدرك الإنسان وأن يعرف ويعي، ما هي (الدولة)؟.

وما هي صلاحياتها؟.

وما هي قدراتها؟.

وما هي وسائل تأثيرها؟.

وما هي أدوات سيطرتها على الناس؟.

وما هي حقوقها؟.

وما هي حقوق الناس عليها؟.

فإن الإنسان إذا عرف ذلك، سوف لن يفرط في حقوقه التي تنتهك ليلاً نهاراً، وهو لا يعلم أصلاً، وهذا يشمل النسبة الغالبة من الناس التي ربما تصل إلى 99ر99(عليهم السلام) من مجموعهم.

إن أول مفتاح الحل هو (المعرفة)، معرفة كيف تفكر السلطات؟.

وكيف تتعامل؟.

وما الذي تمتلكه من قدرات؟.

إن الدولة تمتلك تأثيراً كبيراً، وتدّعي لنفسها صلاحيات وحقوقاً كثيرة، وهي تقوم بتفعيل وتنفيذ وممارسة تلك الحقوق، والصلاحيات ليل نهار، وعلى حسب تصوراتها عن تلك الحقوق، نجدها تقود سفينة البلاد والعباد.

مقاربة في الحقوق اللا محدودة للحكومات

إن الحقوق التي تدعيها الدول[4] أو الحاكم والملك والقائد لأنفسها، هي:

1-(حق التصرف) بقول مطلق.

2-(حق التملك) بقول مطلق.

3-(حق التقنين) بقول مطلق.

4-(حق الإلزام) بقول مطلق.

5-(حق الجزاء والعقوبة) بقول مطلق، أو ما يقارب القول المطلق.

فليس من الغريب أن نجد للحكومات وملكها رؤسائها، سلطات هائلة جداً في كل هذه الحقول؛ من خلال حق التصرف، وحق التملك، وحق التقنين، وحق الإلزام، الذي يتفرع عن حق التقنين، وحق الجزاء والعقوبة.

أ- حق منع التصرف

(حق المنع من التصرف) في الثروات الطبيعية، وفي الأراضي، وفي الأموال، وفي مختلف مناحي حياة الناس. فإن الحكام يعتبرون أن لأنفسهم حقاً في منع الآخرين من الحيازة والتصرف والاستثمار: في الجبال، في الغابات، في الوديان، وفي البحار، وفي ألف شيء وشيء.

حتى إنك لا تستطيع أن تصطاد سمكة دون موافقة الدولة، أو أن تصطاد من الغابات، أو تحوز سائر المباحات في الأرض أو الجو أو المياه، أو أن تحوز الأراضي البوار المهملة.

فالدول تسلب من الناس حقها في ذلك، أما هي فلها كل الحق في أن تفعل ما تشاء، كما تشاء، وقتما تشاء!

ب- حق التملك

وفوق ذلك ترى الدولة أن لنفسها (حق التملك)، فالثروات العامة كلها ملك لها، والنفط والغاز والمعادن والكنوز كلها ملك لها.

لكننا نسأل: من الذي جعل الثروات الطبيعية والمعادن بأكملها ملكاً للدولة؟!.

وبأي حق ترى الدولة أن لنفسها المالكية لأموال الناس وهم عباد الله، وهذه أرض الله، وهذه المعادن خلقها الله سبحانه وتعالى في أرضه لعباده، فمن الذي جعلها ملكاً للحاكم أو الملك أو القائد أو الرئيس؟!.

نعم، إن الدولة ترى أن لنفسها حق التملك على خلاف ما أنزل الله، وعلى خلاف العقل والحكمة؛ وذلك لأن الذي خلق هذه الأرض، جعلها للناس.

قال تعالى: [وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ * فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ][5].

وقال تعالى: [خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا][6].

فالأرض لـ (الأنام) و(لكم)، وليس للحكام والرؤساء والملوك والقادة والمستبدين والديكتاتوريين.

وعلى ذلك فإن المعادن وسائر الثروات العامة، وكذلك الصناعات الكبرى، ومعامل الحديد والصلب، وسكك الحديد والمطارات، وغيرها من الموارد الطبيعية أو غيرها، تدّعي الدولة ملكيتها لها.

لكن بأية مناسبة، ومن الذي ملّكها كل ذلك! الله تعالى! أم الشعب! أم منطق القوة والاستبداد؟!.

