ولا يخلو نهج الصين الأكثر استراتيجية من نقاط ضعف، وخاصة في ما يتصل بالذكاء الاصطناعي. ففي حين ينطوي المخزون الهائل من البيانات في الصين على ميزة كبيرة في تطبيقات التعلم الآلي، فإن التقدم الذي حققته في هذا المجال سوف يُـحـبَـط في غياب قوة معالجة متزايدة على نحو مستمر.
بقلم: ستيفن روش

نيوهافين ــ كانت التكنولوجيا نقطة انفجار الصراع بين الولايات المتحدة والصين. من منظور المهيمن الأميركي، يتعلق الأمر بصدارة القوة الجيوستراتيجية ووسائل الرخاء المستدام. ومن منظور الصين، تمثل التكنولوجيا المفتاح إلى الإبداع المحلي اللازم لتمكين قوة صاعدة. هذه الحرب التكنولوجية التي تدور رحاها الآن بين القوتين العظميين قد تكون الصراع الذي سيحدد هيئة القرن الحادي والعشرين.

تحولت شركة التكنولوجيا الصينية الوطنية العملاقة هواوي بسرعة إلى الشرارة التي أشعلت الصراع التكنولوجي بين القوة القائمة وتلك التي تسعى إلى التفوق عليها. خوفا من كونها التهديد التام للبنية الأساسية للاتصالات في الولايات المتحدة، اعتُـبِـرَت شركة هواوي حصان طروادة العصر الحديث، في ظل تهديد البوابة الخلفية المحتمل المتمثل في منصتها للجيل الخامس من الاتصالات (5G) العالمية المستوى والتي من شأنها أن تجعل هيلين الأسطورية تتبسم. بدعم من أدلة ظرفية واهية ــ بعض الاتهامات بالتجسس التي لا علاقة لها بالباب الخلفي المشتبه به، وافتراض الدوافع الشائنة التي ترجع إلى تاريخ خدمة مؤسس الشركة العسكرية رين تشنج فاي في الماضي ــ كانت قضية أميركا ضد هواوي مبنية على روايات زائفة.

تتمثل القضية الحقيقية محل النزاع في مفهوم الدمج التكنولوجي الغامض ــ على وجه التحديد، الاستخدام المزدوج للتكنولوجيات المتقدمة لأغراض عسكرية وأخرى مدنية تجارية. الواقع أن السلطات الأميركية مقتنعة بأن مثل هذا التمييز لا وجود له في الصين. وهي ترى أن دولة الصين، وبالتالي مؤسستها العسكرية، تمتلك في النهاية كل شيء يقع ضمن اختصاص قطاع التكنولوجيا، من الأجهزة والبرمجيات إلى البيانات الضخمة ومراقبة الأجهزة والبرمجيات في الداخل والخارج. هذا هو أيضا جوهر الاحتجاجات المتنامية بشأن منصة التواصل الاجتماعي TikTok، التي يستخدمها أكثر من 80 مليون شخص شهريا في الولايات المتحدة.

ناهيك عن أن الولايات المتحدة مارست لفترة طويلة نسختها الخاصة من الدمج. على مدار السنين، أنتجت هيئة مشاريع الأبحاث الدفاعية المتقدمة العديد من أكثر التطورات التكنولوجية أهمية في أميركا والتي أمكن تطبيقها تجاريا على نطاق واسع. ويشمل هذا شبكة الإنترنت، ونظام تحديد المواقع العالمي، واختراقات أشباه الموصلات، والطاقة النووية، وتكنولوجيا التصوير، والعديد من الابتكارات الصيدلانية، وخاصة تطوير لقاح مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد-19). ويبدو أن ما يناسب ديمقراطية (مكروبة) مثل أميركا غير مقبول لنظام يحكمه الحزب الشيوعي الصيني.

كان تهديد هواوي قمة جبل الجليد في صراع أميركا التكنولوجي مع الصين. فقد توسعت ما تسمى قائمة الكيانات التي تستخدمها وزارة التجارة الأميركية لإدراج الشركات الأجنبية في القائمة السوداء لأغراض الأمن القومي لتشمل سلسلة توريد هواوي، بالإضافة إلى عدد من شركات التكنولوجيا الصينية العاملة في مجال المراقبة المحلية للأقليات العِـرقية في شينجيانج.

من ناحية أخرى، مع إقرار قانون الرقائق الإلكترونية والعلوم لعام 2022 مؤخرا، سرقت الولايات المتحدة صفحة من كتاب قواعد لعبة السياسة الصناعية في الصين وتبنت تدخل الدولة لدعم الإبداع التكنولوجي. وفي أكتوبر/تشرين الأول الماضي، حدث تطور أكبر كثيرا: فقد فرضت إدارة بايدن قيودا صارمة على الصادرات من رقائق أشباه الموصلات المتقدمة، بهدف خنق الجهود الصينية الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية.

