ماذا بعد التصعيد الأخير من قبل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتوقيعه قرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وإعترافه بإسرائيل دولة قائمة على حساب الدولة الفلسطينية؟، ففي ضوء سياسة المحاور الإقليمية المتنامية في منطقة الشرق الأوسط، المتمثلة بالأزمة الخليجية وحرب اليمن والأزمة في لبنان وتداعيات إعتقال الأمراء في السعودية، وتعقيدات الوضع في سوريا والتصعيد الأمريكي ضد إيران، يتضح أن هناك رغبة جديدة في عكس هذه المتغيرات الإقليمية من خلال محاولة إعادة تدويل القضية الفلسطينية للتغطية على هذه المتغيرات.

إذ لا تريد دول الخليج وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية أن تجني إيران الفوائد الكاملة لإنتصار دول التحالف الروسي الإيراني في سوريا على تنظيم داعش، ويتجلى الهدف باعادة التوازن في ميزان القوى مع طهران في سوريا والعراق واليمن ولبنان، فالمكان الوحيد الذي سيسهل عليهم العملية هو القدس رغم كل الصعاب والمخاطر والتداعيات التي ستنتج عن ذلك.

وفي خضم هذه الصراعات والحروب الكارثية الدائرة في منطقة الشرق الأوسط، يمثل إقدام ترامب نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس إستفزازاً للفلسطينيين والمتضامنين مع قضيتهم، وخطراً على أمريكا والمؤيدين لهذه الخطوة غير المسبوقة، ولا يكمن تصور شيء أكثر تعقيدا لإستقرار النظام الإقليمي في المنطقة من إقدام ترامب على ذلك.

وفي ضوء ما تقدم، فإن عملية السلام وحل الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي، قد تخلت عنها الولايات المتحدة وقبلهم الإسرائيليون، وإذا كان بعض الساسة والحكام لا يزالون يتحدثون عن عملية السلام فهم سيبقون في عالم الأحلام، أو أنها ستظل موجودة في مخيلاتهم فقط، وهذه الحقيقة القطعية التي تقول أن السلام في منطقة الشرق الأوسط قد أجهز عليه، كانت هي السبب الذي حدا بالفلسطينيين وبكثير من قادة وزعماء العالم والإتحاد الأوروبي، إلى إنتقاد وشجب قرار ترامب، إذ يجازف ترامب بإندلاع صراع عرقي وأثني في الأراضي المحتلة، لأنه يخبر العرب مسلمين ومسيحيين في كل دول العالم: "إن ثاني أقدس عاصمة لهم باتت لليهود وحدهم ولا مكان لهم فيها".

فأول تداعيات نقل السفارة الأمريكية للقدس والإعتراف بإسرائيل: قيام إنتفاضة فلسطينية ثالثة، إذ يعد الإعتراف - في نظر الفلسطينيين- بالسيادة الإسرائيلية على القدس بمثابة إعلان رسمي لشهادة وفاة إتفاق أوسلو الذي ينص على إنشاء دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، كذلك من المرحج جدا دخول حزب الله على الخط، وهي فرصة مناسبة لأمريكا وإسرائيل لإضعافه والتدخل في لبنان، ونتساءل هنا: ألا تكفي الحروب الدائرة في الشرق الأوسط ليفتح ترامب حربا جديدة بلا مبرر؟، هذا القرار الأمريكي قد يغرق المنطقة بأكملها في بحر من الدماء والإستياء.

وكذلك من مغبة تداعيات نقل السفارة وقبول أمريكا بالقدس عاصمة لإسرائيل، إن ذلك القرار سيؤثر على العلاقات المتوترة بالفعل بين أمريكا ودول الإتحاد الأوروبي، وسيقوض العلاقات الأمريكية مع كندا الرافضة للإحتلال الإسرائيلي كما هو معروف، فلن تقتفي أوروبا وكندا، بالتأكيد أثر أمريكا في تأييد هذا القرار، إذا لا يمكن أن نتصور قيام دول الإتحاد الأوروبي التي لازالت تؤمن بعملية السلام بنقل سفاراتها إلى القدس، صحيح أن هنالك قنصليات أوروبية في القدس، ولكنها موجودة في القدس الشرقية والضفة الغربية وليس إسرائيل وهذا فرق كبير.

قرار ترامب سيزيد من تعقيد الأمور مع دول الإتحاد الأوروبي الذي يعني أنه قد يعزل أمريكا عن العالم الغربي الرافض لهذا القرار.

كذلك من تداعيات هذا القرار إطلاق العنان لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة لتوسيع الإستيطان وتهويد القدس بالكامل عمليا على حساب الأراضي العربية بما يفاقم الغضب الفلسطيني ويسهم في بث الروح لإنطلاق الانتفاضة، لأن الإستمرار بسرقة الأراضي من مالكيها الأصليين بهذه الطريقة سيسلب الفلسطينيين حتى مجرد الأمل في إقامة عاصمة لهم في القدس الشرقية.

لا أحد قادر على منع ترامب من القيام بما قام به لا في البيت الأبيض ولا من حلفاءه الأوروبيين. وأراد ترامب أن يقول: "إن الأمر الذي قمت به لا يقتصر على نقل السفارة في حد ذاته خطوة رمزية، وإنما يعني أن الولايات المتحدة تقر وتعترف بأن القدس، المدينة المقدسة لدى المسلمين والمسيحيين واليهود، ستكون عاصمة لإسرائيل، ولا يستطيع الفلسطينيون أن يستعيدوها أو يتقاسموها".

لكن من المرتقب جدا أن يسعى مجلس الأمن بالضغط على ترامب لتأجيل العمل الفعلي لنقل السفارة، كما فعل حينما أعلن إنتهاء التزام أمريكا بالإتفاق النووي مع إيران لكنه وضع إعلانه وقف التنفيذ، لإحتواء كل هذه التداعيات.

من المرجح أن يتراجع ترامب حاليا لأنه يشعر بالضغط الشديد، لأنه حينما أعلن هذا القرار كان للإستفادة منه على المستوى الداخلي للولايات المتحدة للتغطية على قضايا داخلية تلاحقه من قبل الأمريكيين أنفسهم تتمثل بقضايا التدخل الروسي في الإنتخابات الأمريكية التي أوصلته للبيت الأبيض.

أخيرا نقول: "إن جرأة ترامب على عدم التوقيع على قرار تأجيل نقل السفارة، الذي يجدد كل ستة أشهر بموجب القانون الأمريكي المتخذ عام ١٩٩٥، إنما كان منطلقا من تراجع الشعور القومي العربي بالقضية الفلسطينية لصالح الشعور الطائفي والمذهبي، كذلك ضعف الأنظمة العربية الحاكمة ورغبة معظمها التطبيع مع إسرائيل، وأن ما نسمعه من رفض وشجب من هذه الأنظمة لا يمكن أن نضعه إلا في خانة لغة الشعارات والأدلجة الفارغة، تؤكد عجز منظومة العمل العربي إتخاذ مواقف فعلية لنصرة القضية الفلسطينية (بإستثناءات محدودة) عدا الهتاف والتصريحات بمنطق لغة الشعارات.

* مركز المستقبل للدراسات الستراتيجية/2001–2017Ⓒ
http://mcsr.net

اضف تعليق