إن المشكلة في أن أكثر الناس يجهل أن الثروات الطبيعية بأنواعها، وإن الصناعات الكبرى التي أممتها الدولة بألف عذر وعذر، هي كلها ملك لهم ـ أي للناس ـ لكن الدولة تعتبرها ملكاً طِلقاً لها.

وعليه فهذه مساحة عجيبة من الحقوق والصلاحيات، تراها الدولة لنفسها دون علم الناس، حتى أن الكثير من الناس يتصور أنها بالفعل حق الدولة، وما ذلك إلا لسياسة التجهيل التي مورست في حقهم.

ج- حق التصرف في أملاك الناس

والدولة ترى أن لنفسها (حق التصرف في أملاك الناس)، حيث لا يحق للناس ـ في منطق الحكومات حتى الديمقراطية منها ـ حق التصرف كما يحلو لهم حتى في ممتلكاتهم ومنازلهم ودورهم، وبساتينهم وشركاتهم ومعاملهم.

ففي مرحلة البناء، مثلاً: لا يحق للناس البناء بهذه الطريقة أو تلك، ولا يمكنهم أن يبنوا إلا العدد المحدد من الغرف أو الطوابق، وإلا بالشكل الهندسي الذي تحدده البلدية و هكذا، فهذا هو حق التصرف في أملاك الناس، الذي تمارسه الدولة صباح ـ مساء.

د- حق تقرير مصير الشعب

والدولة ترى أن لنفسها (حق تقرير مصير الشعب) كله حتى دون الرجوع إليه، ومن ذلك أنها ترى أن لها حق التحالف مع أية جهة دولية ترغب الدولة أن تتحالف معها، على الرغم من أن الشرع والعقل يحكمان: بأنه ليس للملك أو الحاكم حق التصرف في مصائر الناس، وفي ثرواتهم دون رضاهم، ودون التقيد بحدود الشرع، وحدود الوكالة أو الإذن أو التفويض أو العقد.

هـ - حق التقنين

والدولة ترى أن لنفسها (حق التقنين)، باستثناء البلاد التي يوجد فيها البرلمان الحقيقي، أو مجلس الأمة الواقعي، المستقل عن تأثير الحكومة وضغوطها[7]، لكن الحكومات الاستبدادية عادة ترى أن لنفسها حق التقنين، حتى أن البرلمان ـ إذا وجد فيها برلمان ـ يكون شكلياً وخاضعاً لضغط الحكومة أو الحاكم، فهذا البرلمان مسيّر إلى حد كبير، إن لم يكن بشكل مطلق.

و- حق الإلزام

كما ترى الدولة أن لنفسها (حق الإلزام) بعد التقنين، متجاوزة كافة المؤسسات والأطر القانونية، كجهاز القضاء وحتى الوزارات والوزراء، وعلى الناس أن يطيعوا أمرها في كل الحقول، وإلا فالويل لهم والسجن والتعذيب.

إن هاتين الدائرتين وسيعتان جداً: دائرة حق التقنين وحق الإلزام.

ففي (السفر) توجد قيود وقوانين وحدود وموانع وعقوبات، لابد من جواز ولابد من جنسية أو هوية، وهما مما لم ينزل بهما الله سلطاناً، ولابد من السفر بعد دفع ضريبة، وبهذه الكيفية أو الوسيلة، أو من هذا الطريق، وبعد الانتهاء من الخدمة الإلزامية، أو أخذ رخصة خاصة... إلى ألف قانون وقيد ومانع.

وللإقامة أيضاً قوانين وحدود وموانع وعقوبات.

و(قوانين التجارة) كذلك حلت محل (التراضِ)، الذي هو الشرط الأساسي الذي قد أقره الله سبحانه وتعالى، لكن الدولة تتدخل في التجارة، في الاستيراد وفي التصدير، وفي كل شيء.

إن الدولة في حقيقتها إخطبوط مخيف ومرعب ـ حتى في الدولة الديمقراطية ـ بعكس دولة الإسلام. ففي دولة الإسلام تمنح هذه الحريات بأجمعها، إلا المحرّمات التي دائرتها ضيقة جداً، وقد أشار السيد الوالد (رحمة الله تعالى عليه) في العديد من كتبه[8]، إلى أن دائرة الواجبات والمحرمات في الشريعة الإسلامية، لو قيست بالنسبة للممنوعات في القوانين الوضعية ـ حتى في الدول الديمقراطية ـ لكانت أقل من خمسة بالمائة.