لكن سياسات أميركا الصارمة قد تكون هادمة للغرض منها، لأن حربها التكنولوجية مع الصين غنية بالتكتيكات لكنها تفتقر إلى الاستراتيجية. كانت الولايات المتحدة سريعة في استيعاب قوة "الشبكة المسلحة" ــ الخانق الذي يمكن أن تضعه على العُـقَـد الحاسمة في الاتصالية عبر الحدود. كان هذا النهج، بالاقتران مع مبدأ "دعم الأصدقاء" في إقامة التحالفات، المفتاح إلى العقوبات المالية الصارمة المفروضة على روسيا في الرد على غزوها لأوكرانيا. ولكن من المثير للجدال رغم ذلك أن هذا النهج سيكون فَـعّـالا في السيطرة على اتحادات البحوث المعقدة المتعددة الجنسيات وسلاسل التوريد المادية للتكنولوجيات الحديثة.

الأمر الأكثر أهمية هو أن الضغط على الخصوم لا يعوض عن نقص التدابير الواجبة في الداخل. هذه هي الحال بشكل خاص في ما يتصل بأميركا، نظرا لقيادتها التكنولوجية الهشة بدرجة مدهشة. على الرغم من استجابة الولايات المتحدة القوية للتهديدات التكنولوجية التي فرضها الاتحاد السوفيتي السابق أثناء الحرب الباردة ــ وخاصة سباق التسلح النووي وتحدي الفضاء الذي استحثه مشروع سبوتنك ــ فقد تخلت عن ريادتها منذ ذلك الحين: حيث انخفض تمويل البحث والتطوير الفيدرالي إلى 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، وهذا أقل كثيرا من الذروة التي بلغت 1.9% في عام 1964.

علاوة على ذلك، كانت استثمارات الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة منقوصة بشكل واضح في البحوث الأساسية، أو العلوم المحضة التي تشكل البذرة الأساسية للإبداع. في عام 2020، تراجعت الأبحاث الأساسية إلى 15.6% من إجمالي الإنفاق على البحث والتطوير، وهذا أقل كثيرا من ذروتها التي بلغت 18.8% في عام 2010. ولا تقدم الجهود الأخيرة الكثير لتغيير هذا الوضع؛ على سبيل المثال، تم تخصيص 21% فقط من التمويل في إطار قانون الرقائق الإلكترونية لمشاريع البحث والتطوير.

ليس من المستغرب أن تنطلق الصين إلى الأمام. ففي مطلع هذا القرن، كانت الصين تنفق 0.9% فقط من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير، أو ما يقرب من ثلث الحصة في المملكة المتحدة التي كانت 2.6% آنذاك. بحلول عام 2019 (آخر عام للأرقام المقارنة)، كانت الصين تنفق 2.2% من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير، أو 71% من حصة أميركا التي بلغت 3.1%. كانت الولايات المتحدة متأخرة أيضا في الكفاءة التعليمية التي تركز على العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات، في حين تنتج الصين الآن عددا أكبر كثيرا من درجات الدكتوراه في هذه المجالات الأربعة مقارنة بالولايات المتحدة.

جزئيا، يرجع نقص الأسس الحاسمة لقيادة أميركا التكنولوجية ــ سواء في مجال البحث والتطوير أو رأس المال البشري ــ إلى ذات النقص في الادخار المحلي الذي أفضى إلى عجز تجاري مزمن في الولايات المتحدة. ومن الواضح أن ولع أميركا بإلقاء اللوم على الصين عن مشكلات من صنعها هو مجرد ذريعة، وليس استراتيجية.

ولا يخلو نهج الصين الأكثر استراتيجية من نقاط ضعف، وخاصة في ما يتصل بالذكاء الاصطناعي. ففي حين ينطوي المخزون الهائل من البيانات في الصين على ميزة كبيرة في تطبيقات التعلم الآلي، فإن التقدم الذي حققته في هذا المجال سوف يُـحـبَـط في غياب قوة معالجة متزايدة على نحو مستمر. يستهدف الهجوم التكتيكي الأميركي على الرقائق الإلكترونية المتقدمة التي تغذي قوة معالجة الذكاء الاصطناعي على وجه التحديد هذه الحلقة الضعيفة في سلسلة الإبداع الصيني. وتدرك الصين هذه الحقيقة، وبوسعنا أن نعتمد على حرصها على الرد على هذا الهجوم بطريقة أو بأخرى.

في القرن الخامس قبل الميلاد، قدم الفيلسوف العسكري الصيني القديم صن تزو مشورة مفادها أن "التكتيكات في غياب الاستراتيجية ليست سوى الضجيج الذي يسبق الهزيمة". بعد مرور ما يقرب من 2500 عام، تبدو هذه النصيحة وثيقة الصلة بالحال اليوم. تواصل الصين اليوم خوض مباراة طويلة الأمد، في حين يدور الهجوم التكتيكي الأميركي على التكنولوجيا الصينية حول مباراة قصيرة الأمد. لقد أصبحت الولايات المتحدة حبيسة نظام سياسي لا يولي أهمية كبيرة للاستراتيجية، وعلى هذا فليس هناك ما يضمن أن تكون الـغَـلَـبة لها في صراع تكنولوجي وجودي مع الصين.

* ستيفن س. روش، عضو هيئة التدريس بجامعة ييل والرئيس السابق لمورغان ستانلي آسيا، ومؤلف كتاب "غير متوازن: الاعتماد على أمريكا والصين"، والصراع العرضي القادم: أمريكا والصين وصراع الروايات الكاذبة
https://www.project-syndicate.org

اضف تعليق