وبالتحديد فإن المحرمات في الشريعة الإسلامية هي حوالي ثلاثمائة إلى أربعمائة محرم فقط، لكنها في القوانين الوضعية بالألوف، إن لم تكن بعشرات الألوف، ولقد قال تعالى: [يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ][9]، وقد كان من أهداف بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله) هو ذلك.

أما هذه الحكومات، فإننا نراها كل يوم تزيد قانوناً على قانون، والغريب أنهم يمتلكون إبداعاً شيطانياً، في كبت الحريات وخلق القوانين الكابتة، ووضع الأغلال والأصفاد والقيود، والسلاسل في أعناق الناس وأياديهم وأرجلهم.

وحتى في (الزواج) أيضاً تضع الدولة ألف قيد وقيد، وألف قانون وقانون، مع أن الله تعالى جعل الزواج بسيطاً إلى أبعد الحدود. فقد سمح الله تعالى للرجل والمرأة أن يتزوجا، بالزواج الشرعي الذي يشترط فيه الإيجاب والقبول.

بمعنى أن تقول المرأة للرجل: زوّجتُكَ نفسي.

فيقول الرجل: قبلتُ.

مع مهر محدد سلفاً وانتهى الأمر.

أما أن يلزم الرجل والمرأة بأوراق معينة، وبمحضر أو سجل رسمي، وبسنٍ معين، وبقانون تلو قانون آخر، فذلك قيد الدولة.

وكذلك الحال في (البيع والشراء)، فإذا أردتَ أن تبيع عمارة فهناك ما لا يحصى من القيود، لكن بأية مناسبة؟!.

إن هذا بائع وذاك مشتري اتفقا بتراض على المعاملة، وهكذا ينتهي الأمر ببساطة.

ز- حق العقوبة

كما ترى الدولة أن لنفسها (حق العقوبة) تشريعاً وتنفيذاً، فإن السلطات تقنن العقوبات كما تشاء، وتنفذ كما تشاء، من السجن أو الجلد أو الغرامة أو الإقصاء أو الحظر أو المنع أو ما أشبه ذلك، وتقرّب المنافق والمتملق، أما الكفء والنزيه، الذي يريد الحق، فإنه يقصى ويبعد، وقد يفصل من الوظيفة؛ لأنه لا يصفق وليس إمعة على حسب التعبير المشهور.

وعليه فإن الناس إن عرفوا حدود تأثير الدولة، وسلطان الدولة، وتأثيرات الدولة، والصلاحيات والحقوق التي انتزعتها من الشعب، والتي تدعيها لنفسها، فسيختلف الوضع كثيراً.

إذ سوف لن يسلموا بعدها العنان لهذه الدولة، كلا بل كل شيء سيكون بحساب وكتاب، وبرقابة شديدة ومع محاسبة شديدة.

من الأطُر: الأرض لله ولمن عمّرها

والحاصل: إن الذي ينبغي تحديده بدقة بالغة، هو حدود الصلاحيات التي تمتلكها السلطات الحاكمة أو الحكام، وكمثال للإطار الشرعي الذي لا يجوز للحكام تجاوزه، نرى الرواية التالية: (الأرض لله ولمن عَمَرَها)[10]، وهو حديث مسلّم عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) عند الشيعة والسنة.

لكن الحكومات تقول: إن الأرض كلها لها، فإذا أردت أن تبني أرضاً، يجب عليك الحصول على إجازة للبناء، والتي لا تصدر إلا بعد فترة طويلة من الجهد والتعب، وذلك ما سنشير له لاحقاً إن شاء الله في بحث (الاقتصاد في الدولة).

تأثير انخفاض وارتفاع العملة

مثال هام آخر، يوضح لنا كيف إن الدولة تؤثر بعمق وشمولية في حياة الناس، وهو يتعلق بـمسألة (النقد) و(العملة)، التي حولها تتمحور حياة الناس في هذا العصر إلى حد بعيد، والتي لها مساس مباشر بحياة الإنسان: يشتري خبزه بالعملة، ويشتري الذهب بالعملة، ويشتري ملابسه بالعملة، ويشتري بيته بالعملة، أو يبيعها كلها لقاء عملة معينة، والعامل والموظف والمعلم يحصلون على رواتبهم بالعملة.

فالعملة متداخلة بشكل عجيب في حياة الإنسان، والغريب أن غالب الناس لا يعلم بحجم وأبعاد تأثير رفع سعر العملة أو خفض قيمتها، في حياة مختلف طبقات الشعب.

فلماذا نرى الصين مثلاً تصرّ على أن تكون عملتها منخفضة، ودولة أخرى تحاول في فترات محددة أن تكون عملتها مرتفعة؟.

ذلك لأنه يؤثر على الاقتصاد الوطني سلباً أو إيجاباً؛ لأن العملة إذا كانت منخفضة، فهذا يصب لصالح التصدير، ما يعني القدرة على التصدير الأكثر.

فحركة التصدير ستنتعش في البلد، كون المصدرين سيبيعون للشعوب الأخرى بسعر منخفض، والعالم سيشتري بضاعتهم أكثر فأكثر، نظراً لرخص قيمتها. لكن حركة الاستيراد ستتضرر، وهذا يعني أن ملايين قد انتفعوا، وملايين قد تضرروا.

من يقدّر من عامة الناس هذه المعادلة؟.

كم مليوناً قد تضرروا؟.

وكم مليوناً قد انتفعوا؟.

ومن هم المنتفعون؟.

هل ينتفع الرأسماليون الكبار الأثرياء أم عامة الناس؟.

وفي الاتجاه المقابل إذا كانت العملة مرتفعة، فإن هذا سيكون لصالح الاستيراد؛ لأن العملة المرتفعة تمكِّن المستورد من أن يشتري البضائع من الخارج بسعر منخفض بالقياس لعملة البلد، لكن نفس هذا الارتفاع في سعر العملة سيضرّ بالتصدير، إذ سيتقلص شراء الدول الأخرى من البلد؛ نظراً لارتفاع ثمن البضاعة.

والحاصل أن الذي يتحكم في هذا التأثير المتعاكس للقوة الشرائية للنقد في كل العالم هو الحكومات؛ فإنها القوة الكبرى التي تتحكم في العملة، والتي مقياسها الأول والأخير هو مصالحها، لا مصالح عامة الناس.

والمشكلة أن المستبدين في الدول الإسلامية وغيرها، لا ينبع تخطيطهم في ذلك من أنفسهم، بل يخطط لهم الاستعمار عبر صندوق النقد الدولي وغيره، فبوصاية وإشارة منه ستخفض الدولة العملة أو ترفعها، أو على حسب تخطيطهم يتخذ القرار، بأن تكون الخلفية لعملته عملة معينة دولية، أو سلة عملات.

ما هو منطق الحاكم المستبد؟

إن على الناس أن يعرفوا حقيقتين:

الحقيقة الأولى:

طريقة تفكير الحكام المستبدين، وما هو منطقهم؟.

إن منطقهم عادة هو المنطق الاستعلائي، والمنطق الازدرائي. فإن المستبد يزدري الناس ويستحقرهم، وهو يطلب الكبرياء لنفسه، ولصحبه وجمعه والمتملقين له.

إن هذا المنطق هو منطق أناني بحت، ومثله كمثل بعض الأطفال المشاكسين الأنانيين في البيت، إذ لا يكتفي هذا الطفل بحصته، بل يأخذ حصة أخته أو أخيه الأصغر منه، أو حتى الأكبر منه، بالقسر والجبر والقوة والإكراه.

وعلى الرغم من أنه طفل، إلا أن عمله قبيح وهو بذلك يثير غضب الأبوين، ويحق لهما أن يغضبا، وأن يعنفاه، وإذا لم يفعل الأبوان ذلك فهما شركاء في الظلم، والمنطق الاستعلائي.

إن المأساة حقاً هي أن الحكومات عادة تعتبر كطفل كبير[11]، مستكبر ومتكبر ومستعلي، وعلى الناس أن يعرفوا منطق هذه الدولة، وهو كمنطق "جوبلز" ـ وزير الدعاية الألماني النازي في عهد هتلر، وكان من أهم زعماء النازية ـ كانت طريقة تفكيره هي أن الناس ليسوا أُناساً. وكان يصرح بالقول: (إن الناس هم حجر بأيدي النحات)، ويقصد بالمثّال والنحات زعيمه هتلر.

إن كل الطغاة يحملون هذه العقلية، وهذا المنطق وهم لا يسمحون لأحد في أن يقول: (لا للنحّات، ولا للمستبد)!

إن هذا هو منطق الدكتاتور، وهو منطق المستبد، ومنطق الحكومات الظالمة، منطق (ترويض) الناس، حتى يتعلم كل واحد من أفراد الشعب أن لا يطالب بحقه.

إن الحكومات مثل حكومة هتلر وأتباع هتلر، والحجّاج وأشباه الحجاج، وصدام وأشباه صدام، منطقها هو (أصمت). فيحاولون أن يزرقوا في الناس (فنّ الصمت)، بل (إستراتيجية السكوت) عن المطالبة بالحقوق، حتى لو عرف بأنه مظلوم، وحتى لو سحقت حقوقه يوماً بعد يوم، فإن عليه أن يتجرع الظلم، وأن يصمت، على عكس الرواية التي تقول: إن (الساكت عن الحق شيطان أخرس).

هذا هو منطق الحكام، ففي تونس مثلاً منع ذلك المستبد المطرود حتى الآذان طوال سنين طويلة، ومنع حتى الحجاب، وعندما سمع بإقبال الشباب على المساجد، تفتق فكره الشيطاني عن خطة خبيثة هي: قرار حكومي ببناء مخامر ومقامر ومباغي إلى جوار كل مسجد كي يستهوي الشباب.

وكان منطق الحاكم المستبد في مصر، ومنطق الحكومة البحرينية حتى الآن، هو ذلك الاستبداد لسحق حقوق الأكثرية، وسياسة (أصمت وإلا فالعصا الغليظة).

أما الجماهير فما الذي تقوله؟.

وما الذي تريده؟.

إنهم لا يطالبون بشيء غريب، أو غير مشروع، إنما يطالبون بحقوقهم، ويطلبون تداولاً سلمياً للسلطة، وهو منطق عقلائي، يذعن له كل عقلاء العالم، وهو منطق شرعي؛ لأن الناس مسلطون على أموالهم وأنفسهم، وهذه قاعدة شرعية مسلّم بها، وهي من (المستقلات العقلية) التي أقرها الشرع.

إنهم يريدون أن تكون هنالك استشارية حقيقية، يريدونها من أول مسئول إلى أدنى مسئول، من أعلى حاكم إلى أدنى حاكم، من أرفع المناصب إلى أدناها، ويريدون أن يتغير الحاكم أو الرئيس مثل سائر دول العالم كل أربع سنوات، أو كل ست سنوات، أو أقل أو أكثر، هذا منطق الناس يبحثون عن حقوقهم الضائعة ليس أكثر، والعالم كله شاهد.

والغريب أن الحاكم المستبد، المستعلي على الناس، والمتكبر على الحق والحقيقة، يغفل أو يتغافل عن المصير الأسود الذي ينتظره؛ لأن (يوم المظلوم على الظالم أشد من يوم الظالم على المظلوم)[12]، ليس في الآخرة وحسب بل حتى في الدنيا.

إذ لا يحصد إلا الذل والخزي والعار ولعنة الملائكة والناس أجمعين، ويكفيكم على ذلك شاهداً: المصير الذي آل إليه صدام التكريتي، ومعمر القذافي، وحسني مبارك، وبن علي... والبقية على قائمة الانتظار!.

إذا عرفنا ما هو منطق الحق، وعرفنا ما هو منطق الحكام، سنطالب عندئذ مطالبة أكيدة حثيثة بحقوقنا، وبطريقة سلمية، باحتجاجات وتظاهرات سلمية، بإضرابات سلمية، واعتصامات سلمية، بعصيان مدني سلمي.

إن هذه الحقيقة لو وعتها الشعوب، فلن يطغى عليهم أحد، ولن تصادر حقوقهم.. وإلا أزاحوه فوراً وأحالوه للمحاكمة دون إبطاء.

ومثال آخر بإيجاز وتفصيله لاحقاً، إن من الحقوق المسلمة لأي إنسان، هو حقه برفض القمع والظلم الواقع عليه، فكما أنه لا يحق للزوج أن يضرب زوجته، ولا يحق له أن يضرب الأطفال.

كذلك الحاكم ليس له الحق في أن يقمع التظاهرات الاحتجاجية، مع أننا نجد أنه إن خرج شخص في تظاهرة سلمية، تطالب بالحقوق المشروعة فإن عقوبته في الحد الأدنى، هي أن تسلط عليه خراطيم المياه الساخنة، أو الغازات المسيلة للدموع، أو أن يضرب بالهراوات، مع أن كل ذلك حرام عقلاً وشرعاً.

وهناك أيضاً غرامة على ذلك شرعاً، فإذا صفع أحدهم شخصاً على خده، فاحمرّ أو اخضرّ أو اسودّ، فعليه غرامة كبيرة، فإذا احمرّ الوجه، غرامته دينار ونصف ذهبي، وإذا اخضرّ يغرم ثلاثة دنانير، وإذا اسود فغرامته ستة دنانير، وهي تعادل الآن حوالي الألف ومائتي دولاراً تقريباً، هذا كله بالنسبة لضربة خفيفة، فما بالك بالضربات الشديدة أو التعذيب!.

وبالنسبة للبدن أيضاً، هنالك غرامات عديدة، و سنتطرق إلى تفصيل ذلك إن شاء الله تعالى.

والحاصل: إن حقوق الناس هي حقوق شرعية، يجب أن يعرفها الناس، ويجب أن يطالبوا بهذه الحقوق بمختلف الطرق، والكلام في هذا الحقل طويل، وستكون له تتمات في البحوث القادمة بإذن الله تعالى.

السيادة بين الشعب والأمة

وأما مسألة السيادة، وهل هي للأمة أم للشعب، فقد جرى في البحث السابق ذكر وجهة نظر بعض القانونيين في هذا الحقل، وأشرنا إلى بعض النقد ومكامن الخلل في وجهة النظر تلك، وسوف نفصل ذلك أكثر في بحث قادم إن شاء الله تعالى.

المبحث الثالث
إجابات على أسئلة فقهية ذات علاقة بالموضوع

 

السؤال: حول مفهوم الدولة ومقوماتها

إن مفهوم الدولة ـ ما زال اليوم في أكثر الدول تقدماً ـ يعيش جدلاً حقيقياً، وخاصة في ما يتعلق بحجم الدولة، وهذا الجدل بالتأكيد نابع من إخفاقات عملية وأزمات بنيوية، وبالرغم من أن الإسلام قد أوضح مفهوماً للدولة، يعبر عن حاجات الإنسان بأروع صورها على أرض الواقع والتأريخ، لكننا نشهد غياباً أو تغييباً للكتابات حول (الدولة الإسلامية)، فما هو السبب في ذلك؟.

الجواب:

إن هذا السؤال من الأهمية بمكان؛ لأنه يثير التساؤل عن انحسار الكتابات عن الدولة الإسلامية، وعن حقوق الرعية، وعن حقوق الراعي في الإسلام، وعن حقوق الحاكم وواجباته، وحقوق الناس وواجباتهم، والحال أن الكتابات حول هذا الحقل قليلة نسبياً.

ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن الحكومات التي سمّيت بالإسلامية ـ في الفترات الماضية وفي الأحقاب والعقود المنصرمة ـ كانت حكومات مستبدة عادة، تصادر الحريات، ولم تكن تسمح للعلماء بأن يكتبوا في هذا الحقل الحيوي الهام؛ لأنها طبيعياً أرادت أن تسيير الأمور وفق سياستهم.

ومع ذلك فقد كتب العديد في هذا العنوان، بدءاً من سادة البشرية حيث إن أمير المؤمنين (عليه الصلاة وأزكى السلام) مثلاً له عهد كتبه لمالك الأشتر لما ولاه على مصر وتوابعها، ورسائل وكتب أخرى كثيرة مذكورة في نهج البلاغة وغيره، تتحدث عن جانب أو آخر عن علاقة الحاكم بالمحكوم، أو حقوقهما، أو شروط ومواصفات الحاكم، أو غير ذلك.

الإمام السجاد (عليه الصلاة وأزكى السلام) له رسالة الحقوق، وهناك المئات بل الألوف من الروايات، التي وردت عن الرسول الأعظم، وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، وعن الإمام الحسن المجتبى، والإمام الحسين الشهيد بكربلاء، وهكذا بقية الأئمة الأطهار (صلوات الله عليهم أجمعين)، في مختلف تلك الجوانب والحقول، ثم العلماء الأبرار الذين كتبوا في هذا الحقل أيضاً.

لكن الكتابات كانت قليلة؛ لأن الذي تجرأ وتحدّى قد قتل، كما قتل المعصومون (عليهم السلام) أو سُمّوا جميعهم، باستثناء الإمام المهدي الغائب المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف).

ولكن يبقى على الإنسان أن يستدرك؛ لأن الحريات متيسرة إلى حد ما في عالم هذا اليوم، فعلينا أن نتدارك ما مضى، وأن يهتم حملة الأقلام من رجال دين، من جامعيين، ومن علماء، بالكتابة حول هذا الحقل الحيوي المهم.

وإن مقارنة سريعة بين الأمراض الجسدية ومرض الاستبداد، يوضح لنا أهمية ذلك وضرورته، فإن هناك الكثير من الكتب الطبية المؤلفة والمصنفة حول الأمراض الجسدية. أما مرض الدولة المستبدة، فلأنه مرض عام شامل مستشرٍ في بدن الأمة كله، لذلك يحتاج إلى كتابات أكثر وأكثر وأكثر.

السؤال: وسائل مواجهة الطغاة وأسلحتهم

إنّه على مر التاريخ واجه الطغاة أحرارَ شعوبهم العزل بالحديد والنار، واليوم تعددت أسلحة الطغاة لقمع الشعوب، وها هي دماء الأحرار تراق في الشوارع و الساحات، فلماذا لا ينبغي مواجهة الطغاة بالسلاح وبالمقاومة المسلحة؟.

الجواب:

إن هذا السؤال مهم جداً، ويحتاج إلى فسحة أطول للتفصيل فيه، وهو لماذا لا نواجه الطغاة والمستبدين بالعنف وبالسلاح، كما واجهونا ويواجهوننا، بالعنف والسلاح والإرهاب والسجون والتعذيب وما أشبه ذلك؟.

ونحن نقول:

1-كل إناء بالذي فيه ينضح

أولاً، إن كل إناء بالذي فيه ينضح، فالإنسان المؤمن تترشح على جوانبه الأخلاق الفاضلة، وعلى جوارحه تترشح وتنضح تلك الأخلاق وتتجلى، وفي المقابل الإنسان الفاسق تتبع أعضاؤه قلبه، بمعنى أن الجوارح تتبع الجوانح.

ويقول الإمام (عليه السلام)، في الإجابة عن نظير هذا السؤال حيث سُئل، فأجاب (عليه الصلاة وأزكى السلام):

ملكنا فكان العفو منا سجية

ولما فلما ملكتم[13] سال بالدم أبطح

وحللتم قتل الأسارى وطالما

غدونا على الأسرى نعفّ ونصفح

فحسبكم هذا التفاوت بيننا

وكل إناء بالذي فيه ينضح[14]

إذن هذا هو مقتضى طبيعة المؤمن، الرحمة والعطف والأخلاق الفاضلة، وطبيعة الإنسان الفاسق، هي طبيعة الطغيان والعدوان والإيذاء والتعدي وهتك الحرمات.

2- السلم هو الأصل

وثانياً: إن الأصل الأصيل في الحركات النهضوية، هو أن تكون سلمية، الأصل هو السلم، وقد قال الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً][15] هذا هو الأصل، والأصل أصيل لا يخرج عنه إلا بدليل.

3-السلم ضمانة الانتصار

ثالثاً: إن هذا الأصل الذي لا كلام في كونه أصلاً، يعدّ الضمانة الحقيقية، لانتصار الشعوب على الحكومات المستبدة؛ لأنه إذا كانت الحركة سلمية بقول مطلق، وتكاتف الناس جميعاً في مظاهرات وإضرابات سلمية، فالطاغي ما الذي بمقدوره أن يفعل؟ وكم شخصاً سيقتل؟.

يمكنه أن يقتل واحداً، اثنين وثلاثة، ولكن سلاح الروح دائماً أقوى من سلاح المادة، والعالم كله سيقف ولو بالتدريج إلى جوار الشعب، فالشعب لو تشبث وتمسك بالسلم كأصل أصيل، سيحقق تطلعاته وأهدافه في نيل حقوقه.

نعم، هذا الطريق أطول إلا أنه أسلم؛ لأن طريق السلم ينتج حكومة سلمية استشارية أو ديمقراطية، أما طريق العنف فإنه ينتج عادة حكومات عنيفة مستبدة، وتاريخ الثورات العنيفة والانقلابات العسكرية خير شاهد على ذلك.

وبرهان ذلك من الزمن المعاصر، الزعيم الهندي المهاتما غاندي في حركة السياتراغا، فعلى الرغم من أن الاستعمار البريطاني في استعماره للهند الذي استمر حوالي ثلاثمائة سنة، كان يمارس أنواع الظلم والعدوان، ولكن هؤلاء الناس تمسكوا بالسلم إلى أبعد الحدود، وانتصروا إثر ذلك طبيعياً، إلى درجة أنّ "نهرو" ينقل عن زعيمه "غاندي": إنه كان قد أوصانا عندما كنا نخرج في مظاهرات ـ وكانت بالملايين والشرطة بالألوف، إذ الشعب الهندي كبير عريض مترامي الأطراف ـ أن لا نواجه الشرطة التي كانت تضرب الجماهير بالهراوات والعصي وغيرها، على الرغم من أن الضرب كان مبرحاً، وقد يجرح الإنسان ويدميه، وكنا نحن أكثر منهم، ونتمكن من الرد عليهم، لكن غاندي كان قد أوصانا أن تحملوا، وإذا صعب عليكم التحمل، فاشبكوا أياديكم خلف ظهوركم بقوة، حتى لا تنفلت أياديكم، وترد الضربة بالضربة.

وهذا هو جوهر حكمة السيد المسيح (على نبينا وآله وعليه السلام) حيث يقول: (إذا صفعك رجل أو ضربك على خدك الأيمن، فأدر له خدك الأيسر)[16].

ولا يعني هذا القول أن يتنازل المرء عن حقه، إذ مقتضى الجمع بينه وبين سائر الكلمات، هو (أن يطالب المرء بحقوقه بالسلم)، والحاصل: قل لمن ضربك بهدوء ولكن بقوة وثبات: إنني لا أزال مصراً على مطالبتي بحقي وحقوقي، فإن شئت أن تضربني مرة ثانية فافعل!

إن العقل يدرك: إن الشعب دائماً تكون قدرته أكثر من حيث المجموع من قدرة الدولة؛ وذلك لأنها محدودة القدرات، فعلى فرض أنها تشكّل ألفاً، من الحكام والمسئولين وأتباعهم وأذنابهم، أو عشرة آلاف، أو مئة ألف، لكن الشعب يشكّل مئة مليون، أو خمسين مليون، أو أقل أو أكثر، فلمن الغلبة والانتصار إذن؟.

فالأصل الأصيل هو التشبث بالسلم، بالحركة السلمية، بالمظاهرات السلمية، بالاعتصام السلمي، والعصيان المدني السلمي، وهذه ستنتصر بإذن الله تعالى، و[العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ][17].

* الفصل الرابع من كتاب ملامح العلاقة بين الشعب والدولة
http://m-alshirazi.com
http://annabaa.org/arabic/author/10

..........................................
[1] سورة الإسراء: 23.
[2] والعوام جمع عامي، والعامي هو الشخص من عامة الناس، وفي مقابل خاصة الناس، والحال أنه لا فرق في القضاء وفي عامة التشريعات والقوانين بين الناس، عامتهم وخاصتهم.
[3] وهي قوله تعالى: [وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالعَدْلِ]، فإن المستشار والمحامي ليس حاكماً لكن وجوب العدل لا ينحصر بالحاكم فقط، بل يشمل المستشار والمحامي أيضاً، وكما يجب الحكم بالعدل ويحرم الظلم، كذلك يحرم الظلم بالمحاماة والظلم بالمشورة.
[4] الدول الاستبدادية تدعي هذه الحقوق لأنفسها سراً وجهراً، أما الدول الديمقراطية فهي تسعى ليكون لها النصيب الأكثر منها، ولو لم تكن عليها رقابة الناس، وضغط مؤسسات المجتمع المدني، لكانوا كالدول الاستبدادية تماماً.
[5] سورة الرَّحمن: 10-11.
[6] سورة البقرة: 29.
[7] ولعله لا يوجد في العالم كله برلمان حقيقي بمعنى الكلمة.
[8] يراجع كتاب الفقه السياسة، والحريات، والدولة الإسلامية، والحرية
[9] سورة الأعراف: 157.
[10] الكافي: ج5 ص279 باب في إحياء أرض الموات ح2.
[11] الحكومات تعتبر (طفلاً كبيراً)؛ لأن غالب ـ بل كل الحكام المستبدين ـ لم يصلوا إلى مرحلة الرشد العقلي والنضج الفكري، وإلا لما سحقوا حقوق شعوبهم تحت الأقدام. ثم إن غالب الحكام المستبدين ليسوا (كفاءات حق)، بل يوجد في الكفاءات من لا يصلحون حتى تلامذة عنده! ومع ذلك يستكبرون على الجميع!
[12] نهج البلاغة، قصار الحكم: رقم 241.
[13] بنو أمية وبنو العباس وتاريخ الثورات العنيفة والانقلابات العسكرية خير شاهد على ذلك.
[14] وفيات الأعيان: ج2 ص365 ترجمة حيص بيص رقم 258.
[15] سورة البقرة: 208.
[16] تفسير ابن كثير: ج2 ص89.
[17] سورة هود: 49.

اضف تعليق